يعرف المتابعون للشأن الروسي مدى قوة تأثير الأدب الروسي العريق على المجتمع والأحداث التاريخية في روسيا الحديثة.
وكتبت آني كوكوبوبو، الأكاديمية المختصة بالأدب الروسي في جامعة كانساس، أنها تعمل على معالجة العالم من خلال الروايات والقصص والقصائد والمسرحيات في البلاد، حتى في الوقت الذي يتم فيه التنصل من الإنتاج الثقافي الروسي و”إلغاؤه” في جميع أنحاء العالم.
مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا ظهر بشكل طبيعي النقاش حول ما يجب فعله بالأدب الروسي.
تقول الكاتبة إنها ليست قلقة من إمكانية “إلغاء” الفن القيم حقا، إذ تدوم الأعمال الأدبية لأنها تتمتع بالسعة الكافية بحيث تقرأ بشكل نقدي في مواجهة تقلبات الحاضر، ولكنها تتساءل: هل يجب أن تغير الحرب العسكرية الروسية في أوكرانيا من طريقة تعامل القراء مع الكتاب الروس.
مواجهة المعاناة بعيون صافية
أشاح الروائي الروسي إيفان تورجينيف (1818- 1883) بوجهه بعيدا في اللحظة الأخيرة عندما شاهد إعدام رجل، وأوضح الروائي الروسي الشهير فيودور ديستوفسكي موقفه قائلا “ليس للإنسان الذي يعيش على سطح الأرض الحق في الابتعاد وتجاهل ما يحدث على الأرض، وهناك ضرورات أخلاقية عليا لذلك”.
عند رؤية أنقاض مسرح في ماريوبول، وسماع مواطني هذه المدينة يتضورون جوعا بسبب الضربات الجوية الروسية، تتساءل الكاتبة ما الذي سيفعله ديستوفسكي -الذي ركز عينه الأخلاقية الثاقبة على مسألة معاناة الأطفال في روايته “الأخوان كارامازوف” التي صدرت عام 1880- ردا على قصف الجيش الروسي مسرحا تقول أوكرانيا إنه كان يحتمي فيه أطفال. وظهرت كلمة “أطفال” مكتوبة بخط كبير على الرصيف خارج المسرح بحيث يمكن رؤيتها من السماء. ولم يكن هناك سوء فهم لمن استهدف هذا المكان بالقصف، بحسب الكاتبة.
إيفان كارامازوف، بطل الرواية في رواية ديستوفسكي “الإخوة كارامازوف” يركز بشكل أكبر على مسائل المحاسبة الأخلاقية أكثر من التركيز على مفاهيم القبول المسيحي أو التسامح والمصالحة، في المحادثة، يعرض إيفان بشكل روتيني أمثلة على تعرض الأطفال للأذى، ويناشد الشخصيات الأخرى للتعرف على الفظائع التي وقعت في وسطهم، ويبدوا مصمما على الانتقام.
من المؤكد أن قصف الأطفال في ماريوبول -سواء كان متعمدا أم لا- هو شيء لا يمكن أن يشيح ديستوفسكي بوجهه عنه، فهل يمكن أن يدافع عن رؤيته للأخلاق الروسية بينما يرى مدنيين أبرياء -رجالا ونساء وأطفالا- يرقدون في شوارع بوتشا؟ تتساءل الكاتبة
في الوقت نفسه، ينبغي للقراء ألا يتجاهلوا ما تسميه الكاتبة “دناءة” ديستوفسكي وإحساسه بالاستثنائية الروسية. وترتبط هذه الأفكار “المتشددة” حول العظمة الروسية ومهمة روسيا الخلاصية (المسيانية) بالأيديولوجية الأوسع التي غذت المهمة الاستعمارية الروسية السابقة، والسياسة الخارجية الروسية الحالية التي تظهر بقوة في أوكرانيا.
ومع ذلك، كان ديستوفسكي أيضا مفكرا إنسانيا ربط هذه الرؤية لمكانة روسيا بالمعاناة والإيمان الروسي. ربما كانت رؤية القيمة الروحية للمعاناة الإنسانية نتيجة طبيعية لشخص تم إرساله إلى معسكر عمل في سيبيريا لمدة 5 سنوات لمجرد مشاركته في ناد للكتاب الاشتراكي.
هل يمكن لمؤلف يشرح في روايته “الجريمة والعقاب ” التي صدرت عام 1866 تفاصيل مروعة عن الخسائر التي لحقت بالقاتل الذي يوضح أنه عندما يقتل شخص ما، يقتل جزءا من نفسه، فهل كان ديستوفسكي سيتمرد ضد الحرب الروسية على أوكرانيا لو كان يعيش الآن؟ تتساءل الكاتبة.
تقول الكاتبة “آمل أن يفعل، كما فعل العديد من الكتاب الروس المعاصرين. لكن عقائد الكرملين منتشرة ويقبلها كثير من الروس. كثير من الروس يشيحون بوجههم بعيدا”.
طريق تولستوي إلى السلم
لا يوجد كاتب يصور الحرب في روسيا بشكل مؤثر أكثر من تولستوي، الجندي السابق الذي تحول إلى أشهر دعاة السلام في روسيا. في آخر أعماله “حاج مراد” الذي يفحص آثار الاستعمار الروسي شمال القوقاز، أظهر تولستوي كيف تسبب العنف الروسي الأحمق تجاه قرية شيشانية في كراهية فورية تجاه الروس، بحسب الكاتبة.
