في أمسية شتوية باردة من 2007، حزم سمسار العقارات “جون مالوف” أمره على العروج على المزاد المقام بجوار منزله. كان “مالوف” منخرطا في تأليف كتاب تاريخي وبحاجة ماسة إلى العديد من الصور القديمة، شيء ما أنبأه أنه سيجد ضالته في ذلك المكان، وبالفعل خرج من هناك وفي جَعبته صندوق من الصور يُقدّر ثمنه بـ380 دولارا ومعلومة واحدة تفيد بأن ملكية هذا الصندوق تعود إلى “فيفيان ماير” (1)(2)، تساءل “مالوف” في سريرته عمن تكون، تحقق عنها في محركات البحث فلم يجد شيئا يُذكر.
بتمهل، فتح “مالوف” الصندوق الذي يحتوي كمّا من الصور السالبة/النيجاتيف (غير محمضة)، وبنظرة فاحصة وسريعة لم يجد أيا منها ملائما لكتابه، فعاود إغلاق الصندوق بإحكام ووضعه جانبا، فيما بقي ذهنه مشغولا بما يمكن أن يفعله بتلك الصور. مرت سنوات قبل أن يفتح “مالوف” الصندوق مرة أخرى ويمسح ما حواه ضوئيا، لتُظهر الصور مشاهد لشوارع في شيكاغو ونيويورك إبان الخمسينيات والستينيات، كان بعضها شبه خال يحط عليها الحمام، وأخرى مكتظة في مدينة لا تلقي بالا لساكنيها. سيدتان تتوشحان بفراء الثعلب ويبدو عليهما الثراء أمام متاجر فاخرة، متشردون يتساقطون في الطرقات بتثاقل، ورجل بملابس رثة يلتهم شطيرة، رفات قط على الطريق، وكهل يتوكأ على عكازين، وفتاة صغيرة بوجه متسخ وعينين فائضتين بالدموع.
في صورها، لم تعمد ماير إلى تكرار الموضوعات، إلا عندما صورت الأطفال الذين كانوا تحت رعايتها، وكذا في صورها الذاتية المتأملة، أو ظلها. وفي الغالب، صوّرت ماير الصغار دون عاطفة، أفرادا غالبا ما يعانون من قسوة الشوارع والأرصفة ويقفون ويلعبون ويحدقون بريبة أو برصانة في السيدة الغريبة التي يقتصر تواصلها مع محيطها عبر الكاميرا(3).
عن عمد أو دون قصد جاءت صورها مجردة، كما لو كانت باحثة في علم الحفريات تصور كشفا عثرت عليه، بعضها سريالي وكأنها تقصد أن تستوقفنا لنتأمل فيما زال وهجه وبريقه من أعيننا بحكم العادة. تقدم لنا إحدى الصور كومة من الزجاج المتشظي على سلم من درجات خشبية، حيث يلقي الدرابزين بنمط تجريدي متعرج في شمس الشتاء القاسية. في مكان آخر، يرقد حشد صغير من قبعات النساء رأسا على عقب على الأرض فيما تتوهج ألوان القبعات الشبيهة بالجواهر تحت الضوء.
كان ما رآه “مالوف” كافيا لتجربة نشر عدد من تلك الصور على مدونته على الإنترنت لتُستقبَل بحفاوة وإعجاب(5)، عاود “مالوف” البحث عن تلك المرأة، ليجد نعيا عنها خُتم عليه بعبارة “توفيت بهدوء”، ومذيل بعنوان تتبعه في دليل الهاتف ليجد رقما، هاتفه فأخبره من تلقى المكالمة أنهم بصدد التخلص من جميع حاجيات ماير، إذ كانت تحب تكديس الأشياء، ليذهب “مالوف” إليهم على عجلة ليحصل على تلك الممتلكات قبل أن يتخلصوا منها ويعرف من تكون.
عاد “مالوف” إلى دياره هذه المرة بأكوام من الصناديق افترشت محتوياتها الأرض، من بطاقات قطار وتذاكر حافلات إلى 100 ألف صورة سالبة و700 لفة من الأفلام الملونة غير المحمضة و2000 لفة من الأفلام الأبيض والأسود غير المحمضة أيضا. ثم عثر “مالوف” على ما يشبه الوصية، قصاصة مكتوبة بخط يد فيفيان، توصي فيها من سيتولى تحميض وطبع الصور التي تركتها بضرورة إتقان العمل، ليعي “مالوف” أن تلك صناديق ضمت حياة بأكملها. ولم يملك أمام ذلك إلا التفكير في سبب التقاط كل تلك الصور وعدم إطلاع أحد عليها!
استدرجته تلك التساؤلات إلى بحث مضنٍ وشاق أجرى فيه مقابلات مع من تيسر له من الأسر والأشخاص التي عاشت بينهم وعملت لصالحهم، ليقوده ذلك فيما بعد إلى إبداع كتاب، “فيفيان ماير: مصورة الشارع” (Vivian Maier Street Photographer)، وفيلمه التسجيلي “العثور على فيفيان ماير” (Finding Vivian Maier) الذي شاركه فيه شارلي ساسكيل الإخراج وترشح لجائزة الأوسكار كأحسن فيلم طويل. الآن نعرف من هي فيفيان ماير.
عاشت ماير وحيدة، وبدا أن ما مثلته لها الصناديق كان أقرب إلى حيلة لجأت إليها لتصمم ما هو أقرب لنظام كامل، نظام حياة أخفت فيه كينونتها أو بالأحرى حقيقة من تكون، لم تختلف ماير عن تلك الصناديق التي راكمتها في انغلاقها، فلم يكن مستغربا أن يكون أول ما اعتادت أن تطالب به أرباب عملها هو قفل منفصل لحجرتها ونهيها لأي كان عن أن يطأ بقدمه حدود مساحتها الشخصية.
تحدثت ماير كذلك بلهجة قارية مفتعلة، مدعية أن فرنسا هي مسقط رأسها، متجاهلة أنها ولدت في مدينة نيويورك عام 1926 لأبوين مهاجرين، لم تأتِ على ذكرهما أو الحديث عن أصدقائها القدامى لأحد ولو عرضا، ليميط “مالوف” اللثام قليلا حولها قائلا إن والدتها كانت فرنسية، وإن كلا الأبوين مُتوَفٍّ، ولها أخ يكبرها كذلك قد لاقى المصير نفسه، وإن جميع أفراد أسرتها قد تفرقوا عن عصب العائلة(6)، ولها عمة واحدة أوصت بكل ما لديها لصديقتها رغم أن ماير كانت لا تزال حينها على قيد الحياة.
اعتادت ماير على حجب اسمها الحقيقي عن أصحاب المتاجر الذين تعاملت معهم، لتنشر أسماء زائفة لها في جميع أنحاء المدينة. يتذكر أحدهم في الفيلم سؤالها عما تفعله من أجل كسب قوت يومها وردها: “أنا -نوعا ما- جاسوسة”. لربما كانت كذلك حقا ولو في حلم يقظة داهمها واستغرقت فيه لوقت غير معلوم، فتسمرت على إثره في أحد المنعطفات الخارجية بطول قامتها وزيها المكون من قمصان رجالي ومعطف شتوي وحذاء ثقيل، والكاميرا التي استقرت حول عنقها دائما لتحملها في كل مكان، كأنها كانت وسيلتها الخاصة لتدوين مذكراتها.
جليسة أطفال من نوع خاص
عملت فيفيان في بداياتها في مصنع للحياكة، ثم أدركت يوما ما أنها تريد أن تكون في العالم الخارجي تحت ضوء الشمس، لذا راقها العمل مُربّية لما وفره لها ذلك من حرية، فكانت تصحب الأطفال بشكل يومي أو شبه يومي في جولات ممتدة يتململ فيها الصغار من مربيتهم التي تنسحب إلى التقاط الصور. لم تكن خائفة من زيارة أصعب المناطق وأكثرها تدهورا في شيكاغو، بشكل منتظم، لتصور حتى أولئك المنبوذين الذين قد يعبر معظم الناس الشارع لتجنبهم.
في عام 1959، أطلعت ماير رب عملها أنها ستسافر حول العالم وستعود في غضون 8 أشهر، لتُلتقط صورا في البلدان التي زارتها. سوريا وبانكوك والهند وتايلاند والصين واليمن ودول أميركا اللاتينية، كانت محطات ضمن رحلة استكشاف فردية من صنعها بالكامل، بدأت فيها ماير في التصوير بالألوان، لتمسي التفاصيل المروية التي انجذبت إليها طوال حياتها المهنية فجأة أكثر مرحا: كامرأة ترتدي ملابس حمراء أنيقة، وطفلين يقفان في معرض فني بشيكاغو.
يعلق المصور “فان ديك” على صورها في تلك الحقبة قائلا: “إنها تصوب ناظريها نحو الملمس واللون. ليس فقط ما يحدث في الشارع، ولكن أيضا الإطار والتكوين ونمط لباس الشخص وطريقة وقفته، والخطوط الأفقية والعمودية للكادر وحجم كل شيء”. ويدون المصور “جويل مايرويتز” في مقدمة كتاب “فيفيان ماير: لون العمل” (Vivian Maier: The Color Work) للمؤلف “كولين ويستيربيك” أن ماير كانت “شاعرة في التصوير الفوتوغرافي الملون، يمكنك أن ترى في صورها أنها كانت دراسة موجزة للسلوك الإنساني أو لحظة انكشاف لوميض أو إيماءة أو مزاج تعابير الوجه، امرأة حولت الحياة اليومية في الشارع إلى وحي لها”. إحدى الصور التي يمكن فيها رؤية لمحة لماير تظهر وجهها في مرآة مهملة موضوعة على باقة من الزهور على جانب الشارع، لتذكرنا أنها كانت امرأة غامضة إلى حد ما وستبقى كذلك(7)(8).
تنم صور ماير برمتها عن عينين مستطلعتين، نهمتين إلى معرفة المزيد عن كل شيء، متلصصتين أحيانا ليخرج ذلك في لقطات أُخذت خلسة، وجريئتين في صور أخرى أُخذت من مسافة قريبة مباشرة دون تردد لما أثار انتباهها. يدور عملها بالكامل حول توثيق ما استرعاها دون تخطيط مسبق، وهو ما رأته المصورة “ماري إلين مارك” حينما قالت: “أعمال فيفيان ماير تحوز على تلك الملكات الخاصة بالإدراك الإنساني والدفء وروح الدعابة والإحساس بالمأساة، إنها تنظر فقط إلى الحياة وتلتقط اللحظات الحقيقية. قلة من الناس يعرفون كيفية التصوير بهذه الطريقة”.
كان نوع الكاميرا التي رافقت ماير بشكل شبه مستمر هو “الرولوفليكس” (Rolleiflex)، قيل إنها تعود لوالدتها. تلك كاميرا يمكن تمويهها وإخفاؤها بين طيات ردائك بإبقائها على مستوى الخصر دون رفعها للأعلى لالتقاط الصورة، ساعد ذلك ماير على التصوير من الأسفل؛ ما جعل الأشخاص فيها يبدون كأباطرة.
عن العفوية واللمسات الجمالية
اهتم المؤلف “كيفن كوفي”، في ورقته البحثية “في غير محله.. أخلاقيات وصور فيفيان ماير” (Misplaced: ethics and the photographs of Vivian Maier) بتشريح الكاميرا التي امتلكتها ماير، قائلا(9): “ما يميز عمل ماير باستخدامها لتلك الكاميرا هو الإطار المربع والعدسة ذات البعد البؤري الثابت، والعدستين المزدوجتين وتأثير المنظر على شاشة العرض، والتي أتقنتها جميعا. تستفيد صورها من الشخصيات الفردية أو المجموعات أو الانعكاسات الخلفية في واجهات المحلات بشكل كبير من التنسيق”.
يتجانس أسلوب ماير مع “روبرت فرانك”، أحد رواد التصوير الفوتوغرافي، الذي كان مفتونا بلوحات “إدوارد هوبر”. كان فرانك أبا روحيا لِما أصبح معروفا في أواخر الستينيات باسم “اللمسة الجمالية”، وهو أسلوب شخصي مرتجل سعى إلى التقاط شعور العفوية في الصور (10). كان لتلك الصور تأثير عميق على الطريقة التي بدأ بها المصورون في الاقتراب ليس فقط من مواضيعهم، ولكن أيضا مِن إطار الصورة نفسها.
باستخدام ماير لـ”رولوفليكس” (Rollieflex) الأكبر حجما، كانت لديها قدرة متزايدة على قراءة المشهد، وسهولة في الحركة داخل محيطها، وعلاقة أوطد مع مواضيعها. بعد سفر ماير، لم تعمد بشكل أساسي إلى تصوير الأشخاص والمواقف المألوفة لها شخصيا، بل سعت إلى مواضيع اجتماعية في رحلاتها الحضرية، إذ كانت وجهة نظرها تجاه مَن تصورهم مرتبطة بهم بوصفها واحدة من الطبقة العاملة، لتقدر حياة تلك الطبقة الكادحة من منظور داخلي. (11)
حول الجانب المظلم لفيفيان ماير
تتعارض أقاويل الذين كانوا بالأمس صغارا تعتني بهم ماير بين من وجدها ملهمة وعطوفة، وآخرين مكثوا في جانب معتم مزقت فيه ماير الصورة النمطية للمربية، إذ كانت فيه امرأة قاسية تشير قصتها إلى احتمالية أن تختار المرأة عملا كمربية الأطفال لأن لها منفعة اقتصادية وليست عاطفية. تتذكر إحداهن أن ماير كانت كثيرا ما تفقد أعصابها وتبرحها ضربا بعنف وتقذفها بكل ما تطوله يداها من أشياء، إلى أن وصلت إلى سن التاسعة واستطاعت للمرة الأولى أن تدافع عن نفسها. تتذكر أخرى إصرار ماير على إنهاء صحن طعامهم، وأنها عمدت إلى حشو فمهم ببقايا الطعام وخنقهم حتى يبتلعوه، وأنها لم تمتلك حسا كبيرا بالمسؤولية، إذ تخلت عن طفلين دون مقدمات في مفترق أحد الطرق، وأن آخر تعرض لحادث سير فأخذت تلتقط صورا له، لتؤكد إحداهن بمرارة أن تلك المرأة لا بد أنها عانت من مرض عقلي.
كنّزت ماير حزما من الجرائد في غرفتها وفي الباحة الخلفية لكل بيت أقامت فيه، اعتادت على قراءة النيويورك تايمز والإلمام بالسياسة، وكثيرا ما ترددت على المتاجر وسألت من يصادفها عن آرائهم في الأوضاع السياسية والاجتماعية. قصت واحدة من النساء التي عملت لديهن ماير واقعة كانت فيها ماير في الخارج، سألها أحد الجيران أن تمنحه بعض الصحف لأنه يقوم بطلاء بيته، فمنحته رزمة من الجرائد ونسيت الأمر برمته، عادت ماير فراعها رؤية تلة الصحف في الباحة الخلفية وقد انخفض ارتفاعها نسبيا، ففقدت رشدها وظلت تصرخ على صاحبة المنزل كيف يمكن أن تفعل بها شيئا كهذا، وصاحت في جارهم حتى أعاد لها الصحف الملطخة بالأصباغ. وبسبب تلك الحادثة فقدت ماير آنذاك وظيفتها.
كما كانت ماير تتوجس من الرجال، لاحَظ كل من عرفها رهابها من أن يتم لمسها. ذات يوم ظلت تردد على مسامع فتاة أن تحذر من الرجال وتبتعد عنهم. فما الذي تعرضت له ماير في طفولتها حتى تعتنق ذلك المبدأ؟ وكيف كانت علاقتها بذويها؟ وما الذي حدث لها وكان كفيلا بتحميلها بكل تلك الظلال التي تتبعتها ووصمت شخصيتها؟ هذا ما لن نعرفه على وجه اليقين، وسيظل دائما عرضة للتكهنات.
في أواخر عمرها، عانت ماير من العوز، واستحكمت عليها الوحدة في شيخوختها. أُنذرت بالطرد من الشقة التي كانت تقطنها، فاستأجر لها الأخوان “غينسبورغ” اللذان اعتنت بهما ماير في طفولتهما شقة صغيرة في ضاحية أخرى وضعت فيها العديد من صناديقها. اعتادت ماير الترجل من شقتها والسير بضع خطوات للجلوس على مقعد خشبي في المنتزه. في نوفمبر 2008، انتابها الدوار وسقطت على الجليد فشج رأسها، قَدِم المسعفون لنقلها إلى المستشفى، أفاقت قليلا وظلت تردد بخفوت أنها تريد العودة إلى شقتها فحسب. لم تتعافَ ماير بعد ذلك كليا، وأطبقت جفنيها بهدوء للمرة الأخيرة بعد عدة أشهر من تلك الحادثة في دار للعجزة.
________________________
المصادر:
- Why Is The Photography Of Vivian Maier So Popular?
- Vivian Maier Street Photographer, John Maloof
- Vivian Maier: Anthology review – the attentive, intimate images behind the myth
- جماليات الصورة، جاستون باشلار. د.غادة الإمام. دار التنوير
- Vivian Maier: The enigma behind the camera
- What Vivian Maier Saw in Color
- Vivian Maier: early colour photos that belied a wry personality
- (2018) Vivian Maier: The Color Work, Colin Westerbeck
- Misplaced: ethics and the photographs of Vivian Maier
- Robert Frank Dies; Pivotal Documentary Photographer Was 94
- Vivian Maier and the Problem of Difficult Women
- Vivian Maier: Out of the Shadows, Richard Cahan, Michael Williams (2012)
- Vivian Maier and the Problem of Difficult Women