جهود واشنطن لاحتواء التصعيد تغرق في دموية نتنياهو
منذ اللحظات الأولى لإعلان اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنية سارعت الإدارة الأميركية إلى التركيز على مسألة مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، في مسعى منها لاحتواء ردود الفعل المرتقبة من إيران وحلفائها في المنطقة.
وتزامن اغتيال هنية مع اغتيال القائد العسكري البارز في حزب الله اللبناني فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وسبقه استهداف ميناء الحديدة اليمني الواقع تحت إدارة جماعة أنصار الله الحوثي فيما اُعتبر تصعيدا إسرائيليا غير مسبوق على مستوى الإقليم، وجاءت مجزرة الفجر في مدرسة التابعين في غزة لتكمل المشهد الدموي بالشكل الذي تريده الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.
وفي أول رد لها على اغتيال الشهيد هنية رفضت وزارة الخارجية الأميركية التعليق على عملية الاغتيال، وقال المتحدث باسمها ماثيو ميلر “إن اتفاقا لإطلاق الرهائن ممكن، وإن واشنطن ما زالت تعمل من أجل إغلاق الثغرات في الاتفاق بين إسرائيل وحماس”.
الإستراتيجية الأميركية
وفي سعيها لاحتواء التصعيد الإقليمي عملت الإدارة الأميركية على نسج إستراتيجية متكاملة تقوم على الاستعداد العسكري والتقني لصد أي هجوم إيراني على إسرائيل، وقد نشرت منظومتها الدفاعية واستدعت حاملات الطائرات وعززت تنسيقها مع حلفائها في المنطقة.
كما كثفت جهودها الدبلوماسية وحركت وساطات مع إيران وحزب الله بهدف منع الضربة أو خفض مستواها بما لا يسمح بتصعيد إقليمي واسع.
وانطلاقا من كون الحرب على قطاع غزة تعد المسبب الرئيس للتصعيد في المنطقة عمدت إدارة الرئيس جو بايدن إلى تفعيل مسار مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة.
لكن تفعيل مسار صفقة التبادل لم تكن الغاية منه تحقيق اختراق حقيقي، ولم يكن في الحقيقة مسعى جديا للتوصل إلى اتفاق يوقف الحرب، نظرا لإدراك إدارة بايدن أكثر من غيرها أن الخلاصة التي عاد بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من واشنطن هي التحلل من مجمل الضغوط الهامشية التي كانت تفرضها عليه، والذهاب نحو تصعيد في غزة والمنطقة.
البيان الثلاثي
شكّل البيان الثلاثي للولايات المتحدة وقطر ومصر تتويجا للجهود الأميركية لوضع مسار المفاوضات في قلب المشهد الإقليمي بهدف التأثير على موقف إيران وحلفائها بشأن نطاق الرد المحتمل وحجمه.
وسعت الولايات المتحدة إلى محاولة عزل موقف إيران وحلفائها بتصوير أنهم هم الذين يرغبون بالتصعيد في ظل أجواء “إيجابية” تمثلت في دعوة الأطراف لاستئناف التفاوض منتصف هذا الشهر.
ومما يعزز هذه القراءة الترحيب المباشر لنتنياهو بالبيان الثلاثي واستعداده لإرسال وفد مفاوض إلى القاهرة في الموعد الذي حدده البيان الثلاثي لانطلاق جولة مفاوضات جديدة.
كما يشير ترحيب نتنياهو السريع بالبيان إلى قناعته بأن الولايات المتحدة تريد أن تخدم إستراتيجية الاحتواء الإقليمي وليس مساعي وقف إطلاق النار في غزة، وفي هذا السياق أقر مسؤولون في إدارة بايدن بأن اغتيال إسماعيل هنية من شأنه أن يعرقل جهود الوساطة.
رد حماس
من جانبها، عبرت حركة حماس في بيان عن موقف واضح في تركيزه على أن يكون أي مسعى لفتح مسار لوقف إطلاق النار وصفقة التبادل مسعى عمليا لتنفيذ ما تمت الموافقة عليه مسبقا من مقترحات قدمها الوسطاء.
وقالت الحركة في بيانها إنها “تطالب الوسطاء بتقديم خطة لتنفيذ ما قاموا بعرضه على الحركة ووافقت عليه بتاريخ 2024/7/2 استنادا إلى رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن، وإلزام الاحتلال بذلك”.
واعتبرت أن ذلك أولى “من الذهاب إلى مزيد من جولات المفاوضات أو مقترحات جديدة توفر الغطاء لعدوان الاحتلال، وتمنحه مزيدا من الوقت لإدامة حرب الإبادة الجماعية بحق شعبنا”.
ويشير بيان حركة حماس إلى أنها تدرك الغاية الحقيقية من الضغوط الأميركية لتحريك مسار مفاوضات وقف إطلاق النار والترحيب الإسرائيلي المباشر.
مجزرة الفجر
جاءت مجزرة مدرسة التابعين في غزة لتعيد المشهد إلى صورته الحقيقية وتطوي سريعا المناورة الأميركية بطرح مسار مفاوضات وقف إطلاق النار وسط لهيب المنطقة المتصاعد، فالتصعيد هو خيار نتنياهو الوحيد في الأشهر التي تسبق تولي رئيس جديد السلطة في البيت الأبيض.
واعتبرت المجزرة المروعة التي راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد إضافة إلى أكثر من 200 جريح من المدنيين الرد الحقيقي والعملي من نتنياهو على أي محاولة لمسار مفاوضات جاد يهدف إلى وقف الحرب وإجراء صفقة تبادل.
هذا المشهد الذي يفرضه نتنياهو على إدارة بايدن وعلى المنطقة قد أوصل إستراتيجية احتواء التصعيد الإقليمي الأميركية إلى أعلى مستويات الهشاشة وعدم اليقين.
وتبدو رهانات نتنياهو على عدم مقدرة ورغبة إدارة بايدن في ممارسة أي ضغوط جادة عليه لوقف الحرب قوية وتنجح في كل مرة، فحافة الموقف الأميركي هي تلك التي يفرضها نتنياهو في الواقع.
وبذلك، يكون نتنياهو قد نجح في تسخير الجهود الأميركية، بما في ذلك مسار مفاوضات وقف إطلاق النار لخدمة إستراتيجيته في إطالة أمد الحرب.
التزام إيران
ورغم ذلك فإن الالتزام الذي وضعته كل من إيران وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن بالرد على التصعيد الإسرائيلي الأخير يضع رهانات نتنياهو باللعب على حافة الهاوية في اختبار جاد، وقد يكون غير مسبوق، فمعادلة إيران تجاوزت الحرب في غزة، وباتت متعلقة بأمنها القومي وسيادتها وسلامة أراضيها ومسؤوليها.
كما أن تجاوز خطوط حمراء جديدة مع حزب الله باستهداف قيادته في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت ينقل التصعيد في الجبهة الشمالية لإسرائيل إلى مرحلة متقدمة أيضا.
وقد يشكل عنصر التزامن في استفزاز عناصر محور المقاومة -بمن في ذلك الحوثيون باليمن- هو أحد السيناريوهات التي لم يكن نتنياهو يرغب في مواجهتها، وهو المشهد الذي يعقّد المهمة على الولايات المتحدة ويرفع احتمالية فشلها في ضبط إيقاع التصعيد.
ومما يبدو أن الأداة الدبلوماسية الرئيسية التي أرادت إدارة بايدن توظيفها في احتواء التصعيد أغرقها نتنياهو في دماء الفلسطينيين في مدرسة التابعين.
كما أن تجربة إيران في ردها على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل/نيسان الماضي لم تكن مشجعة لمحور المقاومة على مستوى النتيجة النهائية.
وأظهرت طبيعة الضربة الإيرانية ونطاقها بابتعادها عن استهداف المناطق السكنية والمرافق الحيوية في عمق دولة الاحتلال أن إيران قد استجابت نسبيا لجهود خفض التصعيد التي قادتها الولايات المتحدة آنذاك، على أمل أن تشكل تلك الجولة من التصعيد المتبادل رادعا لإسرائيل يمنعها من تكرار استهداف المصالح الإيرانية والمساس بسيادتها.
لكن اغتيال هنية وسط طهران وفي مرافق تابعة للحرس الثوري الإيراني يدفع إيران إلى إعادة حساباتها فيما يتعلق بالموقف الأميركي، سواء قدرته على ضبط الاحتلال أو رغبته في القيام بذلك.
التورط في المنطقة
إن انحصار أدوات إدارة بايدن في احتواء التصعيد بالمنطقة عبر مضاعفة الجهود العسكرية لصد الهجوم الإيراني المحتمل يزيد احتمالية أن تعود الولايات المتحدة إلى حالة التورط في صراعات عسكرية بالمنطقة.
ومن جانب آخر، فإن جهود الولايات المتحدة العسكرية ستتطلب جهدا وتعاونا من حلفائها في المنطقة، مما سيسبب لهم حرجا بالغا، وقد تؤدي إلى مزيد من التوترات بين هذه الدول وإيران.
وقد كان الأردن أول من تحرك في محاولة لخفض التصعيد، نظرا لحجم الحرج والضغط الذي سيقع على المملكة في حال ساهمت في جهود التصدي للهجوم الإيراني المحتمل، وهو ما تراعيه إدارة بايدن وتعمل على تجنب تحميل حلفائها مزيدا من الضغوط التي يفرضها نتنياهو على الجميع.
أما المعطى الأكثر حساسية في هذه الجولة المحتملة من التصعيد فهو أن مسار الصراع قد يعتمد على حسابات إيران أكثر من حسابات إسرائيل، وهو ما يعد أحد أكبر العوائق أمام الولايات المتحدة التي قد تجد نفسها أمام خيارين، تصعيد إقليمي أوسع أو دور إيراني أكبر في رسم مقاربة لخفض التصعيد الإقليمي، بما في ذلك الحرب على غزة.
وبلا شك أن كلا الخيارين لم تكن إدارة بايدن ترغب في الوصول إليه، فخيار أن تدخل إيران على خط التفاهمات الشاملة لخفض التصعيد ووقف الحرب على غزة قد يحسّن ظروف المقاومة الفلسطينية ويكسب إيران دورا فاعلا.
لكن الأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة ونتنياهو أن تفرض إيران خيار التصعيد لفترة ممتدة من الزمن تستعيد من خلالها هيبتها ومعادلة الردع، وفي الوقت نفسه أن توظف هذا الخيار في دعم موقف الفلسطينيين التفاوضي.