أبرز أعمال تولستوي حول الحرب الروسية “الحرب والسلام” رواية قرأها الروس تقليديا خلال الحروب الكبرى، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية. وفي كتابه “الحرب والسلام” يؤكد تولستوي أن الروح المعنوية للجيش الروسي مفتاح النصر.
المعارك التي من المرجح أن تنجح هي المعارك الدفاعية، حيث يفهم الجنود سبب قتالهم وما الذي يقاتلون من أجل حمايته: وطنهم.
ومع ذلك، فهو قادر على نقل التجارب المروعة للجنود الروس الشباب الذين دخلوا في مواجهة مباشرة بأدوات الموت والدمار في ساحة المعركة. لقد اختفوا وسط حشد من كتيبتهم، ولكن حتى خسارة واحدة تكون مدمرة للعائلات التي تنتظر عودتها الآمنة.
بعد نشره “الحرب والسلام” شجب تولستوي علنا العديد من الحملات العسكرية الروسية. ولم ينشر الجزء الأخير من روايته “آنا كارنينا” عام 1878 لأنه ينتقد تصرفات روسيا في الحرب الروسية التركية. بطل تولستوي في تلك الرواية، كونستانتين ليفين، يصف التدخل الروسي في الحرب بأنه “قتل” ويعتقد أنه من غير المناسب جر الشعب الروسي إلى ذلك.
يقول “الناس يضحون ومستعدون دائما للتضحية بأنفسهم من أجل أرواحهم وليس من أجل القتل”.
عام 1904، كتب تولستوي خطابا عاما يدين الحرب الروسية اليابانية، والتي تمت مقارنتها أحيانا بالحرب الروسية في أوكرانيا.
كتب “الحرب مرة أخرى، مرة أخرى الآلام، لا مبرر لها على الإطلاق، مرة أخرى الاحتيال، ومرة أخرى الذهول والوحشية للرجال”. يكاد المرء يسمعه وهو يصرخ “فكروا بأنفسكم” لمواطني بلده الآن، تقول الكاتبة.
في واحدة من أشهر كتاباته المسالمة، عام 1900 بعنوان “لا تقتل”، قام تولستوي بتشخيص مشكلة روسيا اليوم بعمق، وقال “إن بؤس الأمم لا ينتج عن أشخاص معينين، ولكن بسبب النظام الخاص للمجتمع الذي في ظله يرتبط الناس ببعضهم البعض لدرجة أنهم يجدون أنفسهم جميعا تحت سلطة عدد قليل من الرجال، أو في كثير من الأحيان تحت سلطة فرد واحد، رجل منحرف بشدة بسبب وضعه غير الطبيعي كحاكم لمصير وحياة الملايين، لدرجة أنه دائما في حالة غير صحية، ويعاني دائما إلى حد ما من هوس الشعور بالعظمة الذاتية”.
أهمية العمل
تقول الكاتبة إنه إذا أصر ديستوفسكي على ألا يشيح بوجهه بعيدا، فمن العدل أن نقول إن تولستوي سيؤكد أن على الناس التصرف بناء على ما يرونه.
خلال المجاعة الروسية من 1891 إلى 1892، بدأ تولستوي في إنشاء مطابخ للفقراء لمساعدة مواطنيه الذين كانوا يتضورون جوعا وتخلت عنهم الحكومة. عمل على مساعدة الجنود على التهرب من التجنيد في الإمبراطورية الروسية، وقام بزيارة ودعم الجنود المسجونين الذين لا يرغبون في القتال. عام 1899، باع روايته الأخيرة “القيامة” لمساعدة طائفة مسيحية روسية على الهجرة إلى كندا حتى لا يضطروا للقتال في الجيش الروسي.
هؤلاء الكتاب ليس لديهم علاقة تذكر بالحرب الحالية. لا يمكنهم محو أو تخفيف فظائع الجيش الروسي في أوكرانيا. لكنهم مدمجون على مستوى ما في النسيج الثقافي الروسي، وحقيقة أن كتبهم لا تزال تقرأ أمر مهم، ليس لأن الأدب الروسي يستطيع أن يشرح أيا مما يحدث، لأنه لا يستطيع ذلك. ولكن لأنه، كما كتب الأديب الأوكراني سيرهي زهادان في مارس/آذار 2022، شكلت حرب روسيا في أوكرانيا هزيمة للتقاليد الإنسانية الروسية.
بما أن هذه الثقافة تتواءم مع رؤية الجيش الروسي الذي قصف الأوكرانيين بشكل عشوائي، يمكن وينبغي قراءة المؤلفين الروس بشكل نقدي، مع وضع سؤال واحد عاجل في الاعتبار: كيف نوقف العنف؟ أشار زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني خلال محاكمته في مارس/آذار 2022 إلى أن تولستوي حث أبناء وطنه على محاربة كل من الاستبداد والحرب لأن أحدهما يمكن الآخر.
واستشهدت الفنانة الأوكرانية ألفتينا كاخيدزه برواية “الحرب والسلام” بيومياتها المصورة في فبراير/شباط 2022، وكتبت “لقد قرأت أدبكم الحالي، ولكن يبدو أن بوتين لم يفعل، ونسي ذلك”.