رواية بوتين المفضلة.. كتبها سياسي روسي وتنبَّأت بغزو أوكرانيا
مقدمة الترجمة
لا شيء يشغل العالم الآن مثل قراءة ما يدور في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لماذا قرَّر غزو أوكرانيا الآن؟ وما خطوته التالية؟ ومن أين يستمد رؤاه وتحرُّكاته الإستراتيجية؟ يُسلِّط هذا المقال الضوء على رواية ذائعة الصيت في أوساط النخبة الروسية كتبها عضو سابق في مجلس الدوما، وتنبَّأ خلالها بالكثير من التحركات الروسية مؤخرا وأهمها غزو أوكرانيا. الأمر الأكثر إثارة ورعبا بخصوص الرواية أنها تُخبرنا بوضوح أن أوكرانيا ليست الهدف الوحيد أو النهائي في طريق موسكو نحو “الإمبراطورية الثالثة”.
نص الترجمة
لا يسع أيٌّ مِنَّا أن يقرأ عقل بوتين، لكننا نستطيع أن نقرأ الكتاب الذي تنبَّأ بملامح السياسة الخارجية الإمبريالية للزعيم الروسي، حيث خطَّ الكاتب الروسي “ميخائيل يورييف” عام 2006 رواية “الإمبراطورية الثالثة: روسيا كما يجب أن تكون”، وتوقَّع بدِقة مثيرة للدهشة إستراتيجية روسيا في شن الحروب الهجينة، وحملاتها العسكرية الأخيرة؛ ومنها حرب جورجيا عام 2008، والاستحواذ على شبه جزيرة القرم عام 2014، والتوغُّل العسكري في “دونيتسك” و”لوغانسك”، ثمَّ غزوها لأوكرانيا المستمر حتى الآن.
تُعبِّر رواية “يورييف”، مثلها مثل حرب بوتين في أوكرانيا، عن الأيديولوجيا اليمينية المتطرِّفة المُعادية للديمقراطية والغرب التي ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتستلهم رؤاها من العصور الوسطى، وتولي “الحضارة الأرثوذكسية الروسية” دورا مُهَيمنا على أوروبا والولايات المتحدة. والمؤلِّف “يورييف” هو رجل أعمال وعضو سابق بالبرلمان الروسي (الدوما)، وافته المنيَّة عام 2019، وكان عضوا في المجلس السياسي لحزب “أوراسيا”، الذي يسعى إلى نظام اجتماعي إقطاعي تتربَّع على عرشه طبقة سياسية تحكُم بالحديد والنار.
وقد عرف بوتين و”يورييف” بعضهما بعضا، ويُشاع أن رواية “الإمبراطورية الثالثة” رائجة ومؤثِّرة جدا في أوساط الدوائر السياسية المُحيطة بالرئيس الروسي، حتى وصفتها صحيفة “فِدوموستي” الروسية بأنها “كتاب الكرملين المُفضَّل”.
روسيا 2054.. على عرش العالم
تتكوَّن الرواية من أحداث يرويها مؤرِّخ برازيلي بدءا من عام 2054، إذ يصِف المؤرِّخ (صوت الرواية كما اختاره “يورييف”)* النهضة الروسية التي أطلقها الزعيم الروسي المُجدِّد “فلاديمير الثاني”، وأكملها خَلَفُه “غافريل العظيم”. وطبقا للرواية فإن الإمبراطورية الأولى هي دولة القياصرة الروس (التي انتهت باندلاع الثورة البلشفية عام 1917)*، والإمبراطورية الثانية هي الاتحاد السوفيتي. تحل شخصية “يوسف العظيم” محل الزعيم السوفيتي “جوزيف ستالين” الذي أثنى “يورييف” على ما قدَّمه من غزو أراضٍ جديدة وسحقه النُّخَب التافهة وأعداء روسيا في الداخل، وذلك أثناء حملات “التطهير الكبير” التي اضطلع بها السوفييت في ثلاثينيات القرن الماضي، وهجَّروا بواسطتها شعوبا كاملة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية حتى طال بعضها الموت الجماعي.
على مدار العشرين عاما السابقة، اضطلع الكرملين بمشاريع لاستعادة خصائص تلك النزعة الستالينية، وإعادة الترويج للديكتاتور البائد بوصفه مُديرا كفئا وحاكما عادلا رُغم وحشيّته. ويستخدم بوتين تكتيكات ستالين بالفعل في الحرب الحالية أيضا، فقد أفادت السلطات في مدينة “ماريوبول” أن القوات الروسية تقوم بالتهجير القسري لقاطني المدينة. (وتجدر الإشارة إلى أن سياسات التهجير العِرقي الستالينية تلك متجذِّرة في أساليب روسيا المُستخدَمة في الشيشان، وكذلك في سوريا طيلة الأعوام العشرة الماضية)*.
في مُستهَل رواية “الإمبراطورية الثالثة”، تندلع انتفاضة موالية لروسيا برعاية الكرملين في أوكرانيا، وتسعى بدورها إلى “الاتحاد من جديد مع روسيا، ونبذ الاندماج مع الاتحاد الأوروبي المفروض على البلاد (كما تفترض الرواية)*، وكذلك رفض حلف الناتو المُعادي لروسيا”. وتؤدي تلك الانتفاضة إلى حرب غير مُعلَنة بدخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، وسرعان ما تُعلِن تسعة أقاليم في شرق وجنوب البلاد سحب اعترافها بالسلطات الأوكرانية والانتماء لدولة أوكرانيا، وتأسيس “جمهورية دونيتسك والبحر الأسود” الموالية لروسيا، والأقاليم هي القرم ودونيتسك ولوغانسك وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرة روسيا الفعلية اليوم.
تستمر أحداث الرواية بإجراء استفتاء في تلك الجمهورية ينتج عنه “تصويت 82% من السكان لصالح الانضمام إلى روسيا”، في حين يُصوِّت 93% من الروس في روسيا لصالح “انضمام شرق أوكرانيا إلى روسيا”. ولعلها ليست مُصادفة أنه أثناء استحواذ روسيا على القرم عام 2014، وتوغُّلها في دونيتسك ولوغانسك؛ تبنَّت القوات الروسية أساليب مُشابهة في تسويغ حيازة الأراضي الأوكرانية، إذ ادَّعت أن الأمر بدأ بمُبادرة من السكان المحليين.
منذ عام 2008، ادَّعى بوتين مرارا وتكرارا أن أوكرانيا “ليست دولة أصلا”، واستند منطقه في ذلك إلى ما خطَّته رواية “يورييف” بالفعل على لسان أحد أبطالها، “جافريل”، الذي “رفض الإقرار بأن الأوكرانيين والبيلاروس شعوب منفصلة عن روسيا”، حيث يرى “جافريل” أن “محاولات تعريفهم بوصفهم عِرقيتين منفصلتين عن العِرق الروسي ما هي إلا جزء من خطة غربية منذ قرون تسعى لتدمير روسيا”.
رُغم أن “يورييف” لم يستشرف في روايته حملة العقوبات المُنهمِرة ولا الوقفة الموحَّدة التي وقفتها الدول الغربية بوجه الغزو، لكنه استشرف بالفعل استعداد روسيا لممارسة الابتزاز النووي. ففي الرواية، تنتصر روسيا في الحرب العالمية الثالثة بسبب خشية الغرب من الحرب النووية، و”يتردَّد القادة الأميركيون في شنَّ هجوم نووي بالفعل، في حين يُبدي الروس استعدادهم لاستخدامه دون تراجع” (وفقا لأحداث الرواية)*. ولعل بوتين يُعوِّل على ما استشرفه “يورييف”، إذ إن الرئيس الروسي ما انفك يُهدِّد العالم بترسانته النووية طيلة السنوات القليلة الماضية. على سبيل المثال، قال بوتين عام 2018 إنه في حال نشوب معركة الفناء تلك، “فسيصير الروس ضحايا وشهداء، وسيذهبون إلى الجنة”، وأن الغرب بدوره “سينعق” ليس إلا، “ولن يجد الوقت الكافي للنَدَم”. قِلة هُم الزعماء الذين يتناولون حيوات شعوبهم بهذه الدرجة من الاستخفاف الصريح.
بين الواقع والخيال
نسج خيال “يورييف” أيضا كيف أدى اعتماد أوروبا على صادرات الطاقة الروسية إلى تقييد قدرتها على الإمعان في مُعاقبة روسيا. وترد تصريحات على لسان بطل الرواية “فلاديمير الثاني” تختلف بالكاد عن خُطَب بوتين الحالية، حيث يقول “فلاديمير الثاني” ساخرا في حوار مع محاوِرة تلفاز فرنسية: “نحن لا نعجبكم؟ حسنا، تعالوا وحاربونا واغزونا، أو ارفضوا شراء منتجات الطاقة الخاصة بنا مثل النفط والغاز حتى نموت نحن جوعا”، وهو ما يُعلِّق عليه المؤرِّخ البرازيلي، الراوي لأحداث الرواية، قائلا إن خسارة النفط الروسي سترفع الأسعار و”تهوي بالاقتصاد الأوروبي”.
لقد طرح بوتين حُجة مشابهة عام 2014 عن سيناريو مُضي أوروبا قُدُما دون النفط والغاز الروسي، إذ قال: “إن الأمر سيقتل ببساطة قدرتهم على المنافسة”. والحق أن الرجل على صواب، فقد قاوم المستشار الألماني “أولاف شولتز” الضغط الدولي لمقاطعة واردات الطاقة الروسية، وهو يواصل شرح “أهميتها القصوى” للاقتصاد الأوروبي (والألماني في القلب منه)*.
