كانت الطبقات الاجتماعية الأوفر حظا في أوروبا، في القرنين الـ18 والـ19 وحتى مطلع القرن الـ20، تميل للنظر إلى الأعمال الفنية التي تتناول حياة الطبقة العاملة أو العمال والفلاحين كنوع من التكدير البصري الذي لا يليق بصفوة المجتمع البرجوازي.
فبعد أن وضع الرسامون الأكاديميون الجسد الأبيض العاجي للآلهة والحوريات الإغريقية واليونانية نموذجا يحتذى به ومعيارا صارما للجمال في اللوحات والفن التشكيلي ككل، بدت اللوحات التي تتناول الأجساد المنهكة والأيدي المتسخة العاملة مصدر إزعاج لصفوة المجتمع.
فقد كانت تلك اللوحات تتيح رؤية الآثار الحقيقية لضيق ذات اليد الذي تعاني منه الطبقة العاملة، رغم أن تلك الطبقة هي القاعدة الحيوية التي على أساسها نشأت دولة الرفاهية الحديثة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، قدم الرسامان الواقعيان الفرنسيان غوستاف كوربيه (Gustave Courbet) وجان فرانسوا ميليه (Jean-François Millet) لوحتين كبيرتين، بحجم الجداريات المخصصة للأحداث التاريخية، تناولا فيهما حياة الطبقة العاملة ومشاق الحرف اليدوية؛ في صالون باريس للفنون عام 1850.
اللوحتان هما “كاسرو الحجارة” (Stone Breakers) المرسومة عام 1849 لكوربيه، والثانية هي “الزارع” (The Sower) المرسومة عام 1850.
في اللوحة الأولى نرى أن البطل الكلاسيكي الذي كان عادة مستمدا من الحكايات الأسطورية والأساطير اليونانية قد استُبدل برجل تقليدي من الطبقة العاملة الفقيرة، يرتدي ملابس بالية، ويساعده في تفتيت الحجارة صبي صغير قد يكون ابنه، وكلاهما يكدح لكسب قوت العيش.
لا نرى أثرا للجسد الأبيض الممشوق ولا الصبغة الأوروبية التي هيمنت على معايير الجمال.
ينطبق الأمر نفسه على اللوحة الثانية “الزارع”، ففي أعقاب الصراع الطبقي في ثورة 1848 في فرنسا وجد العديد من الرسامين أن وظيفة الفن أن يكون أصدق تعبيرا عن قضايا المجتمع حتى إن وجد المشاهدون (من الطبقات الثرية والبرجوازية) هذه الصور مقلقة أو غير مرغوبة.
نرى في لوحة “الزارع” فلاحا دؤوبا ينثر البذور قُبيل الفجر حيث الشمس على وشك الشروق في أعلى اللوحة والأجواء لا تزال مظلمة، كما يبدو أنه يقوم بهذا العمل الدؤوب في فصل الشتاء فساقاه ملفوفتان بالقش لتوفير مزيد من الدفء.
يرتدي الفلاح ملابس بسيطة تكاد تكون بالية، ويحمل كيسًا من البذور على كتفه، ينثر منها بيده اليمنى، كما نرى على الجانب الأيمن رجلًا يحرث الأرض مع الثيران من بعيد.
رغم كونه شخصية غير رئيسة في اللوحة، فإنه يؤكد المعنى الذي يرمي إليه ميليه حول طبيعة حياة الفلاحين الكادحة.
رأي النقاد
التحول نحو نقل طبيعة حياة الطبقة العاملة في صالونات فنية معنية بإسعاد صفوة المجتمع الأوروبي أثار حفيظة النقاد على نحو سلبي وإيجابي أيضًا.
فقد علّق الناقد الفني كليمان دي ريس على لوحة ميليه قائلا “إنها دراسة نشطة تضج بالحركة”، إلا أن آخرين من مؤيدي الفن الأكاديمي الأوروبي آنذاك رفضوا تخصيص مثل تلك المساحات الكبيرة لنقل حياة أشخاص غير ذوي أهمية، ومنهم الناقد تيوفيل جوتييه الذي وصف اللوحة بأنها “أشبه بكشط مجرفة”.
هذا النقد رغم كل شيء لم يمنع كوربيه وميليه وغيرهما من نقل الحياة الواقعية للفقراء والكادحين، إلا أن آخرين فضّلوا أن يكونوا أقل مواجهة للمجتمع البرجوازي، فنقلوا حياة العمال والفلاحين بنوع من الرومانسية والشاعرية، مثل الرسام الواقعي جول بروتون الذي قدم في لوحته “استدعاء جامعي المحصول” (Le Rappel des glaneuses)، المرسومة عام 1859، مشهدًا واقعيا عاينه بنفسه على مدار سنوات في قريته الأصلية في “Artois”، لكن بلمسة رومانسية.
نرى في اللوحة عددا من الفلاحين في وقت الغسق، بعضهم منكبّ نحو الأرض يجمع المحصول، وآخرون واقفون وقد انتبهوا للنداء الذي يطالبهم بالكف عن العمل والعودة في صباح اليوم التالي.
أعطى بروتون اهتماما خاصا لمشهد غروب الشمس خلف الأشجار، ليمنح اللوحة توهجا ذهبيا دافئا يليق بالعمل وسط حقول القمح.
كما نلاحظ أنه قدم تفاصيل واقعية أسهمت في بناء سردية قوية للوحة، مثل ملابس النساء الرثة أو الملابس الممزقة أو الفقيرات اللواتي يعملن بأقدام عارية، لكنها سردية شعرية أيضا.
واستطاع بروتون كسب ود النقاد والجمهور على عكس العديد من أقرانه؛ بتجنبه نقل الحياة القاسية للطبقة العاملة بمنظور ثوري أو سياسي، حيث ركز على نقل مشاهد شاعرية وخلابة لحياة العمال.
وبالفعل، حظيت هذه اللوحة بإعجاب كبير في صالون عام 1859، ولفتت انتباه الإمبراطورة أوجيني بحد ذاتها لدرجة أنها قررت شراءها.
واللوحة معروضة اليوم في متحف أورسيه الفرنسي (Musée d’Orsay).