لم تكن وحدها الغربة المكانية هي ما شكّل اختلاف أدب ألبير قصيري عن باقي أدباء جيله، سواء من هم داخل وطنه مصر أو فرنسا التي اختارها للاستقرار حتى الموت، بل اندفعت غرابة أفكاره التي تعمد أن يحمّلها أبطال رواياته داخل عالم السرد؛ لتكوّن فلسفة خاصة بأديب عربي يحمل صفة الفرانكفونية.
وبشكل يبدو محوريا، ظل الاختلاف عند قصيري المحرك لمسيرته الأدبية التي امتدت لنحو 70 عاما؛ فهو الروائي المصري الذي يحكي بالفرنسية عن فقراء مصر.
ورغم الرحلة الأدبية التي اقتربت من 7 عقود، فإن المصريين لم يتعرفوا على أدب قصيري بشكل كاف يؤهله للمنافسة الأدبية داخل الوطن الأم بسبب عقبة الترجمة، في حين عرفه الفرنسيون جيدا مع أنه ظل متمحورا حول معاناة أناس في الشرق البعيد.
ومع الذكرى 108 لميلاد الروائي الذي مُنح العديد من الألقاب، وكان أكثرها رواجا “فولتير النيل” و”فيلسوف الكسل”، يظل أدبه المختلف حاضرا وسط الخفوت داخل الوطن والشهرة في أوروبا.
نشأة مدللة
لم تكن نشأة قصيري مصرية خالصة رغم أنه ظل مخلصا لمصر حتى رحيله؛ فوُلد في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 1913 بحي الفجالة في القاهرة لأبوين تعود أصولهما إلى بلدة القصير في سوريا.
وعندما بلغ سن المدارس التحق بمدرستي الفرير والليسيه؛ مما جعله يجيد الفرنسية على حساب لغته الأم، تلك الإجادة دفعته لكتابة القصص بالفرنسية وهو في سن العاشرة.
لم يتم الأديب الصغير دراسته الثانوية لأسباب غير واضحة، غير أن طريقة تعاطي أسرته مع دوافع التعلم ربما تبرر عدم استكمال الدراسة؛ فالأب يعيش على عوائد عقارات وأرض يمتلكها ولا حاجة للعمل الذي يستلزم رحلة التعلم الطويلة.
وفي سن 17 بدأ قصيري طريق السفر زائرا فرنسا، وبعدها تنقل بين مدن عدة في أميركا وإنجلترا، إلى أن عاد إلى باريس ليقرر الاستقرار فيها عام 1945.
الفرنسية تحكي عن مصر
“لست في حاجة لأن أعيش في مصر، ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهي ذاكرتي”. ربما لم يختر قلم قصيري إجادة الفرنسية أكثر من العربية، لكن الأديب المصري نجح في أن يطوع قلمه الفرانكفوني ليحكي قصص المصريين لتُترجم بعد ذلك إلى 15 لغة.
لم يحك “فولتير النيل” في نصوصه سوى عن مصر التي ظلت ساكنة به رغم طول غربته عنها، وبدأ كتاباته بالمجموعة القصصية “بشر نسيهم الرب” عام 1941.
وتوالت بعد ذلك أعماله الروائية، مثل “بيت الموت المحتوم” عام 1944، و”كسالى الوادي الخصب” عام 1948، وبعد نحو 15 عاما من التوقف عن الإبداع قدّم روايته الشهيرة “العنف والسخرية” عام 1962، ثم روايته الأشهر “شحاذون ونبلاء”، وتوالت نصوصه بعد ذلك مثل “مؤامرة مهرجين” عام 1975، و”منزل الموت المحقق”، و”ألوان النذالة” عام 1992.
يقول في أحد اللقاءات الصحفية “جميع أحداث رواياتي تدور في القاهرة، أو في الإسكندرية، أو في دمياط. غير أن ما أكتبه يهم كل الناس؛ إذ إن الإنسان الذي يعيش في مصر لا يختلف كثيرا عن الإنسان الذي يعيش في قلب باريس؛ الفارق الوحيد بينهما هو اللغة، وأيضا الموقف الشرقي لأبطال رواياتي”.
في كتابه “ألبير قصيري والسخرية.. التهميش إجابة على الحداثة”، يشير الباحث باسم حنا شاهين إلى أن قصيري كان يجعل الفرنسية تعمل بواسطة العربية من دون أن يكون في وضع المنفي في فرنسا أو الخاضع للغة أجنبية.
ويستطرد “هو يكاد لا يستطيع قراءة العربية، إذ إن لغته الأم المكتوبة أصبحت أجنبية بالنسبة إليه، خاصة بعد خروجه من مصر، وهو على أي حال كان متمكنا تماما من اللغة الفرنسية، ومع ذلك نجد أن نصوصه حبلى بتعبيرات عربية”.
الكسل كحياة
تحت شعار “مواجهة الحداثة” تبنّى ألبير قصيري فلسفة الكسل القائمة على رفض العمل بوصفه فخا يقع فيه البشر سعيا وراء المال.
ويبدو أن نشأته المدللة أسهمت في اعتماد الكسل منهجا للحياة؛ فهو ابن أصحاب الأملاك الذين لا يعملون، لكن الوريث مدّ الخيط إلى فئات المجتمع، داعيا الجميع للتفرغ من أجل تأمل الحياة.
يرى الناقد الأدبي محمود قاسم أن فلسفة الكسل احتلت أعمال قصيري الأدبية، ولم تبق كفكرة خارج عوالمه السردية.
وأوضح في مقدمة النسخة العربية لرواية “كسالى في الوادي الخصيب” أن المؤلف حصر الكسل كصفة ذكورية؛ فالنساء يعملن بينما الرجال كسالى إلى أقصى حد ممكن.
ذلك ما تكرر في رواية “شحاذون ومتكابرون” فالنساء يخرجن للعمل ويحركن العالم، ورواية “منزل الموت المحقّق” التي تقدم الرجل كهامش في حين تتحرك المرأة من أجل مواجهة الأزمة.
فلماذا كسر قصيري قانون الكسل الذي يدعو له؟ لماذا يكتب؟ وهو أجاب عن هذا التساؤل في مقدمة روايته “طموح في الصحراء” قائلا “حتى لا يستطيع أن يعمل في الغد من يقرأ لي اليوم”.
تكريم
حصل قصيري على العديد من الجوائز؛ منها جائزة جمعية الأدباء عام 1965، وجائزة الأكاديمية الفرنسية للفرانكفونية عام 1990، وجائزة أوديبرتي عام 1995، وجائزة بوسيتون لجمعية الأدباء عام 2005.
كما أنه مُنح كثيرا من الألقاب، مثل “فيلسوف الكسل”، و”فولتير النيل”، و”رائد أدب المهمشين”، و”أوسكار وايلد الفرنسي”، و”باستر كيتون العربي”.
موت محقّق
في روايته “بيت الموت المحقّق” ربط ألبير قصيري بين انهيار البيت وتحقق الموت قائلا “منذ أن عرفت أن البيت سينهار لم أعد أشعر بالخوف. قبل هذا كانت هناك كوارث عديدة تلاحقني، أما الآن فلم تعد هناك غير كارثة واحدة، وهذا أمر محتمل؛ إذ إن كارثة واحدة رائعة كافية وحدها ليتحقّق موتي”.
لم يعش قصيري في بيت قط طيلة 63 عاما، واختار فندقا بأحد أحياء باريس ليكون سكنا له، وفي حوار له لمجلة “ليير” (Lier) قبل أعوام من وفاته عبّر عن رغبته في أن يكون موته داخل الغرفة التي عاش فيها عقودا.
وذلك ما تحقق “لفولتير النيل”، حيث رحل في 22 يونيو/حزيران 2008 عن عمر ناهز 94 عاما بغرفته الفندقية.