رقابٌ طويلة، عيونٌ فارغة، وألوان تستلقي على نفسها لتشكّل عالما سرياليا من الجمال التعبيري المسكوب على مساحات القماش، كلّ ذلك في حلّة أقلّ ما ندعوها بالبديعة، لكن؛ كيف يمكن تصنيفها وهي الممزوجة بالحب والسعادة حينا، وبالألم والتمرّد حينا آخر؟!

إنها لوحات أميديو كليمنتي موديلياني (12 يوليو/تموز 1884 – 24 يناير/كانون الثاني 1920)، التي ما زالت تحكي قصصه ومغامراته، فما طواه الزمن هو إنسان ترك خلفه مدرسة فنية حافلة بكل ما تحمله من معنى.

 

“عندما أعرف روحك سوف أرسم عينيك”.. هذه كانت كلمات الرسام والنحات الإيطالي، الذي استطاع بفنّه أن يتّخذ لنفسه مكانةً كبيرة في دواخل كثيرٍ منّا.

ولادة موديلياني

ولد موديلياني ذو الأصول اليهودية الشرقية السفاردية في مدينة ليفورنو الساحلية في إيطاليا، التي كانت ملجأ لجالية كبيرة من اليهود، وتعود أصول عائلته إلى القرن الـ18 عندما وصل جده سولومون جارسين لاجئا إليها.

صبي بقميص أزرق لموديلياني (غيتي)

كان والده (فلامينو) مهندسا ورجل أعمال وأحد الأثرياء الذين عملوا في إدارة المناجم وتجارة الأخشاب، أما والدته (أوجيني جارسين) فقد ولدت وترعرعت في مدينة مارسيليا الفرنسية في بيئة تعنى بالثقافة والدين، وكانت تعمل في القروض المالية.

أدى الانكماش الاقتصادي وتراجع أسعار المعادن إلى إفلاس العائلة، وذلك بالتزامن مع ولادة طفل العائلة الرابع موديلياني، ما سمح للأم بالإفلات ببعض الممتلكات من الدائنين (وفقا للقانون القديم كات المرأة الحامل تستطيع الاحتفاظ بكل ما تمتلكه على سريرها)، لتفتتح بعد ذلك -بالتشارك مع شقيقتها- مدرسة أسهم مردودها في تغطية نفقات العائلة الأساسية، إلا أن موديلياني اضطر إلى تلقي التعليم المنزلي على يد والدته التي أشرفت على تدريسه حتى وصل إلى سن العاشرة.

بعد بضع سنوات أصيب موديلياني بحمى التيفوئيد، وأثناء مرضه كان يهذي برؤية لوحات فلورنسا العظيمة، وهنا بدأت تتكوّن الملامح الأولى للفنان، لا سيما أن أمه آمنت به ووعدته أثناء مرضه بأن تتلمذه مع جوجليميلو ميشيلي (Guglielmo Micheli)، الذي كان أفضل معلم في ليفورنو حينذاك.

جنون الفن

بين عامي 1898 – 1900 ارتاد موديلياني مدرسة ميشيلي، حيث درس فن البورتريه والحياة الساكنة والشخصيات العارية وبعض أنماط الفن الإيطالي التي كانت سائدة في القرن الـ19 وعصر النهضة، وتأثر في تلك الفترة بفنانين باريسيين مثل جيوفاني بولديني وتولوز لوتريك إلى أن أوقفته إصابته بمرض السل عن الدراسة.

في عام 1901 بدأ موديلياني يعجب بأعمال رسام المشاهد الدينية والأدبية الدرامية دومينيكو موريلي، الذي كان مصدر إلهام لمجموعة من الفنانين عرفوا فيما بعد بلقب “ماكياولي” (Macchiaioli) (وهي كلمة إيطالية مشتقة من ماكيا أي اندفاع اللون)، وكانت تلك الحركة الفنية تميل إلى التمرّد على الرسامين البرجوازيين الأكاديميين وترجع أصولها إلى الانطباعيين الفرنسيين.

وبالفعل تواصل موديلياني مع رواد الماكياولي عن طريق أستاذه ميشيلي، الذي كان من أتباعها، إلا أنه تجاهل أولى أساسيات هذه الحركة التي تتمثل بهوس الانطباعيين في رسم المناظر الطبيعية، وكان يفضل العمل في الأماكن المغلقة على الرغم من تشجيع معلمه له على الرسم في الهواء الطلق، وربما هذا ما يفسر ندرة أعماله الانطباعية، فقد تم التعرف على 3 لوحات انطباعية له فقط، واحدة منها تكعيبية أقرب إلى أسلوب سيزان من ماكياولي.

أعمال موديلياني في معرضه بنيويورك (غيتي)

في عام 1902، واصل رحلته الفنية، وسجل في “المدرسة الحرة للدراسات العارية” (Scuola Libera di Nudo)، وبعد مرور عام كان لا يزال يعاني فيها من مرض السل، اضطر إلى الانتقال إلى البندقية وسجل في أكاديمية “ريجيا إد للفنون الجميلة” (Istituto di Belle Arti) ولكنه وبدلاً من الدراسة أهدر وقته في اللهو والتسكع في أماكن سيئة السمعة.

تتلخص حياة موديلياني في تلك الفترة باتباع الأسلوب البوهيمي في العيش والسعي إلى الحياة في أوج اشتعالها، ولعل ذلك كان نتيجة تأثره بكتابات نيتشه، وبودلير، وكاردوتشي، وكونت دي لوتريامونت وآخرين، والاعتقاد بأنه لا يمكن بلوغ الإبداع الحقيقي إلا عن طريق التحدي والفوضى.

باريس وحكاية أخرى

انتقل موديلياني إلى باريس عام 1906، التي كانت آنذاك النقطة المركزية لانطلاقة الفنانين الناشئين، وتزامن وصوله مع قدوم عدد كبير من الفنانين الأجانب الذين تركوا بصمتهم في عالم الفن، أمثال جينو سيفيريني وخوان جريس، ليصبح فيما بعد صديق جاكوب إبشتاين وحاولا إنشاء مكان ذي روح جمالية فنية عالية يستمتع بها الجميع، فقام موديلياني بابتكار رسومات ولوحات من الأحجار الكريمة لمكانهما المتخيل في “باتو لافوار” (Le Bateau- Lavoir) بلدية الفنانين المفلسين.

استأجر موديلياني مكانا صغيرا مجهزا ذا ستائر فخمة في شارع كولينكورت، ليقضي بسرواله البني القصير ووشاحه القرمزي وقبعته السوداء الكبيرة أغلب تلك الفترة في الحي الباريسي الشهير مونمارت، وكانت حياته تميل بشكل عام إلى الهدوء والتحفظ، وكان يرسم العراة في أكاديمية كولاروسي ويعتدل في شرب الكحول ويراسل والدته بانتظام.

لم يمض عام واحد حتى تغيرت ملامح سلوكياته بشكل صادم، فتحول موديلياني من فنان أنيق إلى عابث بوهيمي متشرّد، وسرعان ما أمسى بيته ومشغله مكانا يسوده الاضطراب بعد أن رفض جميع أشكال البرجوازية، وتخلص من لوحات عصر النهضة الأكاديمية ومزق الستائر الفخمة، ولم يكتف بذلك فحسب، بل قام بتدمير كل أعماله الأولى التي وصفها بالأعمال البرجوازية القذرة.

أدمن موديلياني شرب الكحول وتعاطي المخدرات لتسكين آلامه الناتجة عن مرض السل الذي أخفاه عن معظم من كان حوله، وحافظ على حياة صاخبة تعج بالأصدقاء أمثال أوتريلو وسوتين، وكما الفراشات، كلما ساءت حالته الصحية كان فنه يشتعل أكثر.

في عام 1909 نقل موديلياني مسكنه إلى حي مونبرناس في باريس وبدأ يرى نفسه نحاتا وليس رساما، وشجعه على ذلك بول غيوم وهو شاب طموح كان يعمل تاجرا للفنون، والذي ساعد موديلياني في عرض أعماله عام 1912 في “صالون دوتوم” (Salon d’Automne).

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حاول موديلياني التطوع في الجيش ولكن تم رفضه بسبب حالته الصحية السيئة، ومع صعوبة الحصول على المواد تخلى عن شغفه بالنحت وركز فقط على الرسم.

خلال سنواته الأخيرة (بين عامي 1916-1920) أصبح موديلياني صديقا للشاعر وتاجر الفن البولندي ليوبولد زبوروفسكي، والذي ساعده ماليا، كما نظّم له معرضا في باريس عام 1917، وهو المعرض الفردي الوحيد له خلال حياته، وعرض من خلاله سلسلة لوحات عارية لاقت رفضا من الشرطة بسبب تطرقها للقضايا الجنسية.

الحب والخذلان والموت

التقى موديلياني بأول حب جاد في حياته عام 1910، وهي الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، والتي كانت تقيم في نفس المبنى. آنا، ذات الـ21 عاما، بشعرها الداكن وعيونها الرمادية، جسّدت مثالية الجمال عند موديلياني.

استمر بالتخبط في علاقات قصيرة حتى دخلت الناقدة الفنية بياتريس هاستينغز حياته، ومكثت معه نحو عامين، وكانت موضوع العديد من صوره ولوحاته.

أنهى علاقته مع بياتريس ليتعرف على جان هيبوتيرن ذات الخلفية البرجوازية المسيحية المتدينة، وعلى الرغم من حبهما العظيم فإن عائلتها وقفت ضد علاقتهما بسبب أصوله اليهودية، لكن سرعان ما أصبحت جان محور لوحاته.

عام 1918 غادر موديلياني مع جان العاصمة باريس إلى مدينة نيس هربا من الحرب وأنجبا طفلة أطلقا عليها اسم جين، وكانت حياتهما مليئة بالأصدقاء، أمثال بيير اوغست ورينوار وبابلو بيكاسو وغيرهم، وبعد عام عاد العاشقان إلى باريس لتحمل جان بطفلها الثاني، إلا أن استمرار رفض عائلتها لزواجهما حطم كل خططهما المستقبلية، وترافق ذلك بتفاقم مرض موديلياني واقتراب نهايته.

عام 1920، اختفى موديلياني وجان عن الأنظار لعدة أيام، ما دفع أحد الجيران لتفقد أحوالهما ليجد موديلياني قابعا في فراشه وهو يهذي، وما هي إلا أيام حتى وافته المنية.

كانت جان البالغة من العمر 21 عاما حاملا في شهرها الثامن وبعد يوم واحد من وفاته نقلت إلى منزل عائلتها دون أدنى اهتمام بانكسارها حزنا على حبيبها، فما كان منها إلا أن ألقت بنفسها من نافذة الطابق الخامس. توفيت جان ودفنت بجانب قبره في مقبرة العظماء في باريس التي لا تزال شاهدة على قصة عظيمة من المعاناة والحب.

رؤوس وشخوص موديلياني

أنجز موديلياني عدة رؤوس نحتية أقرب إلى الطابع الأفريقي واللاتيني، واستطاع بسط سيطرته على الشخوص بطريقة إبداعية فريدة بإلهام من النحات كونستانتين برانكوسي، تميزت بتحويرات طولية في أغلب الرؤوس وملامح كما لو أنها كانت منحوتة في الحجر، في مزيج تعبيري تكعيبي فاق في رأي كثير من النقّاد بتكوينه الجمالي أغلب لوحاته.

نحت لـ3 رؤوس يطلق عليها ألفا، بيتا، و(جاما) لموديلياني (غيتي)

أما في لوحاته فاتبع موديلياني نمطا فريدا في تكوين الشخصيات والألوان العميقة الناتجة عن خلط كثير من الألوان، حيث حاول تكييف مواده مع خطوط انسيابية شكّل فيها الأعناق الطويلة الرفيعة والعيون الناظرة إلى الفراغ، وهو ما تم اعتباره انعكاسا سيكولوجيا يختزل حزنه وعبثه واضطراب حياته، لكن، وعلى النقيض من حياته، لم يكن منفعلا في لوحاته، بل كان يرسمها بدقة وتقنية عالية، وفقا لتحليلات الباحثين المختصين.

خلال حياته، قايض موديلياني لوحاته بالطعام، ومات فقيرا ومشردا، إلا أن صيته ذاع بعد ذلك، حيث أصبح محور 9 روايات، ومسرحية، وفيلم وثائقي و3 أفلام روائية، ثم كتبت ابنته “جين” سيرته الذاتية في كتاب حمل اسم “موديلياني.. الرجل والأسطورة”، وفي عام 2010 أصبحت منحوتته “الرأس” (Head/ Tête) ثالث أغلى تمثال في العالم.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *