لم تنته سيرة تقي الدين أحمد بن تيمية بوفاته في سجن القلعة بدمشق، بل استمر -ولا يزال يستمر- الجدل والنقاش حول تراثه وفكره، لا سيما بعد أن لجأت بعض الجماعات الجهادية إلى فكره وفتاويه لتبرير أفعالها.
فقد تعرض الرجل -الذي يُلقّب بشيخ الإسلام- للمدح والقدح، وتعرض تراثه لأكثر من ذلك، إذ قامت دول عربية بجمع كتبه وحرقها علنا، بحجة تأصيلها لما يسمى “الإرهاب”، في حين قامت دول أخرى بمنع تداول كتبه بين الناس. وفي المقابل، دافعت عنه دوائر أكاديمية غربية وعدتّه من فحول المفكرين العرب.
يُرجع رئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا، محمد الحسن ولد الددو، إثارة الجدل حول فكر ابن تيمية إلى ما يتمتع به من صفات ميزته عن غيره من العلماء؛ فهو صاحب تخصصات كثيرة وعلم في كل مجالات الحياة، إذ تكلم في السياسة والاجتماع ونظّر وناقش، وكانت له مواقف سياسية أدت إلى حبسه في أماكن شتى، وقد مات سجينا في قلعة دمشق. وزد على ذلك أن شيخ الإسلام كان يتمتع بروح الاجتهاد والتجديد، ولم يلتزم بالتقليد الأعمى أو يكتفي بما ينقل، وكان يصدر فتاوى جريئة، بحيث ينظر إلى الواقع الذي تغير ويصدر فيه فتاوى؛ ولما اجتهد، اتهمه كثير من الناس بخرق الإجماع.
وقد تأثرت السلفية الوهابية بفكر ابن تيمية، وخاصة في جوانب التجديد والإصلاح العقدي والسياسي والاقتصادي؛ إذ تأثر به الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي هو صاحب دعوة إصلاحية وتجديد.
ويتهم البعض شيخ الإسلام بخرق الإجماع، وذهب الحافظ ولي الدين العراقي في كتاب “الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية” إلى القول بأن علم ابن تيمية أكبر عقله، وأنه خرق نحو 60 مسألة، بعضها في الأصول وبعضها في الفروع، خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها.
غير أن ولد الددو لا يرى أن ابن تيمية خرق الإجماع، لأن الإجماع الحقيقي -من وجهة نظر العالم الموريتاني- نادر جدا، ولأنه تتبع ما ذكره الإمام ابن حزم من مراتب الإجماع، بالإضافة إلى أن المسألة تتوقف على تعريف الإجماع وشروطه، مؤكدا أن الاتهامات التي وُجهت لشيخ الإسلام من بعض علماء المسلمين بخصوص خرق الإجماع ليست جميعها صحيحة، والرجل يُؤخذ من قوله ويُرد مثله مثل سائر العلماء.
فتوى التترس
كما استبعد أن يكون ابن تيمية قد سعى للإفتاء خارج نطاق المذاهب الفقهية والعقدية، قائلا إن المذهبية أمر محدث ولم تكن في العهد النبوي ولا في عهد الصحابة الكرام ولا في عهد التابعين، بل نشأت في زمن أتباع التابعين؛ ولا يمكن أن تكون مقياسا أو معيارا لإيمان الشخص أو إسلامه. كما أن ابن تيمية لم يتمرد على هذه المذاهب الفقهية الكبرى ولم يدع قط إلى تركها، بل كان يمدحها ويحترمها وينقل عنها.
وفي تفسيره لأسباب استشهاد مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ومنظري التنظيم بفتاوى ابن تيمية، وخاصة ما تعرف بفتوى التترس، أوضح العالم الموريتاني أن هؤلاء يستدلون أيضا بالقرآن الكريم والحديث النبوي والإمام البخاري والإمام مسلم، مؤكدا أنه يجب عدم تحميل العالم المسؤولية بشأن من يأخذون عنه، ومشيرا إلى أن ابن تيمية لم يكن الأول الذي تحدث عن التترس، وهو ما يتوقىّ به في الحرب.
وأشار العالم الموريتاني إلى أن ابن تيمية كان حاضرا عند المنظرين الأوائل في الحركات الإسلامية، حيث أخذت ببعض جوانبه الإصلاحية واجتهاداته، وبالأخص ما يتعلق بالتأصيل والرجوع إلى المنابع الأصلية، ولكن بسبب الحملة الشنعاء التي شنت على الرجل وفكره وتراثه، لم تصرح هذه الحركات بأنها أخذت منه. وفي المذهب المالكي هناك علماء ينقلون عن ابن تيمية ويكتفون بالقول: “قال تقي الدين”.
ومن جهة أخرى، لا يرى ولد الددو -وهو أيضا عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- أن تراث ابن تيمية بحاجة إلى مراجعة ونقد، مبرزا أن “المجتهد الحي أولى بالتقليد من المجتهد الميت”، وأن فتاوى عصر من العصور ربما لا تصلح لما بعده، وهذا يشمل كل العلماء، وليس شيخ الإسلام فحسب.