لا يوجد لغز في المسألة، لقد انتحر المستشار الألماني أدولف هتلر بصحبة إيفا براون، في 30 أبريل/نيسان 1945، حوالي الساعة الثالثة والنصف ظهرا، على أريكة في غرفة المعيشة في شقتهما بمخبأ بمقر قيادته، وعلم السوفيات بذلك في الأيام التالية، واستعادوا بعض بقايا الجثث التي تمت محاولة حرقها بالكامل لإخفائها.

بهذه المقدمة، انطلقت مجلة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية لتوضيح ملابسات اختفاء هتلر التي عدت لسنوات لغزا محيرا ومثارا للتكهنات، لتفنيد ما تداوله عشاق الألغاز من أن الوحش (هتلر) أنهى حياته في مزرعة في بامبا الأرجنتينية، أو أنه أعاد تشكيل الرايخ الرابع تحت الأرض، وغير ذلك من الروايات التي تحتفي به.

 

وأوضحت المجلة -في تقرير بقلم تييري لينتز- أن فتح أرشيف موسكو في التسعينيات، أثبت أن رئيس الاتحاد السوفياتي وقتها جوزيف ستالين، كان يعرف كل شيء منذ الأيام الأولى من مايو/أيار 1945، قبل أن تصل أيدي المؤرخين والخبراء الغربيين عام 2016 إلى الآثار المروعة؛ غطاء الجمجمة بفتحة رصاصة، وبقايا من الفكين مع أطقمها وغيرها، كما أن الحلفاء كانوا مقتنعين أيضا بانتحار هتلر، وإن لم يكن لديهم دليل مادي، لأنهم جمعوا ما يكفي من الشهادات لتبديد الشكوك.

 

أدولف هتلر

ولد هتلر في 20 أبريل/نيسان 1889 بالمجر، وعاد في 16 يناير/كانون الثاني 1945 إلى برلين، ليستقر في قبو تحت قيادة مستشارية الرايخ، قبل أن تبدأ معركة برلين في 16 أبريل/نيسان، وخرج آخر مرة من القبو في 20 أبريل/نيسان للاحتفال بعيد ميلاده، وتزوج من إيفا براون في 29 أبريل/نيسان، وانتحر معها في 30 أبريل/نيسان 1945.

وحتى قبل التأكيدات الرسمية -كما يقول الكاتب- كان مصير هتلر الحقيقي معروفا وبالتفصيل، من خلال استجواب من حضروا لحظاته الأخيرة، خاصة أن معظمهم نشروا مذكراتهم، فهناك مذكرات الخادم الشخصي وقائد القوات الخاصة هاينز لينغ، الشاهد الرئيسي على اليوم الأخير لهتلر، وهناك مذكرات السكرتيرة تراودل يونغ والسائق إريك كيمبكا والحارس الشخصي روشس ميش.

تابوت خرساني

ما سماه كيمبكا “الفصل الأخير” حدث على عمق 10 أمتار تحت الأرض، في المخبأ المحفور تحت مستشارية برلين، فهناك عاش الضباط وأفراد الخدمة في ظروف صعبة، في حين كانت لدى هتلر شقة مع غرفة انتظار وغرفة معيشة ومكتب وغرفة نوم، وكانت الطقوس ثابتة، وأهمها لحظة “الاطلاع على الوضع” التي كان “الفوهرر” يحلم بأن تحمل له خبر انقسام جيوش الحلفاء.

 

هنالك أيضا -كما يقول التقرير- لحظة مجيء الجنرالات الذين يخاطرون بحياتهم بشجاعة وإن لم يحمهم ذلك من غضب قائدهم الأعلى وشتائمه، رغم أنه كان يعلم في أعماقه أن الأمر قد انتهى بعد أن منعه القصف المتواصل من الخروج للهواء، وبالتالي لم يكن هناك خيار سوى الفرار أو الموت.

اتخذ الفوهرر المحتجز في هذا “التابوت الخرساني” قرارا بوضع حد لحياته، وظهر “يجر قدميه وظهره مقوس” في وقت كانت فيه معنويات الجميع متدنية، ليعلن أنه يريد أن يموت “كأول جندي للرايخ”، رغم أن الكثيرين في المخبأ كانوا يأملون في أخذ زعيمهم إلى جبال الألب البافارية لمواصلة المقاومة هناك، إلا أنه سُمح للمرؤوسين بمغادرة برلين، في حين استقرت عائلة جوبلز في القبو بالكامل لمشاركة مصير هتلر، قبل أن ينتحر الوالدان بعد أن قتلوا أبناءهم.

غوبلز (يسار) بقي إلى آخر لحظة من حياته مع هتلر (غيتي)

جو غريب

“أصبح جو الأيام التالية أكثر غرابة” وفق ميش، الذي يضيف أن سيده بدا “منهكا وفي حالة هيجان داخلي هائل”، ولكنه أراد ترتيب شؤونه الشخصية، فتزوج أولا من إيفا براون (33 عاما) عشيقته السرية لمدة 15 عاما، التي أرادت مشاركته مصيره كزوجة شرعية، وقبل ساعات قليلة، دوّنت تراودل يونغ وصية هتلر التي ألقى فيها بلائمة الحرب على “ساسة دوليين” الذين يخدمون اليهود، واختتمها بالقرار النهائي بالبقاء في برلين، واختيار الموت الطوعي عندما لا يعود من الممكن شغل منصب الفوهرر والمستشارية نفسها.

وأوصى هتلر بأن يكون هاينز لينغ هو الذي يعطي تعليماته الأخيرة، وطلب أن تكون بطانيات صوفية جاهزة في غرفته، وما يكفي من البنزين لحرق جثتين، وقال “سأقتل نفسي هنا مع إيفا براون، وعليك أن تتلف رفاتنا في بطانيات صوفية وتحملها إلى الحديقة وتحرقها هناك”، وبقي الجميع ينتظر اللحظة المصيرية باحتساء بضعة أكواب من المسكرات.

وفي صباح 30 أبريل/نيسان، جمع هتلر خدمه في غرفة الطعام في القبو وحياهم واحدا تلو الآخر، قبل أن ينصحهم بالفرار إلى الغرب حتى لا يقعوا في أيدي السوفيات، ثم جمع الجنرالات في نفس المشهد، ورفض اقتراح طياره الشخصي هانز باور، لمحاولة إخراجه من برلين على متن الطائرة الأخيرة، في حين كانت إيفا ترتب غرفتها.

هدوء وسكينة

وحوالي الساعة الواحدة ظهرا، انضم هتلر إلى زوجته وأمناء سره في “مأدبة موت تحت قناع الهدوء والسكينة”، ثم ذهب إلى غرفة الطعام المشتركة لإجراء مقابلة أخيرة مع جوزيف غوبلز ثم الطيار باور ورئيس مساعدي المعسكر، قائد القوات الخاصة أوتو جونش. يقول لينغ “كنت خائفا، وأنا أنظر إلى الرجل الذي خدمته لأكثر من 10 سنوات بتفانٍ، ينظر إلي بعينين مرهقتين، ويقول بصوت هادئ للغاية “لينغ، سأقتل نفسي الآن، أنت تعرف ما عليك القيام به”.

 

عند الساعة الثالثة والنصف ظهرا، دخل هتلر وزوجته شقتهما، وعند سماع صوت إطلاق النار، دخل لينغ وخلفه مارتن بورمان وجونش، فوجدا “هتلر وزوجته على الأريكة وهما ميتان بعد أن أطلق هتلر النار على نفسه بمسدسه عيار 7.65 مليمترات، وبجانبه زوجته التي ماتت بسم السيانيد، وكما كان مخططا لف الرجال الجثث في بطانيات وحملوها إلى الخارج، ووضعوها في حفرة وأشعلوا فيها النار بعد أن غمروها بالبنزين.

يقول لينغ “نحن آخر الشهود، بورمان غوبلز وستومبفيغر (طبيب هتلر الشخصي) وغونش وكيمبكا وأنا. رفعنا أذرعنا اليمنى للمرة الأخيرة لـ”هتلر غروس”، ثم عدنا إلى القبو”، قبل أن يلتقط السوفيات بقايا الرفاة في فناء المخبأ في الثاني من مايو/أيار 1945.

وفي بداية مايو/أيار، أبلغ آخر المدافعين عن القبو أن عليهم محاولة عبور الخطوط الروسية للاستسلام للإنجليز والأميركيين، في حين أعلنت الإذاعة وفاة هتلر، مع كذبة أخيرة تقول إنه سقط للتو “على رأس المدافعين الأبطال عن عاصمة الرايخ”.

وقَتل وزير الدعاية وزوجته أطفالهما قبل أن ينتحرا، لأنهما -كما يقولان- يرفضون العيش في عالم يسيطر عليه أتباع الشيوعية و”البلوتوقراطية اليهودية”؛ أعداؤهم مدى الحياة، وقد قتل بورمان في الثاني من مايو/أيار مع طبيب هتلر، في حين نجحت يومغ وميش ولينغ في الخروج بسلام من المخبأ ولكنهم وقعوا في قبضة السوفيات، بينما وصل كيمبكا وحده إلى الخطوط الأميركية وأفرج عنه بعد عامين.

قضى غونش ولينغ 10 سنوات في السجون والمعسكرات السوفياتية، وساهما في إنشاء “ملف هتلر” الذي تم تقديمه لستالين عام 1949، رغم أنه كان يعرف بالفعل ظروف وفاة عدوه منذ فترة طويلة، وقد أودع بضع قطع منها في أكثر خزائن أرشيف موسكو سرية.

 
المصدر : لوبوان

About Post Author