مقال في فورين أفيرز: الديمقراطية الأميركية لا تزال في خطر
الديمقراطية الأميركية مهددة بالاضمحلال، فكيف يمكن للولايات المتحدة حمايتها من أعدائها في الداخل الخارج؟ هذا السؤال هو محور مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs)، حاول 3 من الأكاديميين الباحثين الأميركيين الإجابة عنه.
في مستهل مقالهم المشترك، يقول إيرين باغوت كارتر، وبريت كارتر، ولاري دايموند -وثلاثتهم أساتذة وباحثون في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ستانفورد ومعهد هوفر التابع للجامعة نفسها- إن نظام الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة تعرض قبل عامين لامتحان غير مسبوق، عندما سعى أنصار الرئيس دونالد ترامب إلى قلب نتائج انتخابات الرئاسة في عام 2020 التي مُني فيها بالهزيمة.
وجاءت بعض تلك المحاولات من خلال “مؤامرات” خارج نطاق القانون، وأخرى عبر اعتداء “عنيف” على مبنى الكونغرس.
ومنذ تلك اللحظة التاريخية الصعبة -كما يصفها المقال- بدأت الديمقراطية الأميركية تعمل بشكل أفضل وآفاقها تتحسن، حيث أُجريت انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 2022 بنجاح، وخسر “المنكرون المتطرفون” في الولايات المهمة المتأرجحة مثل أريزونا وبنسلفانيا.
وقامت لجنة مختارة من مجلس النواب أُنيط بها التحقيق في اقتحام مبنى الكابيتول هيل في 6 يناير/كانون الثاني من العام الماضي، بتوثيق أعمال الشغب التي حاولت قلب نتائج انتخابات 2020 ودور الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في إشعال جذوتها.
تراجع الأنظمة المستبدة
وفي البرازيل وفرنسا، تلقى المرشّحان المشكوك في التزامهما بالنهج الديمقراطي الهزيمة في الانتخابات الرئاسية، كما أجريت في كولومبيا انتخابات سلمية.
في غضون ذلك، تعاني أقوى الأنظمة الاستبدادية في العالم، وفق المقال الذي يزعم كُتّابه أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشنه الحرب على أوكرانيا، قضى على “خرافة صحوة موسكو”.
أما مساعي الصين لأن تكون صاحبة أكبر اقتصاد في العالم وأقوى نفوذ، فقد تعثرت بسبب سوء إدارة “فادح” من قبل رئيسها شي جين بينغ لتفشي جائحة كورونا.
وأدت فقاعة العقارات، وزيادة معدل بطالة الشباب بنسبة 20%، والإجراءات الصارمة ذات الدوافع السياسية التي اتخذت بحق القطاع الخاص، وتضخم ديون الحكومات المحلية؛ إلى تآكل جاذبية الرئيس شي في الداخل.
لكن على الرغم من ضعف بكين وموسكو، فإنهما -بحسب كُتاب المقال- لا يزالان يشكلان تهديدا خطيرا للديمقراطية، وكلما تعقدت مشاكلهما الداخلية أكثر، ازدادت نزعتهما إلى تشويه سمعة أنظمة الحكم البديلة والحط من قدر خصومهم الديمقراطيين.
ولهذا السبب -يضيف المقال- تشن بكين وموسكو حرب تضليل عالمية، يستغلان فيها مواطن ضعف الديمقراطية الأميركية ويفاقمان هشاشتها. وتهدف حرب التضليل هذه داخل الصين وروسيا إلى قمع مطالب الإصلاحات الديمقراطية، من خلال تشويه سمعة الديمقراطية على النمط الغربي.
تحديات
وعلى الصعيد العالمي، تسعى هذه الحرب إلى تنصيب حكومات صديقة ودعمها، بغية مواجهة الشعور المتنامي بأن التعامل مع بكين وموسكو ينطوي على عواقب سلبية على المواطنين المحليين، وفي نهاية المطاف إقامة نظام دولي جديد مجزأ يمنح امتيازا “للسيادة الوطنية” على حساب حقوق الإنسان.
ويعتقد الأكاديميون الثلاثة في مقالهم أن ضعف الديمقراطيات الغربية ساعد بكين وموسكو في هذه المهمة. إذ يواصل ترامب تحدي شرعية انتخابات 2020، وقد يواجه قريبا تهما جنائية، وقد تهيمن على الكونغرس في العامين المقبلين حالة من الجمود، وتحقيقات ذات طابع حزبي بحت، وإجراءات تتعلق بمساءلة كبار المسؤولين، ومحاولات جديدة “مريبة” لتقويض العملية الانتخابية الأميركية بدلًا من إعادة الثقة فيها.
ولا تزال وسائل التواصل الاجتماعي تمثل قنوات للمعلومات المضللة وبث نظريات المؤامرة، ويوشك التعدي على الحقيقة أن يزداد سوءا مع التقدم السريع في برمجيات الذكاء الاصطناعي التوليدية، القادرة على إنتاج التزييف العميق، وهي تقنية تقوم بصنع فيديوهات مزيفة تُظهر شخصيات عامة تقول وتفعل أشياء لم تقلها أو تفعلها على الإطلاق.
وتعد هذه التقنية -برأي كُتاب المقال- “هبة من السماء للقوّتين العظميين في التضليل، الصين وروسيا”.
تشويه الديمقراطية
ويرى الكُتاب أن انحسار الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة يساعد كلاً من بكين وموسكو على تشويه سمعة الديمقراطية كفكرة. فإذا تسنى للديمقراطية أن تعود مرة أخرى نموذجا قادرا على إلهام الآخرين، فعندئذ يتوجب تقويتها في الداخل، عندها فقط يمكن لواشنطن أن تكسب معركة القوة الناعمة العالمية، بحسب مقال فورين أفيرز.
وينظر الأساتذة الجامعيون الثلاثة إلى بكين على أنها رائدة في المراقبة الرقمية المتفشية، مشيرين إلى أن موسكو كثفت هي الأخرى إجراءاتها القمعية في محاولة لاحتواء المعارضة الداخلية للحرب في أوكرانيا.
غير أن كل الدكتاتوريات تتطلب على الأقل درجة معينة من الدعم الشعبي أو الإذعان، على حد تعبير المقال. وعندما يقوم المواطنون بتقييم أداء حكومتهم، فإنهم يقارنونها بأداء الدول الأخرى.
ولهذا السبب تخصص بكين وموسكو ما يقرب من خُمس الدعاية المحلية للحكومات الأجنبية، كما أنهما تعتبران الديمقراطية على النمط الغربي “فاسدة، ومستهترة، وغير جديرة بالتضحيات”. وتزعمان كذلك أن الديمقراطية “الحقيقية” هي الموجودة في الصين وروسيا.
ولعل هذا هو السبب الذي يجعل اضمحلال الديمقراطية في الولايات المتحدة يخدم مصالح بكين وموسكو، إذ يوفر لهما محتوى لدعايتهما المحلية وفق مقال فورين أفيرز.
ويمثل التكامل الأوروبي أيضا هدفا للدعاية المحلية لبوتين، والتي تسخر منها باعتبارها مشروعا تقوده النخبة.
ولا تستهدف الدعاية التي “تلفقها” بكين وموسكو مواطنيهما وحدهم، بل تتعداها لتشمل الجمهور العالمي أيضا. واعتبارا من عام 2015، شرعت بكين في تخصيص أكثر من 10 مليارات دولار سنويا لعمليات الدعاية العالمية. ومن جانبها، أنفقت موسكو ما لا يقل عن 380 مليون دولار على موقع روسيا اليوم (RT).
ولم تسلم الدول الغربية الديمقراطية من الاستهداف، فقد دعمت حكومة بوتين السياسيين من أمثال ترامب في الولايات المتحدة، ومرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني للرئاسة مارين لوبان في فرنسا، ونائب رئيس الوزراء السابق ماتيو سالفيني في إيطاليا.
كما أعرب بوتين عن دعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحزب البديل اليميني من أجل ألمانيا. وجميع هؤلاء السياسيين -طبقا للمقال- من المشككين في جدوى النظام الدولي، وغير متحمسين لتعزيز الديمقراطية في بلدانهم.
ويمضي الأكاديميون الثلاثة إلى القول إن الديمقراطية الأميركية ليست آمنة، ذلك لأن التشريعات التي تهدف إلى الحد من تأثير المال، وتقوية وتوسيع حقوق التصويت، وإنهاء التلاعب في الدوائر الانتخابية، وضمان المعايير الأخلاقية للمسؤولين المنتخبين، وتعزيز أمن الانتخابات؛ قد فشلت في الكونغرس السابق، وليس هناك احتمال كبير لتمريرها في الكونغرس الجديد.
ويخلص المقال إلى أن الولايات المتحدة لن تستطيع الوقوف في وجه الأنظمة الاستبدادية عالميا إذا تحولت سياستها إلى مجموعة من الولايات ذات الحزب الواحد.
إن النجاح في مكافحة التضليل الاستبدادي سيعتمد على النجاح في الداخل، وعلى تجديد الديمقراطية الأميركية، كما يرى الكُتاب الثلاثة في ختام مقالهم.