في المشهد الأخير من فيلم “نادي القتال” (Fight Club) الذي أُنتج عام 1999 يتم تفجير مجموعة ناطحات سحاب في أكبر مدينة أميركية في حين يقف بطل الفيلم وبطلته بانتظار اكتمال الهدم، وبعد ذلك بعامين فقط يتم تدمير برجي التجارة العالمية بنيويورك فيما عرف باسم تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي لم يعد العالم بعدها كما كان.

وإذا كانت تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول تهدف إلى إهانة الولايات المتحدة، فإن تفجيرات المخرج ديفيد فينشر في فيلم “نادي القتال” استهدفت تدمير الولايات المتحدة اقتصاديا، والعودة للصفر للبدء من جديد.

 

جاء تفجير البرجين على يد أطراف لا تختلف مع الرؤية الاقتصادية في المجتمع الأميركي ولكنها تختلف مع السياسة، لكن تفجيرات “نادي القتال” تختلف مع الرؤية الاقتصادية ومع النمط العام للحياة في أميركا، وقد عبّر الفيلم بهذا عن أزمة كبرى تكاد تتجاوز حجم الأزمات السابقة عليها أو اللاحقة لها، فهي تعني أن ثمة قنبلة في كل عمارة وبنك ومؤسسة أميركية، لذا بدا مشهد انتظار البطل (يقوم بدوره الممثل إدوارد نورتون) لاكتمال تفجير البنوك والمؤسسات في خلفية الصورة مرعبا لدرجة التجاهل واختصار الفيلم في أزمة موظف يعذبه الأرق أحيانا.

دعم نفسي

فيلم “نادي القتال” المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الأميركي تشاك بولانيك يدور حول شخص عادي جدا يعمل موظفا في شركة سيارات كبرى، ويعاني من ضغوط العمل والوحدة والأرق، فيلجأ إلى طبيب ينصحه بالانضمام إلى مجموعات الدعم النفسي لمرضى السرطان وغيره من الأمراض الخطيرة.

 

اختار البطل (إدوارد نورتون) مرضى سرطان الخصيتين، وهناك يشعر بتحسن ويتابع الحضور والبكاء مع الذين فقدوا ذكورتهم، ولكنه يلاحظ مارلا ستينجر (قامت بدورها الممثلة هيلينا كارتر) ويتأكد أنها مدّعية لأنها تحضر جلسات خاصة بالرجال.

 

يكتشف البطل أيضا صديقا جديدا في رحلة بالطائرة يدعى تايلور ديردن ويقوم بدوره الممثل براد بيت، وفي الليلة نفسها تحترق شقته، فيلجأ إلى ديردن للإقامة في بيته، وهناك ينشئ الصديقان نوادي القتال، لكن البطل/الراوي يدرك فداحة ما تهدف إليه تلك النوادي من خراب ويقرر إيقاف خططها.

يقوم البطل بدور الراوي في الفيلم لكنه بلا اسم، وهذا الراوي هو نفسه الموظف العادي جدا الذي يجد المشاهد نسخا مكررة منه آلاف المرات في حياته، إن لم يكن هو نفسه واحدا منهم، وهي الحكمة من تجهيل الاسم.

أما مارلا ستينجر (هيلينا كارتر) التي قابلها في مجموعات دعم المرضى فيقسم معها مناصفة مجموعات الدعم عبر أيام الأسبوع، وهي قسمة عادلة لأنها كشفت ادّعاءه أيضا، والواقع أن ذلك الأداء من الطرفين لم يكن يهدف إلا لتعاطف مفقود في حياتهما التي تسيطر عليها الوحدة، ويشير لقاؤهما في الأماكن نفسها إلى أن حياتهما تتشابه في كونها بلا معنى ولا قيمة ولا تحتوي سوى على الدوران في ساقية متطلبات لا تنتهي وفاء لبطاقة الضمان البنكي من أجل أشياء لا يحتاج الشخص إليها في الحقيقة.

رجولة مفقودة

يلخص الفيلم نمط الحياة في تسعينيات الولايات المتحدة بخاصة لأولئك الذين لامسوا حافة الكهولة، واكتشفوا أنهم عبيد لعادات استهلاكية أصبحت منفى لذواتهم، فالبطل (إدوارد نورتون) لم يعد يحتمل هذا النمط ولا يقوى على تغيير الواقع المحيط به، لذا يظهر (تايلر ديردن) ليشكل النسخة القوية الثائرة العنيفة والعدمية، وليكون مرشدا للنسخة الباهتة.

 

ثمة إشارة تتعلق بالمساحات النفسية والجسدية والعقلية التي لجأ إليها بطل العمل وخاصة بين مجموعات دعم مرضى السرطان الذين فقدوا ذكورتهم من جهة وبين مجموعات القتال البدائي الشديد العنف، فهنا يظهر تصور ما حول استعادة (الذكورة) أو الشعور بها على الأقل من خلال اللجوء إلى أقدم أنواع التعبير عنها في مراحل ما قبل الحضارة عبر القتال غير المشروط وإطلاق العنان للحيوان المحبوس داخل الرجل.

شخصية “تايلر ديردن” هي حل درامي نفسي لمأزق البطل (إدوارد نورتون)، فهو يقوده إلى إنشاء نادي القتال لاستعادة إنسانيته المفقودة عبر خوض المعارك العنيفة اليومية بعيدا عن حسابات النصر والهزيمة، فالنتيجة الأهم هي الاستمرار وملامسة أدنى طبقات الطبيعة الإنسانية.

 

يتجاوز الاثنان الحلول الفردية إلى حلّ جماعي يتمثل في تدمير المؤسسات التي تستعبد أفراد المجتمع، ويختار منها مؤسسات بطاقات “ATM” ليصل العالم إلى النقطة صفر اقتصاديا بعد تدمير بيانات القروض والديون، وليبدأ العالم من جديد إنشاء منظومة حياة لا تعتمد سفاهة الاستهلاك قيمة عليا.

غسيل المجتمع

يعمل تايلر ديردن بائعًا للصابون وهنا نرى مرة أخرى استعارة تتعلق بالتنظيف والتطهير، فهو يهدف إلى تطهير المجتمع و”غسله”، ويصنع البائع صابونه بنفسه ويستخدم في صنعه “الدهن البشري” المستخرج من عمليات شفط الدهون، ويصنع منه أيضا متفجرات لتنظيف المنظومة الاقتصادية وهي إشارة أخرى مفادها أنه بإمكان الإنسان أن يعيد تنظيف حياته وتطهيرها بالخلاص من “ترهلاته” أو زوائد استهلاكه التي لا ضرورة لها.

 

التناقض الغريب هنا يتعلق بمنزل ديردن إذ يكاد يكون مثالا للقذارة، وقد قدم المخرج ديفيد فينشر عنفا غير مسبوق على الشاشة ليعكس تصوره عن ذلك العنف الأصلي الذي يمارسه مجتمع الاستهلاك على الفرد.

لم يكن عنف المجتمع الواقع على الموظف من قبل مديره في شركة السيارات هو النموذج الوحيد، لكنه ذلك الحوار الذي يدور بين بطل العمل ورفيقة رحلة بالطائرة عن المعادلة الاقتصادية لتكاليف الإنقاذ في حالة الخطر مقارنة بتكاليف الإبقاء على الوضع مع خطورته على البشر مع ما فيها من إهدار لقيمة الحياة البشرية وترجمتها إلى أرقام.

يكشف الفيلم في مشاهده النهائية عن مرض الفصام العقلي الذي دفع بالبطل (إدوارد نورتون) إلى التشظي إلى أكثر من شخصية، بينها العنيف وهو تايلر ديردن والجزء الأنثوي الصريح وهي مارلا ستينجر (هيلينا كارتر).

 

هي 3 شخصيات تتناقض كليا مع بعضها، فالأول موظف عادي مهمش ضعيف محبوس في ماكينة قيم استهلاكية تعمل من أجل البنك، والثاني ثائر عنيف عدمي يستهدف تغيير وجه الحضارة، والثالثة امرأة تعرف أن الموت قريب جدا ومشكلتها أنه لا يأتي.

 

يدرك البطل أن الأمر خرج عن كونه مجرد هلاوس لشخص شعر بحجم الأزمة، فقرر اختراع حلوله النفسية والدرامية المتمثلة في خطة تفجيرات لمجموعة من المنشآت المؤسسية قد تطيح بالبلاد، فيسارع لمحاولة إحباط الخطة.

يقتل الراوي صديقه الخيالي (تايلر ديردن) بإطلاق النار على نفسه، ليموت باعتباره شخصا بديلا اخترعه خياله ليعالج به ضعفه، لكنه لا يستطيع أن يوقف الانفجارات، فيقف متأملا إياها قابضا على يد مارلا ستينجر.

“نادي القتال” فيلم لا يحتمل نصف حب ولا مشاهدا محايدا، فإما أن يحبه المشاهد حتى يصبح واحدا من شخوصه، أو يكرهه باعتباره خطرا على المؤسسة التي تدير العالم عبر البنوك والشركات الكبرى، وهو وثيقة تاريخية لـ”الأبناء المنبوذين للتاريخ” أو جيل التسعينيات الذي شاء قدره أن يكون جسرا بين عالم يتسيّده الإنسان وآخر يسوده الاستهلاك.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *