هل يحتمل أي بلد عربي كل هذا الكم من الحب والحرب الذي تحكيه القصص اللبنانية في سياق حي متداخل كالذي اعتدنا أن نستقبله من البلد المدمر المليء بالحب؟ بالتأكيد لا.

تلك الروح، التي تغطي مجموعة من الأفلام، أصبح حتى المشاهد العادي يتوقع قدومها من لبنان، قبل أن يدرك لغة أبطالها.

 

لفت فيلم “البحر أمامكم” الأنظار، وذلك في أثناء عرضه في أيام القاهرة السينمائية، لدرجة جعلت البعض يطالب بإعادة عرضه بعد انتهاء الدورة رغم القسوة التي تحملها قصته ومدى واقعيتها، في وقت تتزايد فيه هشاشة شبابه أمام الحرب الداخلية.

الندوة الافتراضية التي أقيمت بعد عرض الفيلم في القاهرة كانت المرة الثانية التي يبكي فيها المخرج اللبناني إيلي داغر علنًا، ليس بسبب نجاح فيلمه فحسب، بل لأنه يثبت تمامًا مدى التشتت والضياع الذي يعيشه الشباب اللبناني أكثر من أي وقت آخر على المستوى الاجتماعي والسياسي.

استكمال بداية مبشرة

الفيلم يتناول الأحداث التي يعيشها لبنان منذ عدة عقود وهي في طريقها للتفاقم، وهو ما يسبب حالة ذهنية متأرجحة وفقدانا للرؤية وانفصالا تدريجيا عن الواقع لدى معظم اللبنانيين، إلى جانب الاغتراب الذي دفع أغلبهم للهجرة خارج البلد، وتشعر النسبة الباقية داخل لبنان بالاغتراب.

ولدَت تلك الأحداث بيئة خصبة للإبداع أدت إلى تقديم قصص مثل تلك التي ظهرت في فيلم “البحر أمامكم”، الذي يحكي قصة فتاة شابة تدعى جنى (منال عيسى) تعود إلى بيروت بعد عدة سنوات قضتها في فرنسا، فتجد نفسها تعيد إحياء روابط حياتها التي كانت مألوفة، ولكنها أصبحت غريبة بعد رحيلها.

تمثل البطلة (جنى) هنا الاغتراب اللبناني على مستوياته المختلفة، حيث يعيش أكثر من 70% من اللبنانيين في الخارج حياة اغترابية سواء بإرادتهم أو رغما عنها، إلى جانب الشكل الأقسى وهو الاغتراب الاجتماعي؛ بأن يشعر الموجودون في لبنان بالانفصال عن القيم والمعايير والممارسات والعلاقات الاجتماعية لمجتمعهم.

في عام 2015، فاز المخرج الشاب إيلي داغر -ولد عام 1985- بجائزة السعفة الذهب لمهرجان “كان” السينمائي عن فيلمه القصير الأول “موج 98” الذي يقدم فيه على عجالة حكايته عن بيروت التسعينيات كما يتخيلها. وتدور حول مراهق يعيش في الضاحية الشمالية لبيروت، ويتلقى صدمة كبيرة وخيبة أمل في مدينته عموما ومحيطه بشكل خاص. ويأتي الفيلم الطويل الأول لداغر “البحر أمامكم” استكمالاً للفيلم السابق بشكل أكثر رحابة وشرحا للمأساة.

مشروع فيلم “البحر أمامكم” كان قد حصد العديد من الجوائز، منها أفضل فيلم في ورشة “فاينال كات” في مرحلة ما بعد الإنتاج من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وجائزة منصة الجونة ضمن المشاريع في مرحلة التطوير، وجائزة مالية من مؤسسة دروسوس، كما فاز بمنح من صندوق البحر الأحمر لدعم الأفلام وغيره.

الفيلم من تأليف وإخراج إيلي داغر، في أولى تجاربه الروائية الطويلة، ويشارك في بطولته منال عيسى، ويارا أبو حيدر، وربيع الزاهر.

رواية أم سيرة ذاتية؟

هل “البحر أمامكم” فيلم روائي خيالي أم يُحسب فيلم سيرة ذاتية؟ أمضى المخرج إيلي داغر سنوات في الخارج؛ حيث عاش في بلجيكا وبرلين ودرس للحصول على درجة الماجستير في نظرية الفن المعاصر ووسائل الإعلام الجديدة في مدرسة للفنون بلندن، وكانت أطروحته تخص العلاقة بين التاريخ والذاكرة والأرشيف والهوية، وربما تبدو البطلة هنا امتداد لمسيرة شخصية تمامًا.

مستقبل ضبابي وحاضر معلق وماض أصبح خيالات يتمناها المشاهد كما البطلة، هكذا يمكن توصيف الفيلم من بعيد، وربما لا يبدو بعيدا تماما عن توصيف بيروت الحالية من دون خلل.

من يُسأل عن كل هذا الدمار؟ لا ينشغل الفيلم كثيرًا بذلك سواء بالداخل الحكومي اللبناني أو الأوسع عربيًا، وربما يبدو هذا التجاهل وسيلة إدانة أكبر باعتباره لا يحتاج إلى التساؤل أساسا. تهاون تلك الحكومات وضعفها الشديد وحاجتها المستمرة إلى الاعتماد على “الآخر” هو ما تسبب في ضياع هوية شبابه والبلد الذي عاش في خياله ومات في الواقع.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *