“الشتاء الديمغرافي الكبير”.. ما سر هوس أنصار تفوق العرق الأبيض بالخصوبة والسكان؟
في العامين الماضيين توقع العديد من المراقبين، بشكل هزلي، حدوث طفرة مواليد في البلدان الغربية مع تبنّي الحكومات قواعد الإغلاق والتباعد الاجتماعي ضمن سياسات مواجهة جائحة كورونا. لكن على عكس التوقعات غير الدقيقة، بدا أن العالم الغربي يعاني أزمة في المواليد بالتزامن مع ضباب الركود الاقتصادي الذي يخيم على مساحات واسعة من العالم.
وحسب بيانات منظمة سكان العالم الأميركية المستقلة، بلغ متوسط معدل الخصوبة العالمي 2.4 طفل لكل امرأة في عام 2019، وهو معدل يقارب نصف ما كان عليه في عام 1950، وتسجل الدول الأكثر تقدمًا اقتصاديًّا مثل أستراليا، ومعظم أوروبا، وكوريا الجنوبية، معدلات أقل من البلدان الأقل نموا أو المنخفضة الدخل. وإذ تتعدد الأسباب الاقتصادية والثقافية لذلك، يحذر محللون من الانكماش السكاني الذي قد يؤثر في النمو الاقتصادي، ويفتح المجال أمام أفكار يمينية متشددة مثل “الاستبدال الكبير”.
وتظهر توقعات عام 2022 وقوع كل بلدان أوروبا تحت معدل الخصوبة العالمي، ووقوع العديد من دول القارة العجوز تحت معدل إحلال السكان اللازم للحفاظ على حجم المجتمع الحالي. وبينما احتفظت كوريا الجنوبية بأدنى معدل للخصوبة على مستوى العالم، سجلت العديد من بلدان أفريقيا (مثل النيجر وتشاد ومالي) أعلى معدلات للمواليد في العالم.
تداعيات الأرقام
تثير هذه الأرقام والإحصاءات موجة متزايدة من النقاش الثقافي والفكري، ويحذر العديد من المثقفين الغربيين (لا سيما من التيارات اليمينية) من تداعيات هذه المعدلات، وتعود جذور فكرة أن المهاجرين غير البيض يمكن أن يزيحوا الأوروبيين البيض المولودين في الغرب إلى التيارات القومية العرقية الفرنسية التي ظهرت في القرنين الـ19 والـ20.
وقد ابتكر الكاتب الفرنسي رينو كامو مصطلح “الاستبدال الكبير” أول مرة في تسعينيات القرن الماضي في قرية صغيرة في جنوب فرنسا، حيث كان يراقب “التغيير في سكان الضواحي”، وفي عام 2011 نشر كتابه الشهير بالاسم ذاته باللغة الفرنسية واحتفت به الدوائر اليمينية في الغرب.
وعاد الحديث عن نظرية “الاستبدال الكبير” إلى الأضواء في أعقاب الهجمات التي شنّها مسلّحو اليمين الغربي المتشدد في بلدان غربية مختلفة. فقبل جريمته في كرايست تشيرتش بنيوزيلندا في مارس/آذار 2019، ردد الإرهابي الأسترالي شعارات “الاستبدال” التي صاغها كامو معتبرا أن الدول الأوروبية وثقافتها المسيحية البيضاء تتعرض لاستبدال السكان البيض الأصليين بوافدين جدد من الأفارقة والمسلمين.
وفي تغطيتها للهجوم الذي وقع في مركز للتسوق بمدينة بوفالو بولاية نيويورك الأميركية في منتصف شهر مايو/أيار الماضي، وخلّف مقتل نحو 10 أميركيين من أصول أفريقية، تناولت مجلة “مل ماغزين” (melmagazine) الأميركية دوافع الجريمة العنصرية، وربطتها بأطروحة “الاستبدال الكبير” التي ينظّر لها مناصرو تفوق العرق الأبيض.
ويوضح محرر المقال إدي كيم أن مرتكب جريمة بوفالو تحدث -في رسالته التي نشرها في مواقع تواصل محلية قبيل ارتكابه الهجوم العنصري- عن معدلات المواليد والتحولات الديمغرافية داخل الولايات المتحدة بوصفها مؤشرات على تقدم مسار “استبدال البيض” في أميركا.
وكان مرتكب الجريمة قد قال في رسالته إن “ما على الجميع فهمه هو أن معدلات المواليد البيض يجب أن تتغير”.
الشتاء الديمغرافي
ويشرح إيدي كيم، معدّ التقرير، أن مرتكب جريمة بوفالو تحدث أيضا عن العائلات المفككة وارتفاع معدلات الطلاق، واختيار الشباب الغربي العزوف عن الزواج مطلقا، وعبّر عن قلقه من تيار “المتعة الجنسية”، متحسرا على “الرجل الغربي” الذي أُضعف في مواجهة “أعداء الإيمان والثقافة والتقاليد والخصوبة والتفوق”.
ووجد مرتكب جريمة بوفالو في هذه “المؤشرات” تبريرا منطقيا للدعوة إلى العنف والإرهاب كنوع من رد الفعل البطولي، وقال في رسالته “إنها مسألة بقاء، نحن ندمرهم أولا”، حسب المجلة الأميركية.
ويوضح الكاتب أن مفهوم “الشتاء الديمغرافي الكئيب” ليس جديدا، فقد كان مستخدما لدى علماء الاقتصاد والاجتماع وحتى لدى بابا الفاتيكان خلال مناقشة الأضرار المحتملة لتراجع النمو السكاني، لكن الخطورة تكمن في أنه أصبح الأداة المفضلة لعمل اليمين الديني وللمتطرفين من أنصار العنف، وكذلك للساسة المحافظين.
وحسب الكاتب، فهذا الهوس المنظم لم يعد مرتبطا بأفراد وجماعات مشتتة هنا وهناك، بل باتت تلك المجموعات تتشابك مع تنظيمات أخرى يمكن وصفها بأنها “أكثر علمانية”، مثل المعاهد ومراكز الأبحاث التي توفر الغطاء لأشكال الخطاب المتطرفة التي تعمل على جعل العرق الأبيض هو المتسيّد، وضرب مثلا بالمعلم الأميركي هاري لافلين (1880-1943)، أحد رواد “تحسين النسل”، الذي استلهم من “النازيين” أفكار سنّ قوانين التعقيم القسري “للأشخاص غير المناسبين” وحاول الضغط لإدخال تشريعات في 31 ولاية، يريد ترجيح كفة الميزان للمواليد البيض بها.
ويكشف الكاتب أن هوس اليمين المتطرف بمبدأ “الخصوبة” كان دائما أحد مظاهر الاستقطاب في الخطاب السياسي الأميركي، وينقل عن آلان أبرامويتز أستاذ العلوم السياسية في جامعة “إيموري” تصريحا سابقا لصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) كشف فيه أن المواقف العرقية باتت ترتبط ارتباطا متزايدا بقضايا متباينة، بينها قضية الرعاية الاجتماعية، والسيطرة على فوضى السلاح، والهجرة وحتى تغير المناخ.
ويقول الكاتب إن اليمين العنصري ينظر إلى نفسه على أنه جزء من آخر عناصر “المقاومة” التي لا تفتأ تصرخ بأن التنوع العرقي سيدمر أميركا.
ويثير الدعاة لهذه النظرية عددا من الصراعات الفكرية بإلقائهم اللوم على تشريعات الإجهاض والتيارات النسوية التي تدعم استقلال المرأة، وذلك يفاقم الاستقطاب حول قضايا اجتماعية وثقافية تؤجج الانقسام في المجتمع الأميركي.
نظرية “الاستبدال الكبير”
بإيجاز، تتكون هذه النظرية من عنصرين أساسيين: يتمثل العنصر الأول في التوقعات الديمغرافية التي تقول إنه نظرا للهجرة الجماعية وارتفاع معدلات الخصوبة فإن السكان من أصل غير أوروبي في طريقهم إلى تجاوز عدد السكان الأصليين في أوروبا، وهذا من شأنه أن يساعدهم على فرض ثقافتهم ودينهم على القارة.
من ناحية أخرى، يؤمن كامو بأن “الاستبدال العظيم” سيحدث نتيجة مؤامرة تنفذها “سلطة خفية”، وهي النخب الحاكمة الرأسمالية المناصرة للعولمة والتي تدعم عمليات الهجرة الجماعية من أجل بناء عالم جديد تختفي فيه كل الخصوصيات القومية والعرقية والثقافية، ويصبح قابلا للسيطرة والتشكل بما يلبي احتياجات الاقتصاد المعولم.
وقد سلطت حلقة من برنامج “خارج النص” لقناة الجزيرة الضوء على كتاب “الاستبدال الكبير” الذي يتحدث عن تعرض أوروبا للغزو والتغيير الديمغرافي من قبل المهاجرين، إذ يرى الكاتب أن “الاستبدال الكبير” ليس مجرد نظرية بل هو مفهوم يجسد ظاهرة أخرى.
ويقول كامو في البرنامج إنه شعر بالرعب بعد أن أشارت وسائل الإعلام إليه، ويرى أن نوعين من الناس لا يقرؤون ما يكتب، هم الصحفيون والقتلة الجماعيون، و”مرتكب جريمة المسجدين (في نيوزيلندا) لم يشر إليّ، ولم يقرأ كتبي، ولو عرف جيدا ما أكتب لما تصرف بالطريقة التي تصرف بها، لأن المفهوم المركزي لفكري السياسي مبني على البراءة واللاضرر”.
ويتابع أن فرنسا مستعمرة من قبل الأفارقة، وليس فقط من قبل المسلمين، لكن الإسلام يشكل بروزا لأنه الكتلة الأكثر تنظيما ومتانة بعكس المسيحية التي تظهر مشتتة.
ويشير تقرير لصحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية إلى أن رينو كامو دافع عن هذه النظرية علنا أول مرة في كتابه “أبجديات البراءة” الذي نشر في عام 2010، قبل أن يقوم بتطويره ويغير اسمه إلى “الاستبدال العظيم” في العام التالي، ولم يكن أول من ابتكر هذه النظرية، بل إنها ظهرت في نهاية القرن الـ19 مع موريس باريس أحد الآباء المؤسسين للقومية الفرنسية.
وفي مقال عن عضوية جمعية الشباب القومية يعود تاريخه إلى عام 1900، وضع باريس الأسس النظرية لهذه الفكرة قائلا “اليوم، توغل بيننا الفرنسيون الجدد الذين لا نملك القدرة على إدماجهم، ويريدون أن يفرضوا علينا طريقة تفكيرهم”.