منذ استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، وما تلاه من مناوشات شبه مستمرة في منطقة دونباس، شرق أوكرانيا؛ احتشد بعض صانعي الأفلام الأكثر موهبة في البلاد، لمعالجة واستكشاف الصدمة التي أعقبت ذلك. وظهرت الحيوية الثقافية لأوكرانيا في هذه الفترة، من خلال هذه الموجة من الأفلام الطموحة، التي سلطت الضوء على الخسائر البشرية للمعارك مع الروس.

ففي عام 2015، قدم يفغيني أفينيفسكي الفيلم الوثائقي “الشتاء على النار: الكفاح الأوكراني من أجل الحرية” (Winter on Fire: Ukraine’s Fight for Freedom)، والذي يدور حول الاحتجاجات التي اندلعت ضد قرار الحكومة عام 2014 بتجميد اتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي، خوفا من روسيا؛ ورُشح لجائزة أوسكار.

 

وفي نفس العام، بدأ عرض المسلسل الكوميدي، “خادم الشعب” (Servants of the People)، بطولة فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني الحالي. وفي عام 2019، قدم الكاتب والمخرج فالنتين فاسيانوفيتش فيلم الدراما الحربية “أتلانتس” (Atlantis) الذي فاز في مهرجان البندقية السينمائي. وتبعته المخرجة ناريمان علييف بالفيلم الدرامي “العودة إلى الوطن” (Homeward)، ثم قدمت المخرجة إيرينا تسيليك الفيلم الوثائقي “الأرض زرقاء مثل برتقالة” (The Earth Is Blue as an Orange) عام 2020، ورُشِّح لجائزة مهرجان برلين.

“انعكاس”

بالرغم من عدم جدوى هذه الأفلام في مواجهة القنابل، لكنها “نجحت في تقديم نظرة مختلفة عن حياة ومخاوف الشعب الأوكراني الذي يعاني من التهديدات المميتة لهذا الصراع، كما وفرت فرصة لمزيد من التعاطف وفهم المشكلة”، كما يقول الكاتب والناقد باتريك برزيسكي.

 

وهو ما سنتوقف أمامه في فيلم “انعكاس” (Reflection) الذي أنتج عام 2021، وكتبه وأخرجه فالنتين فاسيانوفيتش أيضا، مُقدما معالجته لأهوال النزاع المُسلح، وماذا يحدث لروح رجل وأُمّة في حالة حرب، وتم ترشيحه لمهرجانات هامبورغ، وتورونتو، والبندقية السينمائية.

ووصفه برزيسكي بأنه يقدم “رؤية بانورامية قوية للصراع، من خلال صورة مليئة بالصور المدمرة من شدة الرعب، ولكنه في نفس الوقت، يحفل بلحظات من الجمال والحب الدائم”. كما عبر الناقد السينمائي ليو باراكلو عن إعجابه الشديد به قائلا، “لقد أذهلنا التأثير العاطفي والبصري لرؤية المخرج فالنتين، إنه فيلم لا يمكنك نسيانه”.

شقة عصرية وسجن رهيب

“عبر مزيج مذهل من ضبط النفس والبراعة الفنية”، على حد وصف برزيسكي؛ يستخدم فاسيانوفيتش سلسلة من اللقطات الثابتة لإلقاء نظرة فاحصة على أهوال الحرب الروسية الأوكرانية، وهو يخبرنا بقصة مؤلمة عن الطبيب الجراح الشاب سِيرهي (رومان لوتسكي) الذي يتطوع لرعاية الجرحى بالقرب من منطقة المعركة في دونباس بأوكرانيا، فيتم أسره على الفور من قبل جنود ناطقين بالروسية، كانوا يتظاهرون بأنهم من السكان الأصليين، وهم في الحقيقة مقاتلين روس تم شحنهم للمساعدة في المعارك.

 

يُقتاد سيرهي إلى أحد السجون السرية في منطقة دونيتسك، وهناك يتم استغلال مهاراته الطبية بطريقة وحشية، ويتعرض لسلسلة مُروّعة من الإذلال والعنف، ومشاهدة التعذيب والإذلال الوحشي، واللامبالاة تجاه الحياة البشرية؛ قبل أن يُطلق سراحه، ليخوض عملية تعافي مؤلمة مع ابنته الصغيرة في كييف، تُثير تعاطف الجمهور.

فسيرهي ليس متحدثا كثيرا، بالإضافة إلى أنه يعاني من “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD)، لذلك “يتركنا فاسيانوفيتش لنتخيل ردود أفعاله على الأحداث، من خلال ما تُظهره بعض محادثاته مع ابنته، من أن لديه نزعة شعرية تساعده في معالجة الصدمة التي تعرض لها”، كما تقول الناقدة آنا سميث .فلم يسمح لنا فاسيانوفيتش بأكثر من 20 دقيقة راحة، قبل أن يقلب الأشياء رأسا على عقب، ويجعل من الدقائق الأربعين التالية تعذيبا لكل من الجمهور والطبيب سيرهي.

أيضا، لم يُفوّت فاسيانوفيتش الفرصة لإلقاء الضوء على التناقض الصادم بين تقدم شقة سيرهي العصرية المريحة ذات النافذة الكبيرة التي تطل على المدينة، وبؤس السجن الرهيب؛ مما جعل الرجل الذي شهد كل هذه الفظائع، لم يعد يرى أي شيء مثيرا للدهشة، حتى في اللحظة التي يطير فيها طائر مباشرة إلى نافذة الشقة ويموت.

 

فِصام المعتدين البارد

يواصل فاسيانوفيتش سرد الأحداث بطريقة واقعية وهادئة، مُحتفظا بإصراره على إظهار الفصام البارد الذي يُميز المعتدين، لدرجة أن الرعب الذي اعتادوا بثه في الضحايا، لم يعد يحتاج إلى إثارة؛ لذا “لم يجد فاسيانوفيتش حاجة إلى لقطات مقربة، أو موسيقى، أو سرد مستفيض، للتعبير عن ألم رجل يتعرض للتعذيب؛ أو الإشارة إلى معاناة مسعف يتخذ قرارا صامتا بإنهاء حياة شخص آخر لتجنيبه المزيد من الألم”، وفقا لآنا سميث.

 

فيُبقي فاسيانوفيتش الكاميرا ثابتة وبعيدة عن الأحداث، وقد ضبط “كادراته” الجميلة والموجعة في نفس الوقت، على تكوين يجعل من الصعب علينا أحيانا فهم ما يحدث بالضبط، وهو يعرض صور التناقضات الأخلاقية التي تُظهرها الحرب؛ بين حياة ونفسية المدنيين وأفعالهم وردود أفعالهم.

حيث يتم تبديل طاولة الجراح بقاعدة تعذيب أسمنتية، وتتحول الكرات الملونة التي تتدلى على جدار صافٍ إلى رصاص يحطم الزجاج الأمامي، والأيادي التي تُنقذ الأرواح من باب الرحمة وهي تقتل، والسيارة التي أعيد استخدامها كمحرقة جثث تزدان بكلمات “المساعدة الإنسانية من الاتحاد الروسي”.

وإمعانا في الإحساس اللاذع بالعبثية التي تقترب من السريالية، نرى كيف يتم إنقاذ شخص من هجوم كلب متوحش في الغابة من قِبل لاعب بولو على ظهر حصان؛ والأصعب من هذا بكثير، متابعة “معاناة روح إنسان يحاول العودة إلى الحياة في بيته ووسط أسرته، في عملية طويلة ومؤلمة، بعد أن تجرع هذا كله”، كما تقول الناقدة جيسيكا كيانغ.

وهكذا “نضطر للجلوس قلقين، نتابع الحدث وهو يتكشف، غير قادرين على الحركة أو التدخل، فلا توجد إجابات سهلة في هذا الفيلم المثير للتفكير”، كما تقول سميث. فقط ساعة أخرى مظلمة ومزعجة ضمن زمنه الممتد على مدى 125 دقيقة، مع بصيص صغير من الجمال، نصل إليه بشق الأنفس، يُخبرنا أن “مرونة الحب العائلي قد تسود على الرغم من كل ما حدث من أهوال”، على حد قول جيسيكا كيانغ.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *