القاهرة – كانت رانيا -التي تنحدر من إحدى قرى محافظة الجيزة بالقرب من العاصمة المصرية (القاهرة)- تبلغ 15 سنة قبل أن يزوجها والدها -العامل الزراعي الفقير- وفق أعراف قريته أملا بأن تزيح عن كاهله أعباءها المالية، على أن يبادر مع زوجها بالإجراءات الرسمية عندما تبلغ سن الـ18.

“رانيا” اسم مستعار لبطلة قصة حقيقية رصدها موقع الجزيرة نت، وهي تدق جرس إنذار مع كل صيف بمصر، حيث ينشط زواج القاصرات بالتزامن مع تحركات رسمية لمواجهة تلك الظاهرة التي يرى خبراء تحدثوا أن مواجهتها تتطلب تضافر كل الجهود المجتمعية مع إصدار تشريع قانوني حازم.

 

أرقام مزعجة

“عبد الله” أحد عمال البناء في محافظة الجيزة يرى أن زواج القاصرات مرتبط بوجود أزمة اقتصادية تدفع الأسرة إلى ترحيل ابنتها إلى بيت آخر يتحمل مصروفها، وأضاف أن جدته تزوجت جده وهي في الـ12، ولكن لم تكن هناك أزمة كما يحدث الآن لتغير الظروف والأعراف.

وتكشف الأرقام الرسمية عن تفاقم الظاهرة، فقد أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس/آذار 2021 أن عدد من سبق لهم الزواج في سن (10-17 سنة) يبلغ أكثر من 117 ألفا، بنسبة 0.8% من إجمالي السكان في هذه الفئة العمرية، وذلك وفقا لآخر إحصاء سكاني.

وأظهرت الدراسة أيضا ارتفاع نسبة الأمية بين من سبق لهم الزواج في تلك الفئة العمرية، إذ تبلغ نحو 40%، كما أن نسبة التسرب من التعليم بينهم مرتفعة أيضا إذ تبلغ 36%.

تحرك مجتمعي أسري

تؤكد مديرة مركز “أسرتي” للاستشارات الأسرية الدكتورة منال خضر -في تصريحات للجزيرة نت- أهمية إجراء حوار مجتمعي مع الأسر وذوي الحالات السابقة قبل إصدار أي قانون جديد أو تحديد أي سن في ظل وجود سن مغاير للزواج في بعض الدول العربية.

 

وتشير الدكتورة منال خضر إلى أن هناك إشكالية واضحة في السن “نرصدها في قصص زواج القاصرات، وهي سعي الحكومة المصرية للتجاوب مع اتفاقية حقوق الطفل التي تحدد الحد الأدنى لسن الزواج بـ18 عاما، من دون النظر إلى الواقع المصري الأسري، مما سيجعل الأمر صعبا عند تنفيذه ما لم يسمع أحد لوجهة نظر الآباء والأمهات الذين يفعلون ذلك من منطلق شرعي يؤمنون به وبعد اقتصادي ضاغط عليهم في بعض الأحيان”.

وتقترح أن “تفتح الحكومة حسابا بنكيا للبنات في المناطق التي يكثر فيها الأمر فذلك يسهم في تشجيع الآباء على مواصلة تعليمهن والصبر على تأجيل زواجهن”، مشيرة إلى أن الدولة تتكبد أموالا في كل الحالات بخاصة بعد وقوع الأمر في الملاحقة والدعاية السلبية ضده، في حين كان من الممكن استغلال تلك الأموال من البداية لتأمين مستقبل تلك الفتيات منذ الصغر.

وتشدد الدكتورة خضر على أهمية فتح المجال للمتخصصين الأسريين للنزول الميداني المباشر في حملات توعية تتضافر فيها كل الجهود لمواجهة تلك الظاهرة، لكنها حذرت في من إسقاط قوانين وصفتها بـ”الباراشوت” (المظلة) على الأهالي من دون سابق إنذار أو توعية لأن ذلك سيواجه بمزيد من التجاهل واستمرار التزويج بناء على خيارات الأهالي ومبرراتهم.

وشددت على أهمية تأسيس مؤسسات للمجتمع المدني تستقبل الفتيات المتسربات من التعليم لتدريبهن على المهن والحرف التي تحقق للفتاة ذاتها، وتجعلها قادرة على صناعة مستقبلها بيديها من دون حاجة إلى أمور لا تناسب سنها.

تأخر تشريعي

يحمّل المحامي ورئيس مركز الشهاب لحقوق الإنسان خلف بيومي السلطات مسؤولية تأخر إصدار قانون لوقف زواج القاصرات، موضحا أنه مع الضغوط الاقتصادية بات من السهل التفريط في البنات في سن مبكرة لزواج غير مناسب وهو ما يتطلب التقنين القانوني.

وقال “من المؤسف أن الدولة وقفت مكتوفة الأيدي ولم تحاول أن تتصدى لتلك الظاهرة التي انتشرت خلال تلك الفترة في الريف المصري”، معتبرا أن “تعامل مؤسسات الدولة مع الظاهرة ووضع تقنين تشريعي لها يحدّ منها أمر مهم وضروري وتأخر كثيرا”.

 

ويضيف بيومي أن “أي قانون يجب أن يسبقه نقاش مجتمعي تشارك فيه المؤسسة الدينية الممثلة في الأزهر، فذلك يسهل في وقت لاحق تفعيل القوانين، لأن إصدار أي قانون يناهض حقوق الإنسان التي وفرتها الشريعة لن يجد قبولا في بلد الأزهر الشريف وفي ظل تقاليد عتيقة لن تتغير إلا بالبعد الديني”.

وفي السياق نفسه، خلصت دراسة أكاديمية اجتماعية لظاهرة الزواج المبكر صدرت عن جامعة “أسيوط” إلى أهمية الملاحقة القانونية لكل من تورط في هذه الظاهرة.

وقدمت الدراسة بعض المقترحات التي من شأنها الحد من ظاهرة الزواج المبكر، وفي مقدمتها اتخاذ الإجراءات القانونية ضد أولياء أمور الفتيات الذين يزوجون بناتهن مبكرا واتخاذ الإجراءات اللازمة لردع الأطباء الذين يتلاعبون في تسنين الفتيات الصغيرات لتمكينهن من الزواج في أعمار أقـل مـن السن القانونية للزواج، والعمل على الحد من ظاهرة التسرب بصفة عامة وتسرب الفتيات الريفيات من التعليم بصفة خاصة.

وأوضحت الدراسة -التي سلطت الضوء على عدد من القرى في محافظة أسيوط بجنوب البلاد- أن من أهم الأسباب التي تدفع بالأسر إلى تزويج بناتهن في سن مبكرة الجهل والتخلف والعادات القديمة، والستر على البنات وعدم تعليمهن إلى جانب وجود عريس مناسـب، مؤكدة أن أهم الآثار المترتبة على الزواج المبكر هي نفسية ومن أبرزها اضطرابات الشخصية والحرمان العاطفي فضلا عن آثار اجتماعية منها عدم تحمل المسئولية والمشاكل الأسرية.

تحرك مجتمعي

تتنوع وسائل المواجهة الرسمية في مصر لتلك الظاهرة، وتعدّ الحملات الاجتماعية أبرز وسائل مكافحة زواج القاصرات.

ودشنت وزارة التضامن الاجتماعي أخيرا حملة “جوازها قبل 18 يضيع حقها” انتشرت في كل المحافظات، وتقوم بأنشطة متنوعة لمواجهة زواج القاصرات، وذلك تزامنا مع بداية موسم الإجازات الصيفية التي تكثر فيها هذه الممارسة، وفقا لبيان صادر عن الوزارة .

كما يشغل البعد التشريعي حيزا متصاعدا من سبل المواجهة، ويتصدر هذا البعد دعوة مباشرة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بقيام مجلس النواب باتخاذ اللازم نحو التسريع في إصدار قانون يمنع زواج القاصرات وينص صراحة على السن القانونية للزواج.

وينتظر مجلس النواب -وفق ما هو معلن- إحالة مجلس الوزراء مشروع قانون جديد يحظر زواج القاصرات، واشترط مشروع القانون عدم جواز توثيق عقد الزواج لمن لم يبلغ 18 عاما، ولا يجوز التصديق على العقد المذكور.

كما لجأت السلطة المصرية إلى الضغط الاقتصادي من أجل حصار الظاهرة.

وأعلنت وزارة التضامن الاجتماعي أن “رئيس الجمهورية وجّه بإضافة عدم زواج الأطفال تحت 18 سنة إلى شروط الصحة والتعليم في برنامج (تكافل) بدءا من يوليو/تموز 2022”.

وبررت الوزارة ذلك بأن برنامج “تكافل” من أكبر برامج الدعم النقدي المشروط بالصحة والتعليم، ولأن “مناهضة زواج الأطفال عمود أساسي للحياة الكريمة وبناء المجتمع، فقد صدر التوجيه”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *