انقلبت التوقعات مرارا وتكرارا حول ما سيبدو عليه الاقتصاد خلال عام 2023، ويحاول محافظو البنوك المركزية واقتصاديو “وول ستريت” ومسؤولو إدارة بايدن توقع ما قد ينتظر الولايات المتحدة في الاقتصاد بالعام الجديد، خاصة بعد عام رفع فيه الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بأسرع وتيرة منذ عام 1980 لإبطاء النمو وإعادة السيطرة على تلك الزيادات السريعة في الأسعار، فهل تحفز سياسات بنك الاحتياطي الفدرالي الركود؟ أم أن الاقتصاد سوف يهدأ بلطف، مما يحد من التضخم المرتفع في هذه العملية؟
أوضحت جينا سمياليك في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) أن الإجابة عن هذه التساؤلات بعيدة كل البعد عن اليقين، خاصة في ظل وجود أنماط نموذجية لا تزال خارج نطاق السيطرة على أجزاء كبيرة من الاقتصاد بما في ذلك الإسكان والسيارات وسوق العمل، إلا أنه من المؤكد تقريبا أن تكون التجربة السابقة بمثابة خريطة سيئة.
واستعرضت الكاتبة تصريحات جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، خلال مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، والتي قال فيها “لا أعتقد أن أي شخص يعرف ما إذا كنا سنواجه ركودا أو لا، وإذا حدث ذلك، فهل سيكون ركودا عميقا أو لا، هذا أمر غير معروف”.
وأرجعت الكاتبة الأسباب التي تجعل بنك الاحتياطي الفدرالي يعيد توجيه السياسة النقدية إلى الشك حول ما هو قادم، مشيرة إلى أن المسؤولين يعملون الآن على رفع تكاليف الاقتراض بشكل تدريجي، مما يمنحهم الوقت لمعرفة كيف تؤثر سياساتهم على الاقتصاد ومدى الحاجة إلى المزيد لضمان عودة التضخم إلى وتيرة بطيئة وثابتة.
سوق الإسكان
وساهم عصر الوباء في قلب سوق الإسكان؛ حيث أدى ظهور فيروس كورونا إلى اندفاع سكان المدن للحصول على مساحة أكبر في منازل الضواحي والمدن الصغيرة، وهو اتجاه عززته معدلات الرهن العقاري المتدنية.
وإعادة الفتح من الإغلاق حفز عودة الناس نحو المدن، مما ساعد في رفع الإيجارات في المناطق الحضرية الكبرى التي تشكل جزءا كبيرا من التضخم، إلى جانب زيادة أسعار الفائدة الفدرالية، مما ساهم في إبطاء شراء المنازل بشكل حاد في العديد من الأسواق.
ومن المتوقع أن يرتفع المعروض من الشقق والمنازل المتاحة في عام 2023 مع الانتهاء من المباني السكنية الجديدة التي طال انتظارها.
واستعرض الكاتب رأي إيغور بوبوف، كبير الاقتصاديين في الموقع، حيث قال “الإطار الذي يبدو في عام 2023 هو أننا سندخل العام بالفعل في بيئة مقيدة بالطلب؛ حيث سنرى المزيد من الشقق تتنافس على عدد أقل من المستأجرين”.
وتوقع بوبوف نموا طفيفا في الإيجارات في عام 2023، لكنه قال إن التوقعات غير مؤكدة وتتوقف على حالة سوق العمل، موضحا أن الإيجارات ستنخفض إذا ارتفعت البطالة، بينما إذا كان أداء العمال جيدا حقا، فقد ترتفع الإيجارات بسرعة أكبر، وفق ما ذكرته الكاتبة.
ولا تزال عقود الإيجار الحالية تلحق بنسب التضخم المرتفعة التي حدثت؛ حيث يجدد المستأجرون منازلهم بمعدلات أعلى.
أما في سوق الإسكان المملوك، والذي لا يدخل في التضخم ولكنه مهم بالنسبة لوتيرة النمو الاقتصادي العام، فإن مبيعات المنازل الجديدة تراجعت بشكل كارثي مع ارتفاع تكاليف الرهن العقاري والارتفاع الأخير في الأسعار، مما جعل شراء منزل أمرا بعيدا عن متناول العديد من العائلات.
قطاع السيارات
يعد سوق السيارات -وهو المحرك الرئيسي لثورة التضخم الأولى في أميركا- لغزا اقتصاديا آخر؛ حيث أدت سنوات من ضآلة العرض لإطلاق العنان للطلب المكبوت الذي حفز سلوكا غير عادي للمستهلكين والشركات.
وكانت السيارات المستعملة تعاني من نقص في المعروض بشكل خاص في وقت مبكر من الوباء، ولكنها أصبحت أخيرا متاحة على نطاق أوسع، كما انخفضت أسعار الجملة التي يدفعها التجار لتخزين قطع غيار السيارات في الأشهر الأخيرة.
لكن بائعي السيارات، يستغرقون وقتا أطول لتمرير هذه الانخفاضات الحادة في سعر الربح إلى المستهلكين، أكثر مما توقعه العديد من الاقتصاديين، حيث انخفضت أسعار الجملة بنحو 14.2% عن العام الماضي، بينما انخفضت أسعار المستهلكين للسيارات والشاحنات المستعملة بنسبة 3.3% فقط، ويعتقد العديد من الخبراء أن هذا يعني حدوث تخفيضات أكبر، ولكن هناك عدم يقين بشأن متى ومدى الانحدار.
ويبدو أن سوق السيارات الجديد أكثر غرابة؛ حيث لا يزال يعاني من نقص في المعروض وسط نقص في الأجزاء، على الرغم من أن ذلك بدأ يتغير مع انفراج مشكلات سلاسل التوريد وتعافي الإنتاج، لكن كلا من التجار وشركات السيارات حققوا أرباحا كبيرة خلال حقبة العرض المنخفض والسعر المرتفع.
أسواق العمل
وربما يكون اللغز الاقتصادي الأكثر أهمية هو ما سيحدث بعد ذلك في سوق العمل في أميركا، حيث إن جزءا من المشكلة هو أنه ليس من الواضح تماما ما يحدث في سوق العمل الآن، فتشير معظم الدلائل إلى أن التوظيف كان قويا، وفرص العمل وفيرة، والأجور ترتفع بأسرع وتيرة منذ عقود، ولكن هناك اختلافا كبيرا بين نتائج البيانات المختلفة، حيث يُظهر استطلاع وزارة العمل للأسر نموا في التوظيف أضعف بكثير من استطلاعها عن عدد أصحاب العمل، ومما يضيف لحالة الارتباك، أن الأبحاث الحديثة أشارت إلى أن المراجعات يمكن أن تجعل نمو العمالة اليوم يبدو أقل حيوية.
ووفق الكاتبة؛ فهذا الارتباك يجعل تخمين ما سيأتي بعد ذلك أكثر صعوبة، فإذا وافق المرء، مثل معظم الاقتصاديين، على أن سوق العمل ساخن في الوقت الحالي، فمن الواضح أن سياسة بنك الاحتياطي الفدرالي تستعد لتهدئته، حيث رفع البنك المركزي أسعار الفائدة من حوالي الصفر إلى حوالي 4.4% هذا العام، ويتوقع رفعها إلى 5.1% في عام 2023.
وتهدف هذه التحركات إلى إبطاء التوظيف ونمو الأجور، لأن محافظي البنوك المركزية يعتقدون أن التضخم سيظل مرتفعا بالنسبة للعديد من أنواع الخدمات إذا ظلت مكاسب الأجور قوية كما هي الآن.
لكن من غير الواضح إلى أي مدى يحتاج سوق العمل إلى التباطؤ لإعادة مكاسب الأجور إلى المستويات الطبيعية التي يبحث عنها بنك الاحتياطي الفدرالي، وما إذا كان بإمكانه التباطؤ بشكل كافٍ بدون إغراق أميركا في ركود مؤلم.
وعادة، عندما يرتفع معدل البطالة بأكثر من 0.5 نقطة مئوية -كما يتوقع بنك الاحتياطي الفدرالي أنه سيفعل العام المقبل- يستمر معدل البطالة في الارتفاع، حيث يتغذى فقدان الزخم الاقتصادي على نفسه، وتغرق البلاد في الركود.