في روايته الصادرة عام 2006، توقَّع “يورييف” أن رد فعل الغربي على الغزو الروسي للقرم وشرق أوكرانيا سيكون تهدئة الروس واسترضاءهم، وهو ما حدث بالفعل عام 2014 حين فُرِضَت عقوبات هزيلة على روسيا. الأهم هُنا أن “يورييف” توقَّع أيضا ألا تتوقَّف روسيا عند حدود الضمِّ الجزئي لأراضي أوكرانيا، وهو ما تُثبته أحداث الغزو المستمر منذ أسابيع (وإن كانت روسيا قد تراجعت عن مهاجمة كييف وخاركيف برًّا في الوقت الراهن، فإنها تظل مُتمسِّكة بهدف إسقاط إدارة زيلينسكي وتواصل هجماتها الجوية على العاصمة)*.
في خضم محاولاتها لوقف الحرب وقلقها من العدوان الروسي، قد تسعى الدول الغربية إلى الضغط على إدارة “زيلينسكي” كي تقبل ببعض شروط روسيا، وهو أمر توقَّعه “يورييف” أيضا حين أشار إلى قدرة روسيا على الاستفادة من الدبلوماسية الأوروبية في خضم الأحداث الموازية التي تسردها الرواية، قائلا إنه “رُغم عدم الاعتراف رسميا بضمِّ روسيا شرق أوكرانيا، فإن الخط الفاصل الذي اتفق الطرفان على ألَّا يتجاوزانه جرى تثبيته فعليا”.
تسرد صفحات “الإمبراطورية الثالثة” الطموحات الجيوسياسية الروسية التي تُجبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الأخير على إعلان الحرب. ويتخيَّل “يورييف” أن هنالك سلاحا سريا بحوزة روسيا يجعلها بمنأى عن الهجوم النووي، ومن ثمَّ يستسلم في الأخير الأميركيون والأوروبيون، ويسقط العالم تحت قبضة الهيمنة الروسية. (ويحاول بوتين بالفعل تغيير منطق الردع النووي المُتبادَل بأساليب مختلفة بتطوير منظومة صاروخية أسرع من الصوت أوضحها بنفسه في ديسمبر/كانون الأول 2018، قائلا إنها “منيعة بوجه منظومات الصواريخ والدفاع الجوي لأي عدو مُحتمَل، وبمنزلة هدية مُذهلة لبلدنا”).
تصل أحداث الرواية إلى ذروتها حين ينطلق موكب في الميدان الأحمر أو الساحة الحمراء بالعاصمة موسكو، إذ يُجبَر قادة الدول المهزومة على السير أذِلَّاء، ومنهم شخصيات من النخبة السياسية الأميركية هُم “جورج بوش الثالث” الرئيس الأميركي (في أحداث الرواية)* والرؤساء السابقون “بيل كلينتون” و”جورج بوش الابن”، مع وزراء ومُشرِّعي الكونغرس الأميركيين، وكذلك العاملون بالصرافة والصناعة، وكُتَّاب الصحف ومذيعو التلفاز المشهورون، والقضاة البارزون، وأشهر عارضات الأزياء ومغنو البوب وممثلات هوليود. ويسير هؤلاء جميعا مُكبَّلين، حتى يعلم الروس والعالم بأسره أن روسيا حاربت، ولم تنتصر فحسب على الجيش الأميركي، بل وعلى الحضارة الأميركية كاملة.
بتلك المشاهد الخيالية يُقدِّم لنا “يورييف”، (وهو ليس محض روائي بل عضو بالبرلمان كما ذُكِر آنفا)*، طريقة تفكير بوتين والعديد من المُقرَّبين منه حيال الغرب والدول المجاورة لروسيا. ولعل بوتين لا يتطلَّع بطبيعة الحال إلى أسر كلينتون بسلاسل حديدية عبر الميدان الأحمر، لكن مربط الفرس هُنا هو أن الحرب، إذا ما نجحت في أوكرانيا، لن تتوقَّف عند ذلك الحد، بل ستتمدَّد بالقوة الروسية إلى داخل أوروبا قدر الإمكان.
وحتى إذا نجم عن تراجع روسيا العسكري مؤخرا هزيمتها العسكرية في أوكرانيا، فإن بوتين قد يهاجم واحدة من دول البلطيق لتقويض حلف الناتو، ولربما تُقرِّر الشعوب الغربية ألَّا تخاطر بخوض حرب عالمية ثالثة من أجل دولة صغيرة مثل إستونيا. وحين لا يستجيب الناتو عسكريا لهجوم روسيا على أحد أعضائه، فإن التفكُّك الفعلي للحلف حينئذ قد يُنقذ نظام بوتين (بما يُمثِّله من نصر سياسي له)* في خضم إخفاق مُحتمل لغزو أوكرانيا.
إن رواية “يورييف” من وحي الخيال ليس إلا بالطبع، لكنها قد تساعد في حساب المخاطر المُترتِّبة على استرضاء بوتين بالنسبة للساسة في الغرب. وقد يلعب فَهم رؤية روسيا التوسُّعية دورا مُهما في القرارات الغربية بخصوص الحرب الجارية في أوكرانيا، إذ إن أوكرانيا ليست هدف بوتين الوحيد في نهاية المطاف (كما تُنبئنا رواية “يورييف”، ومن قبلها -والأهم منها- خُطب بوتين ورؤى المُحيطين به)*.
___________________________________________
*تعليقات المترجم.
ترجمة: نور خيري
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic