مرّ زمن طويل على فرحنا وسعادتنا بقضاء بعض الوقت في التسلي بلعبة “الأفعى” على هاتف “نوكيا 3310” (Nokia 3310)، وكنا نعتقد حينئذ أن هذا أكثر ما يمكن أن تصل إليه التكنولوجيا، فقد كان ذلك الهاتف من نوكيا متعة للناظرين، على الأقل في أعيننا نحن أبناء ذلك الجيل.

تغيرت الدنيا مع دخول الهواتف الذكية التي نكاد نلهث خلف آخر إصداراتها وألعابها وتطبيقاتها التي دخلت كل جزء في حياتنا؛ لقد أخذتنا التكنولوجيا إلى “جحر الأرنب” ولم نخرج منه منذ ذلك الحين، فنحن شبه غارقين في هواتفنا الذكية للدرجة التي نسينا فيها ذكاءنا الخاص.

 

وفي الحقيقة، لم يعد الأمر ممتعا كما كانت الحال مع جهاز “نوكيا 3310″، خصوصا مع غرقنا المتواصل فيها، واستهلاكها كثيرا من وقتنا وأعصابنا مع أننا جميعا نعلم أننا يجب أن نقضي وقتا أقل على هواتفنا، ولكن القليل منا يفعل ذلك.

وقد زاد اعتمادنا على الشاشات منذ انتشار وباء كورونا، حيث يستخدم 54% من البالغين في المملكة المتحدة -على سبيل المثال لا الحصر- الآن شاشاتهم بشكل شبه دائم، ونصف هؤلاء يمكثون أكثر من 11 ساعة في اليوم وهم محدقون في شاشات هواتفهم، وذلك وفقا لبحث أجرته جامعة ليدز البريطانية مؤخرا.

 

وقد بدأ هذا في التأثير بشكل كبير على شتى مناحي الحياة، من الأسرة والعلاقات العائلية وصولا إلى أماكن العمل، حيث بدأت الشركات في التدخل بعد أن لاحظت أن كثيرا من موظفيها وعملائها أصبحوا “كائنات زومبية” تعيش داخل هواتفها، وذلك كما ذكرت الكاتبة الإنجليزية لوسي بيرتون في مقالة لها نشرتها صحيفة “تلغراف” (Telegraph) البريطانية.

وأحد أكبر المذنبين المتسببين في هذا الإدمان هو تطبيق المراسلة الفورية “واتساب” (WhatsApp).

حكاية اسمها واتساب

أنشأ تطبيق واتساب عام 2009 موظفان سابقان في شركة “ياهو” (Yahoo)، وهما جان كوم وبريان أكتون، وكان كوم من رأى الإمكانيات الكبيرة للتشغيل من خلال متجر “آبل” (Apple) بعد أن اشترى جهاز “آيفون” (iPhone) لأول مرة في حياته عام 2009، وكشف كوم -في وقت لاحق- أن أهم دافع له لإنشاء واتساب كان عدم رغبته في فقدان المكالمات حين يكون في صالة التدريبات الرياضية.

 

استفاد التطبيق الذي طوره إيغور سولوميننيكوف -المبرمج الذي وجده كوم وأكتون عبر أحد مواقع التوظيف عن بعد- من ميزة الإشعارات الفورية التي ابتكرتها شركة آبل لتحديث شبكات المستخدمين، وسرعان ما استعمل المستخدمون هذا لتكون خدمة مراسلة فورية، وزرعوا البذرة لما سيصبح عليه التطبيق فيما بعد، حيث أصبحت وظيفة المراسلة الفورية هي أهم ميزات التطبيق، وذلك كما ذكرت منصة “بيزنس أوف أبس” (Business Of Apps) في تقرير لها عن التطبيق مؤخرا.

 

كان واتساب فريدا من نوعه في ذلك الوقت، إذ نجح في توفير خدمة الرسائل المجانية التي تسمح للمستخدمين بتسجيل الدخول باستخدام أرقام هواتفهم. وحقق التطبيق نجاحا فوريا، حيث وصل بسرعة إلى 250 ألف مستخدم نشط بعد إطلاقه، وكان هذا كافيا لأكتون لإقناع دائرة من زملائه من موظفي ياهو السابقين بالتخلي عن 250 ألف دولار لتكون تمويلا أوليا لتطوير التطبيق.

أدرج واتساب خدمة رسائل الوسائط المتعددة في وقت لاحق، وتم إصداره على نظام “أندرويد” (Android)، ومنذ ذلك الحين، حدثت قفزات نوعية في استخدامه وانتشاره، حيث احتل المرتبة الأولى بين أكثر 3 تطبيقات تم تنزيلها في متجري آبل وأندرويد. وبحلول أكتوبر/تشرين الأول 2011، تم إرسال مليار رسالة يوميا من خلاله، وبحلول عام 2013 ضم التطبيق أكثر من 200 مليون مستخدم نشط.

كان هذا كافيا لفتح عيون العمالقة، خاصة شركة “فيسبوك” (Facebook) التي رأت في هذا التطبيق منافسا شرسا ينبغي الاستحواذ عليه، وهو ما حدث فعلا عام 2014 في صفقة وصلت إلى 19 مليار دولار في واحدة من أكبر عمليات الاستحواذ في التاريخ.

وفي الحقيقة، أصبح الواتساب بديلا عمليا للبريد الإلكتروني من خلال الدردشة المباشرة والقدرة على إرسال الملفات والصور والفيديوهات وغيرها الكثير من الميزات التي يستخدمها كثيرون في العمل، إذ تقوم الشركات بتشكيل محادثات جماعية تسمح للفرق بالتواصل مع بعضها البعض، والمديرين للتواصل مع الموظفين، وكل هذا جعل من الواتساب رفيقا يوميا دائما للكثيرين منا سواء في الحياة الشخصية الخاصة أو في العمل، كما ذكرت منصة “نيكست بليون” (nextbillion) في تقرير عن هذا التطبيق الذي شغل العالم ولا يزال.

 

وحاليا، يعد الواتساب تطبيق المراسلة الأكثر شيوعا واستخداما في أكثر من 100 دولة حول العالم، ومسجل فيه أكثر من ملياري مستخدم نشط، وهو أحد التطبيقات القليلة التي تم تحميلها أكثر من 5 مليارات مرة، وهو يحقق دخلا سنويا ما بين 5 و10 مليارات دولار لشركة فيسبوك، وهو أيضا سبب إدمان الكثير من البشر في شتى أنحاء العالم، وسبب خسارة الكثير من الشركات لملايين الدولارات في كل عام، حسب تقرير منصة “بيزنس أوف أبس”.

إدمان الواتساب

وعودة إلى الكاتبة لوسي بيرتون ومقالتها في صحيفة الديلي تلغراف، حيث نقلت عن أحد أصحاب المطاعم في مدينة لندن قوله إنه “يفكر في حظر تطبيق واتساب على الموظفين خارج ساعات العمل، إذ إن كمية الرسائل المتعلقة بالعمل التي تظهر في أوقات غير مناسبة تعني أن الموظفين لا يمكنهم أبدا التوقف عن العمل بشكل كامل، حيث تطاردهم الرسائل حتى في ساعات راحتهم وأيام إجازاتهم”، لكن الكاتبة تلاحظ إدمانه أيضا إذ ختم محادثته معها بقوله “إذا كنت بحاجة إلى الاتصال بي، فمن الأفضل استخدام الواتساب”.

كما نقلت الكاتبة عن أعضاء نقابة المعلمين الكبرى في المملكة المتحدة قولهم مؤخرا إن رسائل الواتساب التي تصدر في وقت متأخر من الليل من مديري المدارس “تحط من الروح المعنوية”. واشتكى أحد الأعضاء من أن مديري المدارس كانوا يستجيبون لرسائل البريد الإلكتروني التي لم يتم الرد عليها خارج ساعات العمل من خلال إنشاء “مجموعات واتساب التي تواصل الرنين طوال ساعات المساء في وقت تحاول فيه الحصول على قسط من الراحة”.

 

وهنا يجب الانتباه إلى الطريقة التي يستخدم بها الموظفون هواتفهم الذكية بعد أن قال العديد من أصحاب ومديري المطاعم والحانات إن الأمر زاد كثيرا عن الحد بالنسبة للعملاء المدمنين على الهاتف.

شركات تحظر التطبيق

وكانت سلسلة مطاعم “صاموئيل سميث” (Samuel Smith) قد حظرت استخدام الهواتف المحمولة عام 2019، كما أعلن مطعم “ذا فرينتش هاوس” (The French House) الشهير في منطقة سوهو في قلب العاصمة البريطانية لندن على موقعه على الويب “لا موسيقى، ولا آلات، ولا تلفزيون، ولا هواتف محمولة”، قائلا إن إزالة مثل هذه “الانحرافات” تعني “ملاذا” لرواده من كل هذا الإزعاج التقني، كما ذكرت بيرتون في مقالتها.

 

ويتخذ مطعم “سانت جون” الحائز على نجمة ميشلان موقفا مماثلا، وفي هذا السياق قال المؤسس ورئيس الطهاة فيرغوس هندرسون “هاتفك ليس ملعقتك لتناول الطعام، يجب ألا يكون على الطاولة”. ويتفق الكثيرون مع هندرسون فالهاتف المحمول هو الضيف غير المرغوب فيه في قاعات المطاعم.

وتشير الكاتبة إلى أن إدمان البشر على الهواتف والتطبيقات هو بالضبط ما تريده شركات التكنولوجيا بعد أن أمضت سنوات طويلة كي تتقن فن الحفاظ على العيون المحدقة بالشاشات طوال الوقت، وتحقيق الأموال الطائلة من هذا التحديق، ولكن بدأ هذا الإدمان غير المسبوق وبالذات على تطبيق الواتساب في تكبيد أصحاب العمل ملايين الدولارات، حيث يمكن من خلال الواتساب إطلاق الرسائل خلال ثوان معدودة بدون تفكير، وبعض هذه الرسائل قد تحتوي على معلومات حساسة عن العمل، وهو الأمر الذي خلق المخاوف داخل بعض القطاعات الأكثر حساسية، كالقطاع المصرفي على سبيل المثال.

وكشف بنك “إتش إس بي سي” (HSBC) في وقت سابق من هذا العام أنه يخضع للتحقيق من الهيئات الأميركية بتهمة إساءة استخدام الواتساب، في حين تم بالفعل تغريم بنك “جي بي مورغان” (JP Morgan) 200 مليون دولار بسبب التهمة نفسها من هذه الهيئات في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

 

كما أخافت الحملة على استخدام الواتساب العديد من المستثمرين، وقال أحد هؤلاء للكاتبة إن أحد أصحاب الشركات “منعه من استخدام التطبيق أثناء الحديث عن العمل”.

وأوضحت بيرتون -في مقالتها- أن القطاع الخاص ليس وحده هو الذي يفقد صبره مع التطبيق، ففي أبريل/نيسان الماضي، خلص تقرير صدر عن معهد الحكومة البريطانية إلى أن “الوايتهول” (مركز الحكومة البريطانية) بحاجة إلى “السيطرة” على كيفية استخدام الوزراء لتطبيق الواتساب، وذلك بعد أن قال مكتب رئيس الوزراء إن رسائل بوريس جونسون على الواتساب حول “الحفلات المزعومة” في داوننغ ستريت “لم تعد متوفرة”.

إن إدماننا على هواتفنا والمحادثات المستمرة والفورية بداخلها له ثمن، وقد وصل الواتساب إلى ذروته، وحان الوقت كي يتم وضع حدود صارمة لإدماننا عليه.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *