موسكو- واشنطن – يوما وراء الآخر تتوسع تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ وصلت مؤخرا إلى ما يخشاه الجميع من تأثيرها على سباق التسلح النووي بين روسيا والولايات المتحدة.

وأفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) بأن الخارجية الأميركية أبلغت الكونغرس أن روسيا قد أوقفت التفتيش المتبادل للمواقع النووية، وهو ما يمثل انتهاكا لمعاهدة “ستارت 3” للأسلحة الهجومية الإستراتيجية النووية.

 

وفي الوقت ذاته، تؤكد قراءات خبراء روس أن مواصلة واشنطن تزويد كييف بالأسلحة باتت تمثل عقبة تمنع موسكو من استئناف المباحثات مع واشنطن بشأن مستقبل تلك المعاهدة.

وكانت روسيا حذرت قبل أيام من أن الاتفاق الوحيد الباقي للحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة قد لا يجدد عام 2026، بسبب ما تراه من محاولات أميركية لإحداث “هزيمة إستراتيجية” بروسيا في أوكرانيا.

 

اتفاقيات ستارت

تمتلك كل من روسيا والولايات المتحدة حوالي 90% من الرؤوس الحربية النووية في العالم، وتم تقييد هذه الأسلحة جزئيا بموجب معاهدات سابقة تبقى منها معاهدة “ستارت الجديدة” التي دخلت حيز التنفيذ عام 2011 وتم تمديدها عام 2021 حتى فبراير/شباط 2026.

وأعادت معاهدة ستارت الجديدة التعاون والقيادة المشتركة بين موسكو وواشنطن في مجال ضبط الأسلحة النووية وتخفيض عددها، وبالفعل تحقق الكثير من التقدم هذا المجال.

وتتعامل المعاهدة مع الصواريخ النووية طويلة الأمد وعابرة القارات، وقد حددت المعاهدة ترسانة الدولتين النووية من الصواريخ عابرة القارات بما لا يزيد على 700 رأس نووي في قواعد أرضية، و1550 صاروخا نوويا في الغواصات والقاذفات الجوية الإستراتيجية، مع امتلاك 800 منصة ثابتة وغير ثابتة لإطلاق صواريخ نووية.

وتعد هذه الاتفاقية الوحيدة المتبقية لمراقبة الأسلحة النووية بين البلدين بعد انسحابهما عام 2019 من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى الموقعة بينهما عام 1987.

وقبل أكثر من عام اقترح الرئيس الأميركي جو بايدن تمديد الاتفاقية 5 سنوات أخرى، وهو ما رحبت به روسيا.

وتتطلب الاتفاقية من الطرفين إجراء 18 عملية تفتيش سنويا في قواعد الأسلحة النووية، إضافة إلى تبادل البيانات للتحقق من الامتثال لبنود المعاهدة.

 

الحفاظ على ما تبقى

ورغم أن الموقف الرسمي الروسي يشدد على أهمية المعاهدة فإنه يرى ضرورة تهيئة الظروف المناسبة للمفاوضات بشأن مستقبلها، لذلك تبرر موسكو أسباب تأجيل الاجتماع المقرر للجنة الاستشارية الثنائية -الذي كان مقررا في القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي- إلى أجل غير مسمى.

وفي هذا السياق، يستبعد الباحث في الشؤون الدولية ديمتري بابيتش حصول اتفاقيات جديدة في مجال الحد من التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا في المستقبل القريب، فقد دخلت الدولتان -حسب رأيه- مرة أخرى في المرحلة الأولى من سباق التسلح، وعلى هذا الأساس سيكون من الصعب الاتفاق على أي قيود ملزمة قانونا وشاملة في المدى القصير أو المتوسط.

وفي حديث للجزيرة نت، يذهب بابيتش إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إنه سيكون من الحكمة التركيز على الحفاظ على الاتفاقات القائمة، لأنه بالكاد يمكن إنقاذ معاهدة ستارت من أن تلقى مصير الاتفاقيات الأخرى التي انسحبت منها واشنطن من جانب واحد، حسب وصفه.

وأضاف أنه على ضوء وجود روسيا في صراع غير مباشر مع الولايات المتحدة في أوكرانيا فمن الصعب إجراء أنشطة دبلوماسية ثنائية، وعلاوة على ذلك سيكون من الغريب الجلوس والتحدث عن “ستارت” في الوقت الذي تواصل فيه واشنطن تزويد كييف بالأسلحة وترفع إلى حد كبير مستوى التصعيد من خلال تزويدها بأسلحة بعيدة المدى وعالية الدقة وأنظمة دفاع جوي متطورة.

 

الفصل بين ستارت وأوكرانيا

وعلى الجانب الآخر، يأمل ستيف بايفر خبير الشؤون الأوروبية ونزع السلاح بمعهد بروكينغز أن تفهم موسكو أن للجانبين مصلحة عليا في تقييد منافستهما في الأسلحة النووية، خاصة عندما تكون العلاقة الأوسع مضطربة.

وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف بايفر “كانت هذه هي وجهة نظر الجانبين منذ نحو 50 عاما، ولكن الكرملين الآن -على ما يبدو بسبب هوس الرئيس بوتين بأوكرانيا- يرهن تطبيق ستارت الجديدة بدعم الولايات المتحدة لكييف، وهذا لن يحقق هدف بوتين”، حسب وصفه.

من جانبه، يلفت المحلل السياسي سيرغي بيرسانوف إلى عقبات إضافية أمام مهام الرقابة والتفتيش تسببت بها العقوبات الغربية على روسيا، كعدم وجود حركة جوية عادية، وتجاهل الطلبات الروسية بتأكيد إمكانية سير الطائرات مع المفتشين عبر المجال الجوي لدول العبور، ومشاكل التأشيرة أثناء العبور، وصعوبات في سداد مدفوعات الخدمات أثناء عمليات التفتيش، وما إلى ذلك.

ويقول إن فرق الرقابة الأميركية أصبحت أكثر اهتماما بإجراء أنشطة استخباراتية على الأراضي الروسية تحت ستار عمليات التفتيش، وهذا أيضا يؤخذ في الاعتبار من قبل الجانب الروسي عند اتخاذ قرار مواصلة المفاوضات، حسب رأيه.

وفي الوقت نفسه، يرى بيرسانوف أنه حتى بدون عمليات التفتيش في المواقع يمكن نظريا مواصلة العمل بمعاهدة ستارت حتى في الظروف الحالية شريطة أن يستمر الطرفان في تبادل الإخطارات والمعلومات العامة عن بعد.

وحسب توقعه، فمع مرور الوقت سيذهب كل طرف إلى القول إنه لا يمكنه التوصل بدرجة كافية من اليقين إلى أن الطرف الآخر يمتثل للالتزامات، بما في ذلك عدد الأسلحة، مضيفا أنه سواء كانت هذه المشكلة ستؤدي إلى انهيار الاتفاق أو سيتمكن الطرفان من حلها فإن ذلك يعتمد على الإرادة السياسية لقيادتي البلدين.

 

لا خيارات أمام بايدن

ويقر ستيف بايفر بأن الرئيس جو بايدن “لا توجد لديه خيارات جيدة لإجبار روسيا على السماح باستئناف عمليات التفتيش أو حضور اجتماع للجنة الاستشارية الثنائية”.

وعلى الرغم من أن الاتفاقية تخدم مصالح الطرفين فإن بايفر يشير إلى أنه “ينبغي على الروس أن يسألوا أنفسهم ما الذي سيحدث إذا انهارت معاهدة ستارت الجديدة، وفي غياب قيود المعاهدة يمكن للجيش الأميركي أن يزيد بشكل كبير -وبتكلفة قليلة نسبيا- عدد رؤوسه الحربية من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والقذائف العابرة للقارات عن طريق تحميل رؤوس حربية احتياطية على صواريخ تحمل حاليا رؤوسا حربية أقل من قدرتها.

بدوره، اعتبر ماثيو والين الرئيس التنفيذي لمشروع الأمن الأميركي -وهو مركز بحثي يركز على الشؤون العسكرية- أن “روسيا لا تنتهك بالضرورة اتفاقية ستارت، بل إنها تستخدم إمكانية انتهاء صلاحيتها قبل بضع سنوات لخلق المزيد من الخوف من التصعيد النووي، بهدف تقليل الدعم الغربي لأوكرانيا”.

ويعتقد والين أن التهديد بنشر المزيد من الأسلحة النووية الإستراتيجية مضيعة للمال، إذ إن الأسلحة الـ1550 المنشورة بموجب معاهدة ستارت الجديدة هي بالفعل أكثر من كافية لتدمير كل طرف الطرف الآخر بالكامل.

المصدر : الجزيرة

About Post Author