فيلم “رجال متوحشون” (Wild Men) 2022، تم عرضه لأول مرة في 6 مايو/أيار الماضي، وفاز بجائزة مهرجان ريكيافيك السينمائي الدولي لعام 2021، بعد أن قدم “كوميديا مجنونة ورائعة، في قالب مثير وغير مسبوق”، للمخرج الدانماركي توماس دانسكوف، تناول فيها أزمة منتصف العمر، بأداء مثالي للنجم راسموس بيرغ “الذي لعب دور (مارتن) بشكل ممتع”، كما تقول الناقدة السينمائية كاث كلارك.
مارتن، الموظف البسيط، المتزوج والأب لطفلين، الذي يعيش في ضواحي المدينة، بإحساس من الغضب والارتباك، وكأنه طفل يرفض الامتثال، غير راضٍ عن وضعه الحالي، ولكنه غير متأكد مما يريده حقا، ويعاني من تقلبات وأزمات تجعله ينفصل عن الواقع، ويتقمص شخصية صياد من الفايكنغ، يتجول في البرية مرتديا جلود الحيوانات، وقد تسلح بفأس وقوس وسهام، كما كان أسلافه يفعلون منذ آلاف السنين.
وبعد أن كان يشارك في سباقات الماراثون وركوب الدراجات، يجد نفسه ما يزال يشعر بأنه ميت من الداخل، مما يدفعه إلى أن يُخبر زوجته آن (الممثلة الدانماركية، صوفي غروبول)، بأنه ذاهب إلى اجتماع عمل، لكنه بدلا من ذلك، يرتدي فراء غزال ويمتشق قوسه، ويهرب بعيدا إلى الجبال المغطاة بالثلوج، ليبحث عن معنى الحياة، ويُحيي تراث أجداده “دون أن يتخلى عن جهاز الـ”آي فون” الخاص به”، ويسطو دون قصد على محطة بنزين، بعد أن دخلها طلبا للطعام والشراب، وهو يرتدي زيه المثير للاستغراب.
كفاح الرجال من أجل النضج
بعد افتتاحية رائعة، اختصرت الحالة المزاجية لمجتمع نادرا ما تتطابق فيه المثل العليا والآمال مع الواقع، في مشهد يعود بنا إلى زمن الفايكنغ، مع صياد ضخم يرتدي لباسا خشنا، لكنه صياد فاشل “يطلق رصاصة في محاولة لصيد غزال، ثم يكتفي بضفدع يتناوله على العشاء”، وفي حالة يأس، ينحدر من الغابة للحصول على طعام ملائم من بقالة صغيرة، فيتورط في سرقته.
لنتابع بعدها، مشاهد تدور في الغالب في ضوء النهار الساطع، على مدى ساعة و44 دقيقة “كفاح الرجال من أجل النضج، ورفض تعقيدات العولمة الحالية، وتخطي الشعور بانعدام الأمن وخيبة الأمل، ولكن بخلفية خلابة ساحرة”، كما يقول الناقد السينمائي ديف كننغهام.
كوميديا إجرامية تخطف القلوب
رغم أجواء المغامرة التي تأخذ مارتن في جبال النرويج، حيث المناظر الطبيعية الجليدية المهيبة، لكنه ما يزال يشعر أنه أسوأ فايكنج في العالم، بعد أن يجد نفسه في الجانب الخطأ من القانون، لتورطه في سرقة محطة البنزين، حتى يتقابل مع موسى (الممثل الدانماركي، زكي يوسف)، المجرم الهارب من الشرطة والعصابة، والمصاب بجروح خطيرة إثر اصطدامه بسيارة مسروقة، والتخلي عن شركائه وهم يحتضرون، قبل فراره بحقيبة من الأموال التي يبدو أنهم استولوا عليها بعملية سطو، فيبذل مارتن قصارى جهده لمعالجته وإنقاذه.
وبظهور موسى، يُشكل هذا الثنائي الضائع نموذجا للهروب، ليس من شركاء موسى السابقين، والسلطات الممثلة في قائد الشرطة المتقاعد أويفيند (بيورن صندكويست)، الذي يبحث عنهما وحسب، ولكن أيضا من عدد من الحقائق التي سيتحتم عليهم مواجهتها في النهاية، بعد مجموعة من المشاهد المضحكة للغاية.
ويأتي هذا في إطار من حرص المخرج دانسكوف، والكاتب المشارك مورتن بابي، على تجنب انتقاد موقف الذكور المليء بالقلق، وتوظيف المناظر الطبيعية الخلابة التي تشتهر بها النرويج بشكل خاص، وروح الدعابة السوداء المعروفة في الدول الأسكندنافية بشكل عام، لتقديم تجربة ممتعة، تأخذك في رحلة غير متوقعة لاكتشاف الذات، عبر “كوميديا إجرامية تخطف القلوب، بينما يحتضنك فريق التمثيل الرئيسي في عناق دافئ، رغم ما فيها من عنف ودماء أكثر من المتوقع”، يُذكّرنا بمزيج من فيلمي، “فارغو” (Fargo) 1996، إخراج الأخوين كوين، و”البحث عن وايلدر” (Hunt for the Wilderpeople) 2016، للمخرج النيوزلندي تايكا وايتيتي، بحسب وصف النقاد.
أحمق محبوب وإنسانية راسخة
ما يجعل هذا العمل ممتعا بشكل مُبهج، من وجهة نظر الناقدة السينمائية ويندي إيدي، هو أنه على الرغم من أن محنة مارتن المأساوية هي محور التركيز الأساسي، فإن المخرج والكاتب المشارك “تعاملا بلمسة رقيقة واهتمام غير عادي مع الشخصيات الداعمة”، وخصوصا زوجة مارتن الممزقة بين اثنين من المشاعر العاطفية، هما الأطفال من ناحية، والزوج الذي يفضل العيش في المغامرات والأوهام، على تحمل مسؤولياته الأسرية والزوجية، من ناحية أخرى.
وكذلك ضابط الشرطة المخضرم أويفيند، كأحد أبرز الشخصيات التي نالت إعجاب المشاهدين، لما أظهره من روح دعابة ساحرة، ضمن ضباط الشرطة الذين يكافحون لتوفير الراحة لأطفال مارتن، وهم يبحثون عن والدهم.
أيضا، أبدع المخرج دانسكوف في تقديم “كوميديا تأتي من الجمع بين الخفة والتأثير الرائع، من خلال رفقة مضحكة قدمت بعض المشاهد المذهلة التي لا تتوقف أبدا عن الدهشة”، فرغم روعة أداء مارتن كبطل للرواية، لكن أداء موسى ليس أقل إثارة، كشخص يبدو رقيق القلب بشكل ملحوظ، ويحاول تغيير شكل حياته ولو بطرق غير مألوفة، ويكون هذا هو القاسم المشترك الذي ربط بينهما وشجعهما على الاستمرار.
كما حرص دانسكوف على إظهار محاولات مارتن الفاشلة للبحث عن الطعام بشكل تجاوز روح الدعابة، لصالح دعم الإحساس بضعف الشخصية وإنسانيتها، مما جعل مارتن أحمق محبوبا يكسب عطف الجماهير وتشجيعهم، وجعل “الإنسانية الراسخة في جوهر هذا الفيلم هي التي ترفعه إلى شيء مميز حقا”، على حد قول الناقد السينمائي، أندرو موري.