الروائي مصطفى لغتيري يقول إن شهر رمضان “يكسر رتابة التدفق الزمني، من خلال تغيير مواعيد حيوية في حياتهم (الناس)، فتنقلب نتيجة لذلك رأسا على عقب، تتغير عاداتهم، ومواعيدهم، ويصبح للإيقاع الزمني وقع مختلف، يؤثر على الناس نفسيا وبيولوجيا”.

ثمة تأثير استثنائي يمارسه شهر رمضان من كل سنة على الكتاب العرب، ينسجون معه دوما علاقة روحية قوية قوامها الإبداع وأساسها الابتكار؛ لأن الجسد في لحظات التشظي، يكون مفعما بالطاقة والصفاء، ما يجعله أكثر تحررا من ماديات الحياة اليومية الرتيبة وعلى استعداد دائم للإبداع والتأمل.

وفي الوقت الذي يعتبر فيه بعض الكتاب العرب أن شهر رمضان يمثل بالنسبة لهم شهر راحة وقراءة وسفر في المتون التراثية للفكر الإسلامي في الحقب التاريخية المتعددة، تكون بعض التجارب من جهة أخرى على استعداد للكتابة الجادة، من خلال تأليف كتب في الفكر والتاريخ والأدب والفن، بحكم ما يمنحه هذا الشهر من طقوس التأمل والسكينة والتفرغ، ما يجعل المرء ينسج مع ذاته تواصلا روحيا، ينأى بنفسه عن زعيق الفضاءات العامة وينغمس في روحه، باحثا عن ذاته المفقودة والمنفلتة من قبضة الحياة اليومية في رتابتها.

 

شهر يدور مع القمر

في حديثها للجزيرة نت تقول الشاعرة السورية ميس الريم قرفول إن كل سنة “يدور رمضان بطريقته ليتحول إلى فصل جديد فوق الفصول، إنه لا مطر ولا ورد ولا أوراق تتساقط مع كل هبّة ريح، بل شهر يدور مع القمر، مرات يلتف بالغيمة الباردة ليصير حنونا على حلق الصائمين، ومرات يصير شديدا ممسكا بقسوة بشمس تبث نورها وعطشها ليصير الحلم بسيطا على شكل كأس ماء”.

وفي نظرها “يتغير رمضان وإحساسي به في كل سنة، لكنه مثل طفل صغير كبر معنا بما يحمله من روائح وذكريات وانعقاد لأواصر اجتماعية كانت تكتسي أحلى ما فيها في سوريا، سواء اخترنا الانتماء أو لا. لا نستطيع إنكار جماليات بعض التقاليد، وذلك بسبب صلابتها وتمريرها بشكل غير واع لقيم الجماعة، وأعتقد أن شهر رمضان يشكل أحد تلك الدروب”.

طقوس الكتابة لا تتغير

وتضيف صاحبة “حين ساعدنا الحرب لتعبر” أنه على الرغم من “تحوله منذ أواخر القرن الماضي إلى شهر استهلاك للدراما والطعام، ورغم تحوله مؤخرا إلى ثغرة توضح العطب الاقتصادي الكبير للأزمة في سوريا، لكنه دوّار، وذاكرته متصلة بمستقبله، بينما نحن بأزماتنا ماضون، فلنحافظ على الأقل على تلك الذاكرة، بين أول خيط من الضوء، حتى آخره”.

غلاف حين ساعدنا الحرب لتعبر
“حين ساعدنا الحرب لتعبر” باكورة إنتاج الشاعرة السورية ميس الريم (الجزيرة)
 

وعلى هذا الأساس، لا تتغير طقوس الكتابة بالنسبة لها، لأنها “فرصة للتأمل والتوقف، وفرصة لتعريف مدة من الزمن بطقس واسم وتدريب جسدي. أتمنى أن تتواصل ثقافة التعامل مع الجسد لفترة ما بعد الإفطار، للفترات خارج رمضان، أقصد شهر رمضان وفكرة الصيام هي نمط حياة ربما يجب التعامل معه بروحانية أكثر مما هو عليه حاليا، حتى يصير مثل حبة تمر تتذكر صفاء طعمها داخل روحك فتشعر بالإيمان، من مكان ما خفي”.

رمضان اجتماعيا

أما الروائي مصطفى لغتيري، الذي تعود قضاء شهر رمضان في المغرب، فإنه حريص على اعتبار أن هذا الشهر “يكتسي أهمية خاصة في حياة المسلمين عموما، فبالإضافة إلى الطابع الروحي الذي يهيمن على حياة الناس باختلاف انتماءاتهم الاجتماعية في أثناء رمضان، مما يجعلهم يميلون إلى إحياء الممارسات الدينية التي ترتبط بهذا الشهر تحديدا، فإنه كذلك يكسر رتابة التدفق الزمني، من خلال تغيير مواعيد حيوية في حياتهم، فتنقلب نتيجة لذلك رأسا على عقب، تتغير عاداتهم، ومواعيدهم، ويصبح للإيقاع الزمني وقع مختلف، يؤثر على الناس نفسيا وبيولوجيا”.

وردا على سؤال حول التأثير الذي يمارسه رمضان على جسدك ككاتب، يرى لغتيري أنه من “الطبيعي جدا أن يؤثر هذا الشهر على المبدعين كذلك باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من مكونات المجتمع، يسري عليهم ما يسري على جميع فئاته، ويجد هذا التأثير مبرره في الانقلاب الذي يعرفه مسار يومياتهم، خاصة إذا علمنا أن أكثر الكتاب تستهويهم المقاهي لممارسة فعل القراءة والكتابة، بيد أنها تغلق أبوابها في نهارات شهر رمضان، لتعوضها بالليالي، التي غالبا ما تصبح خلالها مكتظة بالرواد، ولا تتيح بذلك للمبدعين فرصة للقراءة أو الكتابة”.

قراءة كتب التراث العربي القديم

هكذا يكون الكتاب في نظر صاحب “عائشة القديسة” مضطرين بدورهم إلى “اجتراح طقوس مختلفة، لعلها تسعفهم في تحبير بعض الكلمات، أو يخلدون للراحة والكسل في انتظار العودة إلى الحياة العادية بمواعيدها المعروفة”.

 

كل هذا في مقابل السحر الذي تمارس الكتب التراثية على ذائقة لغتيري خلال شهر رمضان، يقول “شخصيا تستهويني في هذا الشهر قراءة الكتب التراثية. وغالبا ما أعيد قراءة كتب بعينها، منها “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، او أنغمس في قراءة كتاب لسان العرب لابن منظور، مستمتعا بالتوليد اللغوي للكلمات واشتقاقاتها ومعانيها المتعددة، وبالنصوص التي تحيل عليها كشواهد. هذا الامر يستغرقني كثيرا فيمر الزمن سريعا، وكأنه تيار مائي يجري في واد منحوت الجوانب يساعد على تدفقه”.

رواية عائشة القديسة
رواية “عائشة القديسة” توظف الأسطورة للتعبير عن التناقض في المجتمع (الجزيرة)

قريبا من القراءة، بعيدا عن الكتابة

لكن عشق لغتيري لا يتوقف عند هذا الحد، فهو يفضل أن يمزج كتب التراث الأدبي العربي بالمختارات الشعرية، التي يحتفظ “بها في مكان خاص، تجمع بين دفتيها عيون الشعر العربي قديمه وحديثه، أقرأها بنهم، وأكرر قراءتها بمتعة لا تضاهى”.

أما عن سؤال الكتابة، فيرى أنه “نادرا جدا ما أقوى عليها، لأنها تتمنع علي، مطالبة بطقوسها المعتادة، والتي لا تبغي عنها بديلا. لذا أكتب فقط بعض المقالات الخفيفة، التي لا تتطلب كثيرا من التركيز، او لتسجيل بعض رؤوس الأقلام التي أعود لها لاحقا حين تتوفر لدي ظروف مناسبة، لكن عموما لا يمكنني التركيز على كتابة عمل سردي طويل”.

 

ويختم لغتيري حديثه للجزيرة نت قائلا “كما أستغل فرصة الصيام لإنقاص بعض الوزن، فأنهمك في ممارسة المشي لمسافة طويلة، قد تستغرق ساعات، تكون فائدتها مؤكدة، تعود على النفس والجسد بمنافع لا ريب فيها. ثم فرصة لمشاهدة بعض الأفلام التي كنت أؤجل رؤيتها بسبب ضيق الوقت والانشغال بالقراءة والكتاب والالتزام بأوقات العمل التي تستهلك وقت الإنسان وحياته دون أن يشعر بذلك”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *