الأيام القليلة الماضية، أحيت الشعوب الشركسية ذكرى يوم 21 مايو/أيار 1864 تخليدًا لضحايا المجازر وحرب الإبادة الجماعية التي مرت بها، ومن جانبها أحيت أوكرانيا الذكرى الـ 78 لأحداث 18 مايو/أيار 1944 وتهجير شعب تتار القرم من موطنه الأصلي بالقرم (جنوب أوكرانيا الحالية) بقرار من الاتحاد السوفياتي السابق.

وإذ تتشابه مأساة الشعبين التتري والشركسي التاريخية التي شملت فجائع التهجير والمصادرة والقتل، رغم الفارق الزمني بينهما، بدت الآداب الشركسية والتتارية متباينة في تصوير وقائع التهجير ثم الحنين إلى الوطن.

 

تتار القرم

ربيع 1944 قام الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين بترحيل جماعي لتتار القرم، وهم مجموعة عرقية تركية من السكان الأصليين لشبه الجزيرة الواقعة جنوب أوكرانيا الحالية، مما أودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا. وقد كسرت قصائد شعرية حزينة الصمت الهائل على تلك المأساة التي أحيطت بالسرية زمن “الستار الحديدي” والحرب العالمية الثانية.

واليوم، يعد فهم تتار القرم مفتاحًا لفهم أوكرانيا المعاصرة وهويتها الوطنية المدنية النابضة بالحياة، بحسب تقرير لمجلة “ذا أتلانتك” (the atlantic) الأميركية.

 

يقول الكاتب الأوكراني سيرهي زهادان ذات مرة “طريقنا مع تتار القرم ضيق وطويل لأنهم أبناء وطننا” وعلى مدى عقود، كان هذا الشعب المسلم الصغير يساعد في تشكيل إحساس أوكرانيا بالذات ودفع نقاش ديناميكي حول الفكرة القديمة عن أوكرانيا كدولة متعددة الأعراق ومتعددة الطوائف واللغات.

في واحدة من خطبه، تلا زهادان قصائد أوكرانية تحفل بالإشارة لشعب التتار مقارنا بين مأساته و”التهديد الوجودي العميق الذي يواجه أوكرانيا كلها اليوم” وقال:

“كيف بنينا بيوتنا؟/عندما تقف تحت سماء الشتاء/والسماء تدور وتطفو../أنت تدرك أنك بحاجة إلى العيش حيث لا تخاف من الموت”.

وتابع في قصيدته “بناء الجدران من القصب والعشب/حفر حفر وخنادق الذئب/تعتاد على العيش مع الجيران يومًا بعد يوم/وطنك حيث يفهمونك عندما تتحدث في نومك”.

 

وفي تسليط الضوء على هذه النصوص الرائعة ووضعها في سياقها بين التمثيلات الروسية والتركية والأوكرانية لشبه جزيرة القرم منذ عام 1783، قدم روري فينين الأستاذ المشارك في الدراسات الأوكرانية بجامعة “كامبردج” تاريخًا ثقافيًّا مبتكرًا لمنطقة البحر الأسود، كاشفا كيف عزز “شعراء التضامن” التعاطف ودعم الشعب المضطهد المهجّر، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

يلقي كتاب فينين الضوء على القصائد السرية والنصوص الأخرى المكتوبة سواء بلغة تتار القرم الأصلية أو الروسية والتركية والأوكرانية، التي كسرت الصمت وساعدت تدريجيا على إحداث التغيير.

مصلون يقدمون الصدقات للمتسولين بشبه جزيرة القرم كما صورته بعثة علمية فرنسية عام 1837 لتسجيل عادات سكان المنطقة (غيتي)

يقول فينين “غالبًا ما نتحدث عن القوة الأخلاقية للأدب، لكننا لا نرى غالبًا كيف تعمل” ويضيف “لكن هذا الكتاب يوضح بالتفصيل كيف قام الأدب بتثقيف الناس بشأن جريمة ستالينية غير معروفة إلى حد كبير، وأثار ردود فعل عاطفية وألهم العديد منهم للقيام بأشياء شجاعة لدعم شعب مضطهد على بعد آلاف الأميال”.

وتحدث التتار لغة تتار القرم التي تتشابه مع اللهجات التركية لكنها كانت قديما تكتب بأبجدية وخط عربي، هي اللغة الأم لشعراء تتار القرم ومنهم بكير شوبان زاده الذي كان أحد ضحايا الحقبة السوفياتية إذ ألقي القبض عليه بزعم قيامه بأنشطة تخريبية وحكم عليه بالإعدام عام 1937.

 

يعني اسم شوبان زاده “ابن الراعي” وتعود أصوله لقرية بسيطة في القرم وكان والده راعيا للأغنام، وقد تركت تجربته في الريف انطباعاتها على الصبي الحساس الذي كتب عن المشاهد الرعوية في القرم والحنين إلى بلاده وشجاعة وشرف شعبه إضافة لقصص الحرمان والإذلال والقمع، وعمل أستاذا للغة تتار القرم في جامعات بودابست (العاصمة المجرية) وباكو (العاصمة الأذربيجانية).

ورغم أن شوبان زاده لم يعش الحلقة الأخيرة من تهجير شعبه فقد أعرب عن أسفه لأن شعبه لم يكافح من أجل الاحتفاظ بأرضه، بل سلك ما اعتبره “الطريق السهل للخروج” ورضخ لمصيرهم وترك وطنه، وقال في قصيدة حزينة (كتبها في بودابست، 1917):

عندما يهاجر جيراني/بينما يشربون فنجان القهوة الأخير/أود أن أكون هناك حتى أستطيع أن أقول “ابق!”/حتى أستطيع أن أقول “ما من شيء مثل وطنك!”.

وعبّرت قصيدة أخرى، نشرتها اللجنة الدولية لشبه جزيرة القرم، عن تصوره لما فعلته السلطات بشعبه:

 

أيها السنونو السنونو/افرد جناحيك على نطاق واسع!/إذا قبض عليك العدو على الأرض/فقد تُحرم من وطن مثل التتار!

ويقول في قصيدة أخرى:

اكتشفتك في شبه جزيرة القرم، في قازان،

ووجدتك عندما كان قلبي مفعمًا بالحيوية والفيضان

 

مشيت حزينًا ومتألمًا في أراضٍ بعيدة،

أمشي بآمال وأحلام متضائلة،

أخبرك بحزني، احتضنتك،

ثم جددتني كلمتك المبهرة

 

بدون أغانيك، وقصائدك،

إذا لم تملأ كلمة “وطن” قلبي،

فكيف أتجول في أراض بعيدة،

في شوارع بعيدة، لا أعرف شيئًا، ولا أعرف أحداً

 

عند بوابات فيينا، في أرض الكازاخ،

 

غنينا معًا في الهند والصين..

بمجرد أن يفهمك العدو، سيقع في الحب،

وكلمة واحدة حزينة لك ستذيب قلبه

 

أريد أن أسمعك في كل مكان، وفي كل مكان أريد أن أحبك

الملاحم من لآلئك،

إذا علمتك عن الطيور والذئاب،

ستكون محبوب الأيتام

 

إذا توغلت في المساجد والمحاريب والقصور،

فبمجرد وصولك إلى المحيطات وأطراف الصحاري،

سأكتب معك مراسيم للعدو،

وبكلماتك البراقة سأقوم باستخراج روحه

 

وعندما تستجوبني الملائكة في قبري،

عندما يقطع ملاك الموت لساني ألف مرة،

سأقول “كلمني بلغتي الأم!”،

سأغني بلغتي الأم بينما أموت

 

بينما تقضم المخاوف روحي،

والنجوم اللامتناهية تضرب شعبي،

أوه، لغتي الأم، لا أحد يتبادر إلى ذهني،

ولا حتى العدو يعرفك، أنت سري الأكبر

الشركس

وقبل مأساة الشركس في القرن العشرين، انطوت حقبة حرب القوقاز (1817-1864) على مستويات استثنائية من العنف التاريخي وشملت المآسي شعوب الشركس، والإنغوشيين، والأوسيتيين، والجورجيين، والتتار، والشيشان والأبخاز وغيرهم.

 

وبعد أن انتصرت روسيا القيصرية على شعوب القوقاز في “وادي كبادا” قرب مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود يوم 21 مايو/أيار 1864، أصبح هذا التاريخ “بداية النهاية” للشركس وشعوب شمال القوقاز المسلمة التي عانت الشتات والتشريد.

اتبعت روسيا القيصرية سياسة التغيير الديمغرافي، فهجرت ما يصل إلى 1.5 مليون شركسي من مدن سوتشي وتوابسي وسخومي الساحلية، وفر بعضهم إلى مناطق سيطرة الدولة العثمانية، وخلال عمليات التهجير القسري قضى مئات آلاف الشركس -حسب أرقام متفاوتة- بسبب الأوبئة والجوع.

National Circassian Dance, Circassia, Caucasus, lithograph, from Galleria universale di tutti i popoli del mondo, ossia storia dei costumi, religioni, riti, governi d'ogni parte del globo (Gallery and history of all peoples, customs, religions, rituals, governments from all over the globe), Volume I, Plate XLIV, published by Giuseppe Antonelli, 1838, Venice. (Photo by Icas94 / De Agostini Picture Library via Getty Images)
الرقص الشركسي الوطني في القوقاز (غيتي)

قدم الرحالة والعلماء الغربيون روايات مختلفة حول مستوى تطور الأدب الشركسي القديم، وفقًا للباحث الألماني ف. بودنشتيد، الذي زار القوقاز بالنصف الأول من القرن الـ 19، فإن “الشعر هو مستودع للحكمة الوطنية والحصافة، ودليل للعمل النبيل لدى الشركس”.

 

وكتب المؤرخ بول ب. هينز “كان لدى الشركس تقليد غني في الشعر الشفهي”.

كانت الخطابة فنًا متطورًا للغاية. اكتسب القادة شهرة كبيرة لقدرتهم على إلقاء الخطب بقدر شهرة مهاراتهم في المعركة، بحسب دراسة للباحث أمجد جايموخا عن الأدب الشركسي.

في الواقع، تمت كتابة الأدب الشركسي قبل الحقبة الشيوعية بوقت طويل، وقد حقق مستوى عاليا من التطور قبل فترة طويلة من ظهور الروس في القرن الـ 16. وجرى حفظه في الذاكرة الوطنية بفضل المنشدين المتجولين.

تعود بعض الحكايات الموجودة إلى ما يقرب من 1500 عام، زمن المسيحية المبكرة في القوقاز. وتتكون التقاليد الشفوية من آلاف الحكايات والقصص التي تناولت كل موضوع تقريبًا في حياة الشركس القدماء، بما في ذلك روايات عن أصول أمة آديجا، والشعوب التي أقاموا اتصالات معهم، والأبطال والأحداث التاريخية، بحسب الدراسة ذاتها.

 

وتعود قصائد شركسية عديدة لأساطير وملاحم “نارت” القوقازية القديمة، وتقول إحدى قصائد الفروسية النارتية “على الرغم من أن حياتنا سريعة الزوال/(أسماؤنا) ستتردد إلى الأبد/دون التخلي عن طرقنا الصادقة/آمل أن تستمر العدالة في توجيه طريقنا!/نرجو أن نعيش بقلوب حرة وسهلة/فاضت من الشدائد والويل!

وتتصل قصائد الشركس الحديثة بالتقاليد القديمة، في القرن العشرين، بقصائد الشاعر عليم كيشوكوف التي ترجمت للغات عديدة، ويقول في إحداها:

سمعت نداء قمم الجبال

عبرت طريقي خلال التيار الهائج

 

غامرت وقاتلت من أجل

جبال حلمي الملبدة بالغيوم

لم أتبع ذلك بصرامة دائمًا

لقد كان أسلافي يرتقون بقواعد عالية

 

الأشياء المتخيلة تحركني بعمق

ومع ذلك لم أنزل قط إلى الأكاذيب

 

قد يكون أبيض، مثل حقل في صقيع أبيض،

أو أسود مثل ثلم في الوادي،

 

لكن اسم ” تشيركيسكا ” لن يضيع أبدًا

لتغييره سوف تفشل الألسنة بالتأكيد

واشتهر شعر المهجر الشركسي بالحنين لأرض الوطن الأم، وفي إحدى القصائد الشعبية يقول الشاعر “رأيت الكثير من البحار والبلدات، لا تعد ولا تحصى في رحلاتي في الخارج!/ لكن الآن أقول لك هذا/أفضل قضاء يوم مجمد في الوطن/أكثر من مئة ينبوع في أرض أجنبية”.

ويقول أيضا “القوقاز لدينا مرآة للعالم/إنه وديعة أرواحنا”.

 

وكتب عدد كبير من أدباء الشتات الشركسيين عن مأساة الشركس، وكان الروائي العثماني الشهير أحمد مدحت أفندي (1844-1913) شركسيًا من عائلة عريقة، وكذلك توفيق فكرت (1867-1915) الذي يُعتبر من آباء الشعر التركي الحديث، وجمع أعماله في مختاراته “القيثارة المكسورة”.

ورغم مرارة المآسي التي عاشتها الشعوب التتارية والشركسية، يجد كثيرون في قصائد الشعر -القديمة والحديثة منها- سلوى وتذكارا تاريخيا لفجائع لا تزال تلهم أجيالا جديدة دروسا عديدة، وتعزف على أوتار القلوب الحزينة وتحرك الدمع في المآقي.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *