بعد أن وقّع على شيك بمبلغ دولاري ضخم، تنفس الصعداء، فقد أزاح جَبَلين من التوتر والترقب كانا يجثمان على صدره منذ أسابيع، أخيرا نال القطعة الفرعونية العتيقة التي كانت معروضة للبيع من إحدى المزادات، وهي الآن معه وستجد طريقها إلى متحفه الشخصي، وهو مكتبه المصمم على هيئة مقبرة فرعونية، الكائن في العاصمة النمساوية فيينا حيث يعيش مؤسس نظرية اللاوعي النفسية، الشهير سيغموند فرويد، والذي وصفه أحد الكتاب قائلًا إنه إضافة إلى كونه جامعًا للأحلام والحالات النفسية والزلات اللفظية، كان فرويد أيضًا جامعًا متحمسًا للآثار، لاسيما الفرعونية منها.
إذ كان يحرص على حضور المزادات في فيينا وفلورنسا وروما منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وعندما يعود إلى منزله ظافرًا بقطعةٍ أثرية جديدة كان يصطحبها معه إلى مائدة الطعام لترافقه كضيف عزيز على العشاء، كما كان يصطحب بعض هذه القطع معه في رحلاته وإجازاته. ويبرر ذلك في إحدى مراسلاته مع صديقه كارل يونج رائد علم النفس التحليلي، قائلًا: «لابد أن يكون لديّ دائمًا شيء لأحبه».
جمع سيغموند فرويد على مدار حياته الطويلة ما لا يقل عن 2500 قطعة أثرية تعود إلى حضارات مختلفة، إلا أن الحضارة المصرية القديمة احتلت النصيب الأكبر من هذه المجموعة بعدد قطع أثرية بلغ حوالي 600 قطعة تباينت بين التماثيل والخواتم والأحجار الكريمة وأقمشة الكتان المصري التي كانت تلف بها المومياوات. وفي إحدى مراسلاته مع الأديب النمساوي ستيفان زفايغ يعترف فرويد بأن قراءاته في علم الآثار تخطت بكثير قراءاته في علم النفس، وهو الشغف الذي وصفه فرويد نفسه بالإدمان قائلًا إنه احتل في نفسه المرتبة الثانية بعد محبته للسيجار.
استدعى كل هذا أن يتحول منزل فرويد اللندني إلى متحف متاح للزائرين يحفظ إرث عالم النفس الشهير ومكتبته وقطعه الفنية والأثرية. رغم ذلك ظلت علاقة فرويد بالحضارة المصرية القديمة طي الكتمان، ومثيرة للعديد من الأسئلة وذلك حتى الفصل الأخير من رحلة حياته الغامضة، عندما قام بنشر كتابه المثير للجدل “موسى والتوحيد” باللغة الألمانية بين عامي 1937 و1939، مدعيًا أن موسى كان في الأصلِ رجلًا مصريًّا، ليتوفى بعدها عالم النفس الشهير تاركًا وراءه إرثًا علميًّا هائلًا ظل مقترنًا في جانب كبير منه بالخرافات.
بين العلم و”سلطان الأسطورة”.. هل تأثرت نظريات فرويد بالمعتقدات القديمة؟
أعقبت حملة نابليون بونابرت على مصر فيما بين 1798 و1801، موجة من “الهوس بالمصريات”، وهو مصطلح أطلق على حالة من الحماسة الشديدة اجتاحت البعض اتجاه كل ما يتعلق بالحضارة المصرية القديمة من علوم وثقافة وهندسة معمارية وحتى الملابس والمجوهرات. هذا الهوس لم يكن جديدًا، إذ عرف عن الإغريق والرومان قبل ذلك بكثير شغفهم بالحضارة المصرية، إلا أن حملة بونابرت على مصر واكتشاف حجر رشيد وفك رموز الهيروغليفية، كل ذلك بشكلٍ كبير في إعادة هذا الهوس مرةً أخرى إلى الواجهة في الأوساط الأوروبية، فانتشرت عنه الحكايات الشعبية، وتناول الأدب الغربي بطريقة يغلب عليها التفكير الرومانسي “فلسفة الخلود” عند المصري القديم، وكيف تمثلت بصريًّا في الأهرامات والمسلات ونقوش المعابد، وهو ما اعتبروه أمرا يحاكي الرغبات الدفينة لدى جموع الجماهير للبحث عن الحياة الأبدية. لكن حالة ” الهوس بالمصريات” في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تجلت لدى عالم النفس الشهير سيغموند فرويد، في طرائق فكرية وتحليلية وتاريخية الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن سر هذا الهوس ومتى بدأ بالضبط؟ وهل كان للأسطورة المصرية دور في “علم النفس الفرويدي”؟
من المعروف أن مؤسس علم النفس الحديث كان يتابع أخبار الاكتشافات الأثرية الحديثة بشغفٍ منذ أن كان في السابعة من عمره، بل وسحرته رموز اللغة الهيروغليفية العتيقة فكانت له محاولات عدة لفكِّ شفرتها، وهو اهتمام بدأ معه منذ نعومة أظافره، ونما بالتوازي مع ذيوع صيت “علم المصريات” الحديث العهدِ. وفي 8 أكتوبر/تشرين الأول عام 1885، كتب فرويد رسالة إلى زوجته يقول فيها: “لقد أتيحت لي فرصة زيارة الغرف المصرية داخل متحف اللوفر في باريس، تبدو كعالمٍ أشبه بالخيال حيث أبو الهول الحقيقي والنقوش المصرية، حتمًا سأزورها ثانيةً عدة مرات”.
“التنقيب داخل النفس البشرية يشبه عملية التنقيب عن الآثار”
– سيغموند فرويد
كان فرويد في تلك الفترة قد حصل على منحة دراسية في باريس للتدريب تحت إشراف الدكتور جان مارتن شاركو، الذي كان شهيرًا في ذلك الوقت باستخدامه تقنية عجيبة لمعالجة الأمراض العصبية، وهي “التنويم المغناطيسي” عن طريق الإيحاء. أعجب فرويد بهذا الأسلوب السحري في العلاج، وعند عودته إلى وطنه فيينا جلب معه تعاليم شاركو الغريبة وحاول إقناع الأطباء النمساويين بفائدتها، لكن لم يفت وقت كبير حتى تيقن فرويد من الآثار الضارة للتنويم المغناطيسي على شخصية المريض، إذ يقول عن ذلك إن المرضى في بعض الأحيان وتحت تأثير الإيحاء كانوا يستحضرون ذكريات مزيفة وغير حقيقية.
أما المثير للاهتمام حقًّا في هذه التقنية، فكان أصلها الذي يعود إلى أعمال الطبيب والمعماري المصري الشهير إيمحوتب صاحب أول بناء حجري في التاريخ “هرم سقارة”. لهذا يعد الباحثون الفترة التي قضاها فرويد في باريس مع جان شاركو وزياراته المتعددة لـ”الغرف المصرية” في متحف اللوفر، أهمّ ما ساهم في تطوير أفكاره المبكرة حول نظريات التحليل النفسي، مشيرين إلى أن هذا الإعجاب بالمصريات تخطى لدى سيغموند فرويد حدود الشغف بجمع القطع والمقتنيات الأثرية، ووصل إلى حد الاستعارة في كثير من الأحيان.
اعتقد فرويد أن التحليل النفسي لا يختلف كثيرًا عن التنقيب في الآثار، إذ هي عملية تهدف لاكتشاف الماضي والحفاظ عليه، فتعامل مع العقل البشري بما يختزنه من أحداث متراكمة ونزعات وعواطف مكبوتة كما يتعامل عالم الآثار مع اكتشافاته، فكانت التماثيل والرموز الهيروغليفية وطقوس الانتقال إلى العالم الآخر بالنسبة إلى فرويد بمثابة قاموس للعقل اللاوعي، وإلهامًا استقى منه الكثير من معارفه، واستخدمه فيما بعد لتطوير نظرياته في التحليل النفسي.
ففي كتاب “لماذا فقد حورس عينه”، أشارت الدكتورة ميرفت عبد الناصر الحاصلة على زمالة الكلية الملكية للأطباء النفسيين، إلى أن عالم النفس الشهير سيغموند فرويد استوحى تفسيره للنفس البشرية في حالة “الوعي واللاوعي” من فلسفة “الكا والبا” عند المصريين القدماء، كما استوحى منهم أيضًا تفاسير الأنا والأنا العليا والأنا السفلى.
ولفهم هذه المعاني، علينا أن نعرف أن المصري القديم آمن بوجود ثلاثة قوى مندمجة داخل الروح الإنسانية، لكن بعضها ينفصل عن بعض عند الموت، هذه القوى هي: “الجسد الإنساني”، و”البا” التي تمثل قوة روحية غامضة تصعد بعد الموت إلى السماء وهي روح أكثر رقيًّا لا تقيدها رغبات الدنيا المادية، و”الكا” التي تمثل القوة الثالثة، وهي أشبه بمفهوم القرين حيث تتماثل مع الفرد بكل صفاته النفسية المعقدة. وفي هذا السياق تشير ميرفت عبد الناصر، إلى أنه وفقًا للتصنيف الفرويدي، فقد كانت “الكا” المصرية مفهومًا جامعًا لكلٍّ من الأنا (الإيغو) والأنا السفلى (الليبيدو)، أما “البا” فهي تمثل الأنا العليا (السوبر إيغو).
هذا الأمر تؤكده مقتنيات متحف فرويد، فإذا تأملتها فستجد تمثال “البا” المصري حاضرًا، وإلى جانبه تمثال إيمحوتب شاهدًا على تأثر عالم النفس الشهير بالطبيب المصري، كما مارس فرويد طقوس الكتابة أمام تمثال الإله “بتاح”، راعي الفن والفنانين وملهم الكتاب، وإلى جانب سريره نجده قد وضع تمثالًا للإله المصري «تحوت» حتى يستبشر به كل صباح.
كانت نسخة الإله تحوت التي اقتناها فرويد في منزله (متحفه لاحقًا) هي نسخة حيوان “الربّاح المُقدّس” “Baboon” الذي أثار اهتمام الكثير من علماء النفس الأوائل، فوصفه كارل يونج بكونه النموذج الأول في الوعي البشري لشخصية “العجوز الحكيم”، إذ اتخذ المصري القديم من هذه الصور رموزًا مستمدة من عالم الطبيعة والحيوان تدل على صفات حاملها، وكان لـتحوت نسخته الأخروية أيضًا التي يظهر فيها على هيئة حيوان “أبو منجل”.
أما اهتمام فرويد بالإله تحوت تحديدًا فيرجع إلى العديد من الدلالات النفسية والفلسفية، إذ يؤدي تحوت في الأساطير المصرية دورين رئيسيين، أولهما: أنّه الوسيط في الصراع بين قوى الخير وقوى الشرّ، وأحيانًا بين قوى النظام وقوى الفوضى، والجدير بالذكر هنا أنّ تحوت يعمل على استدامة الصراع، ويضمن عدم انتصار أيّ طرف على الآخر، فعلى سبيل المثال، في حال سقط أحد المتصارعين أرضًا فإنّ تحوت يُسارع إلى علاجه كي يعود لمواصلة المعركة والصراع مع القوى الأخرى.
ويبدو أنّ هذه الفكرة مثيرة جدًّا لدى فرويد، وهو الذي يؤكّد في نموذجه النفسيّ على دوام الصراع بين عناصر النفس الثلاثة المختلفة، بوصفه معركة مستمرّة غير منتهية، وبوصفه نظامًا كونيًّا محكمًا يعمل وفق قانون حفظ الطاقة الفيزيائي، وكأنّ الصراع لا ينتهي لكنّه يتحوّل من شكل لآخر.
أمّا الوظيفة الثانية التي يؤديها تحوت بحسب الأساطير المصرية فهي الكتابة والحساب أيضًا، بل يُقال إنّه هو الذي علّم النّاس الكتابة، وهو يُشرف على عملية المحاكمة بعد الموت، ويقوم بعملية قياس وزن قلب الميّت لتحديد ما غلب عليه من خير أو شر، وتوثيق ذلك وتدوينه.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أفرد الدكتور روبرت ريبر في كتابه “فرويد في التفسير” فصلًا كاملًا لتأثر فرويد بالحضارة المصرية القديمة، تحت عنوان “من الفراعنة إلى فرويد: التحليل النفسي والتقاليد السحرية المصرية القديمة”، وفيه حلل ريبر نظريات فرويد حول اللاوعي والكبت والوظائف الجنسية وكيف تأثرت بالأساطير المصرية القديمة، قائلًا: “لقد كان تأثيرها أعمق بكثير مما يود فرويد نفسه الاعتراف به”.
والآن، دعونا نُلقِ نظرة على بعض هذه النظريات وكيف قام ريبر وآخرون بتحليلها جنبًا إلى جنب مع ما اقترنت به من الأساطير المصرية القديمة.
يقول روبرت ريبر إن زيارات فرويد المتكررة لمتحف اللوفر والمتحف البريطاني، والوقت الذي قضاه يطالع التماثيل والمومياوات المصرية، كلّ ذلك قد منحه فرصة لتأمل الفكر المصري القديم الذي سيطر على أساطيره الصراع بين الرغبة الجنسية والرغبة في الموت، وهو الصراع الذي اعتبره فرويد نظيرًا للاوعي البشري، وقد انعكس ذلك بشكلٍ خاص على مؤلفاته، فنجده في كتابه “ثلاثة مقالات عن نظرية الجنسية” الذي نشر عام 1905، يحاكي الازدواجية الجنسية التي اشتهرت بها الآلهة القديمة، مدعيًا أن كل فرد على عكس الشائع يظهر مزيجًا من السمات الشخصية التي تنتمي إلى جنسه والجنس الآخر.
نفس الأمر يتكرر على طول مسيرة سيغموند فرويد المهنية، فزواج الإخوة والأبناء الذي كان تقليدًا متبعًا للحفاظ على السلالة الملكية في مصر القديمة، يتحول وفقًا لفرويد إلى إحدى أشهر نظرياته وهي “عُقدة أوديب”، التي اعتبرها ريبر ذات صلة وثيقة بالحضارة المصرية، قائلًا إن فرويد اعتقد أن مرضاه لديهم نفس الرغبات والأوهام لكنهم لا يجرؤون على الاعتراف بها حتى لأنفسهم، وهو السبب الذي من أجله أرجع فرويد الأمراض العصبية بلا استثناء إلى كونها نتيجة لاضطرابات في الوظائف الجنسية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك قائلًا إن كل الفتيان يخبرون “عقدة أوديب” المتمثلة في التمرد على سلطة الأب لاحتكاره للأم التي تمثل بالنسبة إليهم تجسيدًا لجميع النساء، كما يَخبُر الفتيات “عقدة إليكترا” وهي الحالة النفسية غير الواعية بحسب فرويد الناجمة عن تعلّق الفتاة بأبيها ورغبتها فيه، وغيرتها من أمّها وهي العقدة التي يعتبرها فرويد منشأ الكراهية الخفيّ من الأم لابنتها والحسد المتبادل بينهما.
وهو ما يعتبره فرويد أمرًا طبيعيًّا يحدث في فترة مؤقتة من مراحل الطفولة، إلا أن بعض الأفراد لا يستطيعون التخلص من هذه المشاعر بالتقدم في السن، وهو ما تنتج عنه الأمراض العصبية. وهي نظريات دحضها فيما بعد الكثير من علماء النفس كان من بينهم تلاميذ فرويد نفسه الذين رأوا أن عالم النفس الشهير قد بالغ في تقدير دور الجنس في نظرياته.
يصل التأثر الفرويدي بالحضارة المصرية القديمة إلى قمته في الأساليب العلاجية التي طورها واستخدمها مع مرضاه، ولعل أشهر هذه الأساليب “التداعي الحُرّ”. فعلى سبيل المثال، كان سيغموند فرويد يدع مرضاه يتحدثون بحرية وهم مسترخون على الأرائك الأثيرة في غرفة مكتبه، حتى يتمكن من سبر أغوار نفوسهم. لكن هل خطر يومًا ببالك أن هذه الأداة كانت مستوحاة من فكرة “بيوت النوم العلاجية” التي أنشأها الطبيب إيمحوتب واشتهرت بها المعابد المصرية؟
يقول فرويد في وصف بيوت النوم العلاجية: “كان المريض في مصر القديمة يأتي بيت الأحلام بحثًا عن علاج، ويطلب منه المعالج أن يستلقي على أريكة لكي يدخل في النوم، وعندها يتكشف للمريض بنفسه الكثير من الأمور التي صعب عليه إدراكها في يقظته”. بتمعن النظر في هذا الأسلوب سنجد أنه الأسلوب ذاته الذي اتبعه فرويد في عملية التحليل النفسي لمرضاه.
ويقول روبرت ريبر إن هناك كثيرًا من الغموض يرتبط بالأصول الحقيقية التي يعود إليها أسلوب “التداعي الحُر”، وهذا لأن فرويد اختار إخفاء الأمر سواء عن قصد أم بغير قصد، وعلى الرغم من أنه أظهر التداعي الحُر وكأنه حلٌّ سحري يؤدي فيه المحلل النفسي دورًا سلبيًّا خلال جلسة التحليل، فإن علم النفس المعاصر -وفقًا لريبر- يشير إلى أنه لا يمكن تجنب تأثير المحلل النفسي في الجلسة التحليلية حتى لو ظل صامتًا وبقى وجهه جامدًا وخاليًا من التعابير؛ وهذا لأن الصمت يمكن أن يؤدي دورًا مؤثرًا في المريض خلال عملية التداعي الحر، وهو ما يُعدّ تدخلًا.
شرح فرويد في كتاباته كيف يمكن أن تتحول لغة المريض في حالة الاسترخاء إلى لغة مبهمة مليئة بالإشارات والرموز، فكان دور المعالج النفسي عندها يعتمد على تفسير هذه الرموز والإشارات اللفظية بطريقة صحيحة، وبنفس الطريقة نجد فرويد نفسه يشير إلى “السمات الأثرية” في الأحلام في المحاضرة الثالثة عشرة من كتابه “محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي”؛ قائلًا إن الحلم يعد أحد أساليب التعبير عن الأفكار الشعورية التي نعهدها ونحن في حالة اليقظة، إلا أنها تخرج في النوم بطريقة رمزية تشبه -على حد تعبيره- الرموز الهيروغليفية التي تعد لغة تصويرية مجازية يصطنعها الحلم، ولهذا أطلق فرويد على هذا الأسلوب التعبيري في الأحلام اسم “الأسلوب الأثري (Archaic)” نسبة إلى علم الآثار.
اعتبر فرويد الحلم طريقة تعبير بدائية تعيدنا إلى مرحلة قديمة من مراحل تطورنا العقلي اجتزناها في طفولتنا، مشيرًا إلى أن المادة المكبوتة والأسرار والخبايا تشق طريقها إلى الوعي عن طريق الحلم، ولهذا اعتبر رموز الأحلام وسيلة مفيدة علاجيًّا للكشف عن خبايا اللاوعي. وعلى الرغم من محاولاته لأن ينأى بنفسه عن كتب تفسير الأحلام السيئة السمعة، وذلك من خلال تقديمها في قالبٍ علمي يختلف عما عرف عنها من خرافات، فإنه استخدم في تفسيراته -وفقًا لـريبر- نفس أساليب فك تشفير الرموز في مصر القديمة، حيث يمكن للرمز أن يعبر عن شيئين مختلفين أو متناقضين في الوقت ذاته، وبالتالي يمكن لرموز الأحلام أن تحتمل أكثر من تأويل، وهو أمر يحدده التاريخ الشخصي للمريض الذي يعود إلى مرحلة الطفولة.
يقول روبرت ريبر: “إنه على الرغم من أن علم التحليل النفسي أتى خاليًا من كل المفاهيم الروحانية والعقائدية التي تتعلق بالحياة الآخرة، فإن فرويد كان منبهرًا بمصر القديمة إلى درجة أنه كان على استعداد لنهب مقابرهم -مجازيًا- من أجل دعم نظرياته”. وهو أمرٌ ناقشته ميرفت عبد الناصر في كتابها، مشيرة إلى أنه على الرغم من تأثر أبي علم النفس الحديث بالفكر المصري، فإنه نسب الفضل في نظرياته فيما بعد إلى الإغريق والحضارة اليونانية، وحين أراد فرويد إعادة صياغة مصطلحاته وإعطاء علمه الجديد اسمًا مستمدًا من الأساطير القديمة، لجأ إلى الميثولوجيا الإغريقية، فاختار لفظة “سيكي” في كلمة “بسيكولوجي – Psychology” التي تعني في اليونانية النفس.
مكتب فرويد لا يشبه عيادات الأطباء
في دراسة نشرت عام 2020، ألقت جوليا شرودر الباحثة في علم النفس النظري والفلسفي الضوء على التصميم المكاني والمعماري الفريد لمكتب سيغموند فرويد، الذي صُمِّم على شكل مقبرة فرعونية مسايرة للتصاميم المعمارية لمقابر الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة، وتحديدًا مقبرة الملك المصري توت عنخ آمون المكتشفة في وادي الملوك عام 1922، وقد تناولت شرودر بالبحث الدور الفعال الذي أدّاه هذا التصميم المكاني في جلسات التحليل النفسي التي عقدها الطبيب النفسي الشهير مع مرضاه، لكن قبل أن نتطرق إلى هذا الدور علينا أن نلقي نظرة أولًا على مخطط أرضية مكتب فرويد مقارنة مع المخططات المعمارية لمقبرة توت عنخ آمون، كما هو موضح في الصور أدناه.
عند دخول مقبرة توت عنخ آمون يمكنك ملاحظة أنها عبارة عن غرفة واحدة، توجد فيها حجرة الدفن جنبًا إلى جنب مع المساحة الخاصة بالأثاث الجنائزي والمقتنيات وبينهما بوابة مفتوحة (حائط مفتوح من المنتصف) يعمل على ربط المساحتين مع الفصل بينهما في الوقت ذاته. نفس الأمر نلاحظه في غرفة مكتب فرويد، فمع عبورك من باب غرفة الانتظار إلى الداخل سترى مساحة للاستشارات الطبية وأخرى للدراسة، وكلاهما داخل غرفة واحدة يفصل بينهما حائط مفتوح من المنتصف.
أما المثير للغرابة حقًّا، فكان المكان الذي وضع فيه فرويد أريكته الأثيرة للتحليل النفسي؛ إذ كانت تحتل الموضع ذاته الذي يرقد فيه جسد المومياء داخل التابوت في حجرة الدفن، في حين احتل مكتب فرويد الذي وضع فيه كنوزه من القطع الأثرية والأثاث الخاص به مكان حجرة الأثاث الجنائزي والمتعلقات الشخصية للمومياء داخل المقبرة. ووفقًا لشرودر حرص فرويد على جعل هذه الغرفة برمتها عازلة للصوت، وذلك حتى يضمن خصوصية مرضاه ويؤهلهم للشعور بالأمان والملجأ داخل هذه “الحاوية المغلقة – Closed-off Container”.
ربط فرويد نفسه بين المقابر المصرية القديمة وعملية التحليل النفسي في مؤلفاته تحت اسم “الاستعارة الأثرية”، وكما تستقر المومياء داخل التابوت في حجرة الدفن، يستلقي مريض فرويد على الأريكة الشهيرة التي زينها بسجادةٍ مزخرفة بالنقوش الشرقية، وبينما آمن المصري القديم بأن الطقوس الجنائزية ومحتويات المقابر تساعد المتوفى في رحلته إلى العالم الآخر بعد أن يستكين جسده في حالة الراحة الأبدية، اعتقد فرويد أيضًا أن التصميم المكاني والاستلقاء على الأريكة سيساعد المرضى على الراحة والتجول بلا قيود في عوالم اللاوعي، وأن فضاء مساحة الغرفة يمكن أن يصبح في حد ذاته كيانًا نشطًا يمهد الطريق بين المحلل النفسي والمريض، ويساعد الأخير على استدعاء الحاضر والذكريات المخزنة من الماضي البعيد، وكأن الفضاء يشكل امتدادًا للنفس؛ ولهذا كانت الغرفة المغلقة التي تشبه القبر القديم تهدف إلى تعزيز المجال النفسي للمرضى.
هذا ما قصدته الباحثة جوليا شرودر عندما تحدثت عن الدور الفعال الذي أدّته الهندسة المعمارية والتصميم المكاني في جلسات التحليل النفسي لفرويد؛ إذ بحسبها استعار فرويد من عالم الحياة الأخرى في الحضارة المصرية؛ وذلك لتحفيز الانفصال النفسي عن الجسد المادي وتحرير العقل، ليتمكن اللاوعي من القيام بعملية “التداعي الحر” بينما يكون جسد المريض في وضع الراحة والسكون. وفضلا عن ذلك، يبدو أن ترتيب المقتنيات الأثرية والتماثيل والأثاث والمرايا المعلقة على الجدران كل هذا أدّى دورًا نفسيًّا في تحويل هذا الفضاء المغلق إلى “حاوية نشطة – Active Container”.
في هذا السياق نشرت المهندسة المعمارية إليزابيث دانزي ورقة علمية عام 2005 تناولت فيها دور المقتنيات والعناصر والفنون التي تحتويها غرفة المحلل النفسي في إيجاد فرص أفضل للتواصل مع المرضى، إذ لا تعدّ هذه العناصر محايدة، بل تؤدّي دورًا نشطًا في ممارسة التحليل النفسي، وهو الشيء نفسه الذي اعتمد عليه فرويد من خلال القيمة الرمزية لمقتنياته الأثرية ودورها النشط في ممارسته الطبية.
وهو ما يتوافق مع مفاهيم “الحاوية النشطة” في علم النفس التحليلي المعاصر التي تعمل على مراعاة شروط بيئة التحليل النفسي خلال عملية الإعداد، وهو ما يعني أن غرفة المحلل النفسي يجب ألا تكون وعاءً خاملًا أو فارغًا، بل تعتبر في هذه الحالة جزءًا لا يتجزأ من آليات التحليل النفسي، لتتفاعل بديناميكية مع بقية العناصر لتحقيق الهدف المنشود، وهو مساعدة المريض على الانفتاح ومن ثم التحول النفسي، إذ كان الأثاث وترتيب المقتنيات في مكتب فرويد بمثابة وسيلة للتوجيه تشبه إجراءات التوجيه نحو طرق محددة داخل المعابد وهو أمرٌ كان شائعًا في الهندسة المعمارية المصرية القديمة.
لفهم هذا الأمر، دعونا نتخيل أننا سنخضع لجلسة تحليل مع عالم النفس الشهير، في البدء يدخل المريض الغرفة وخلال الاستشارة الأولية يجلس على الكرسي المخصص قبالة مكتب فرويد حيث يكون نظره موجهًا إلى المرآة المعلقة في مكان مميز خلف المكتب، وذلك حتى يرى المريض انعكاس صورته في المرآة أثناء حديثه، أما فرويد فيجلس على رأس مكتبه ونظره موجه نحو مرآة ثانية معلقة قبالة المكتب، إذ حرص عالم النفس على أن يكون مبهمًا لمرضاه، وعادةً ما كان وجهه غامضًا وخاليًا من أية تعبيرات خلال جلسات الاستشارات.
بعد الانتهاء من الاستشارة الأولية، يتحرك المريض نحو البوابة المفتوحة إلى الناحية الأخرى من الغرفة، حيث يستلقي على الأريكة الشهيرة التي كان موضعها مواجهًا للحائط، وهو ما يسمح للمريض بالتفاعل مع السمات المرئية للمكان، مثل اللوحات المعلقة على الجدار المقابل، في حين يجلس فرويد على كرسيه الكبير والمريح الموضوع خلف الأريكة، وبذلك يكون خارج نطاق رؤية المريض، وهو ما يعني أنه في الوقت الذي أدّت فيه المقتنيات والأثاث دورًا نشطًا خلال جلسات التحليل النفسي، كان المحلل يؤدّي دورًا محايدًا أو سلبيًّا.
إذ اعتبر فرويد وجود المُحلّل النفسي خلف الأريكة، وغياب وجهه وجسمه عن المجال البصري للمريض وهو مُمدّد على الأريكة، شرطًا أساسيًّا لنجاح “التداعي الحر”، إذ بعد فترة من بدء المريض الحديث عن نفسه وبينما يقوم المحلّل النفسي بطرح الأسئلة الاستقصائية والتنقيبية، يتماهى صوت المحلّل النفسي مع تفكير المريض، وكأنّ كلمات المحلّل النفسي التي تأتي من الخلف، هي أسئلة المريض الأصيلة المُوجَّهة نحو لاوعيه، وهكذا شيئًا فشيئًا يتلاشى حضور المعالج كشخص سُلطوي وكآخر منفصل عن الذات، إلى صوت العقل الخاصّ بالعميل أو المريض الذي يحاكم لاوعيه ومكامن اللاشعور لديه من خلال ذلك الصوت القادم من خلف الأريكة.
هناك أمر آخر سنلاحظه أثناء الجلسة، وهو التماثيل الطينية المصفوفة على مكتب فرويد، التي تعود إلى تقليد مصري قديم بوضع التماثيل الطينية في حجرة الدفن بجانب جسد المتوفى؛ إذ اعتقدوا أنها تمثيل له وبديل في حالة سرقة المومياء بأيدي سارقي القبور. وتبعًا لهذا التقليد اعتبر فرويد هذه التماثيل بمثابة نسخة مزدوجة من المريض، إذ كان يميل للتفاعل مع التماثيل خلال جلسات التحليل النفسي.
في شهر يونيو/حزيران من عام 1938، ومع غزو ألمانيا النازية النمسا، اضطر فرويد وعائلته إلى الهجرة من وطنه الأم إلى بريطانيا، وفي منطقة هامبستيد الهادئة التي تقع شمال لندن سيطلب من ابنه المعماري إرنست فرويد أن يعيد بناء مكتبه الشبيه بالمقبرة، وبالفعل يقوم إرنست بتصميم مكتب والده محافظًا على الطراز المعماري والمكاني القديم، وهو المنزل الذي يعرف في يومنا هذا باسم “متحف فرويد”. وفي غضون شهور سيتمكن فرويد من استعادة مقتنياته لتلحق به إلى لندن، بما في ذلك القطع الأثرية التي جمعها عبر السنين. وفي أواخر أيامه، سيطلب فرويد من العائلة إنزال سريره إلى غرفة الدراسة ليكون بالقرب من كتبه ومكتبته ومجموعته الأثرية المحببة إلى نفسه، ليؤدّي هو في الأخير دور المومياء إلى أن توفي بهدوء في 23 سبتمبر/أيلول من عام 1939.
عند فرويد: “موسى كان مصريًّا”
قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، نشر سيغموند فرويد في نهاية حياته آخر مؤلفاته وأكثرها إثارة للجدل، وهو كتاب “موسى والتوحيد”، الذي قسمه إلى ثلاثة أبحاث، نشر اثنين منهما في مجلة “إيماغو” (Imago) الألمانية عام 1937، والمبحث الثالث نشر بعد وفاته في لندن عام 1939، وهي الأبحاث التي أثارت ضجة عارمة حين نشرها، وتعرض فرويد على إثرها لموجة ضخمة من الانتقادات من جانب اليهود الذين اعتبروا كتابه مسيئًا لهم وسعوا لمنع نشره في الغرب بشتى الطرق.
وبعد صدور الكتاب بقليل وصفه الكاتب المصري عباس العقاد في مجلة الرسالة القاهرية في مقال كتبه عام 1939 بأنه “أعجوبة الفروض والاحتمالات، أو باعترافه هو (فرويد) أعجوبة التلفيقات والتخمينات؛ إذ كان من المتعذر عليه أن يرجع إلى حقائق التاريخ أو أساليب العلم في الاستقصاء، فاعتمد على الفروض، وقال بصريح العبارة إنه لا يعتمد على شيء غير الفروض”.
قدم فرويد أربعة ادعاءات رئيسية فيما يتعلق بالرواية التوراتية لنبي الله موسى (عليه السلام)، أولها كان فرضية أن موسى لم يكن عبرانيًّا بل كان مصريًّا، والثاني كان أصل “التوحيد” الذي أرجعه إلى الملك المصري أخناتون وليس اليهود، أما الادعاء الثالث فكان قتل موسى بأيدي اليهود، والرابع تمثل في نمو الشعور بالذنب اللاوعي الذي ساهم في التطور العقلاني والأخلاقي للديانة اليهودية. وهي الادعاءات التي قام بتفنيدها العديد من الفلاسفة والمفكرين، كما سنتناولها بالتفصيل في السطور التالية.
وقد استند فرويد في بناء أسطورته حول “مصرية النبي موسى” إلى ما جاء في كتاب “فجر الضمير” لعالم المصريات والمؤرخ الأمريكي هنري برستيد عام 1934، الذي زعم أن اسم موسى (Moses) يعود إلى الكلمة المصرية القديمة “موس” (Mose) ومعناها “طفل”، وقد كانت هذه الكلمة -بحسب برستيد- جزءًا من الأسماء المصرية المركبة التي اشتهرت بها الدولة القديمة، إذ كان من الشائع وضع اسم إله مصري قبل اسم الطفل، فكانت أسماء الأبناء مركبة ومقترنة بأسماء الآلهة وهو تقليد كان متبعًا لضمان الحماية للأبناء.
كما هو الحال في اسم الملك المصري “تحتمس” أي “تحوت-موس”، ورمسيس الذي هو في الأصل “رع-موس”. وعادةً ما كانوا يزيلون اسم الإله تدريجيا بالتداول، لينادي الأب ابنه باسمه الثاني، موس. وقد فند هذه الحجة عالم المصريات الأمريكي أوجدن جويليت قائلًا إن الأميرة المصرية التي تبنت موسى صغيرًا واتخذته ابنًا لها، كان من المرجح أن تهبه اسمًا مصريًّا، وهو أمر لا يمكن اعتباره دليلًا على قومية نبي الله موسى أو مصريته.
لكنّ هناك أمرًا آخر مثيرًا للاهتمام بشأن هذا الادعاء أشار إليه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في إحدى محاضراته التي استضافها متحف فرويد في لندن عام 2002 ونشرت تحت عنوان “فرويد وغير الأوروبيين”، هذا الأمر هو التوقيت الذي جاءت فيه محاولة فرويد لإثبات مصرية النبي موسى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، تلك الفترة التي تزامنت مع حكم هتلر والصعود النازي الذي تعاظم معه شعور اليهود بمعاداة السامية، وهو ما يعد توقيتًا شائكًا، إذ يشير سعيد إلى أهمية السياق التاريخي الذي كتب فيه فرويد أبحاثه، والذي جاء متقاطعًا مع حالة عدم اليقين السياسي التي أحاطت بحياته في فيينا قبيل الغزو النازي.
في محاضرته، يلفت إدوارد سعيد النظر أيضًا إلى دور المركزية الأوروبية في كتابة “موسى والتوحيد”، إذ حددت هذه النظرة الثقافية مسبقًا معنى الحضارة، وذلك من خلال علم الأعراق الزائف الذي عمل على تقسيم الجنس البشري إلى سلسلة هرمية من الأعراق حسب لون بشرتهم، وهو تصنيف جرى فيه تجريد الطبقات الدنيا من إنسانيتهم، وذلك بتصويرهم في صورة الوحوش البدائيين.
الأمر الذي رفضه فرويد وسعى حثيثًا لإثبات أن الشعب اليهودي الذي طالما نظروا إليه باعتباره “غير أوروبي” وعِرقًا مختلفًا يجري في دمائه دم مختلف، إنما هو في الحقيقة يتألف من بقايا “الحضارة المتوسطية” من شعوب البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي فإنهم لا يختلفون كثيرًا عن البلاد الأوروبية التي ولدوا وعاشوا فيها تبعًا للسياق الأوروبي في تصنيف الأعراق ومدى تحضرها. ويستشهد فرويد في ذلك بأن اليهود ليسوا (عرقًا آسيويًا غريبًا) -على حد تعبيره- مشيرًا إلى أن اليهود جاؤوا جنبًا إلى جنب مع الرومان إلى البلاد التي سادت فيها نزعة معاداة السامية مثل ألمانيا، وهو ما يعقب عليه المفكر الفلسطيني قائلًا إن فرويد ربما أراد أن “يحشر اليهود تحت العباءة الأوروبية” في وقت تعاظمت فيه معاداة السامية.
للأسف، لم يعش فرويد إلى زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإلا لكان قد شاهد بأم عينيه كيف تغيرت معطيات الواقع التي طالما أرقته، حيث أصبح اليهود شبه أوربيين، وتم حرف النظرة الدونية عنهم، وصرفها إلى شعوب أخرى. وهنا يأخذنا إدوارد سعيد في رحلة عبر الزمن التي يحلل فيها كتاب فرويد وفقًا لمعطيات عالمنا المعاصر، قائلًا إن عام 1948 شهد تحولًا كبيرا فيما يخص تصنيف “غير الأوروبيين” المعنيين، وهو ما نتج عن تغيير التصنيفات الخاصة بالشعوب والأعراق، فبعد أن كان يهود أوروبا هم المعنيين بهذا التصنيف والتمييز، جرى استبدالهم بعرب فلسطين الذين تجسدت فيهم فكرة السكان الأصليين البدائيين، وذلك في الوقت الذي تبنى فيه المجتمع الدولي “إسرائيل” الناشئة بوصفها دولة شبه أوروبية ولكنها تقع في منطقة الشرق الأوسط. هذا الأمر الذي عمل على تغيير معطيات الواقع في زمن كتاب فرويد بعد أن حلت المجتمعات الأوروبية “المسألة اليهودية” عن طريق استبدالها بـ”المسألة الفلسطينية”.
ويسلط إدوارد سعيد الضوء بعد ذلك على مسألة غاية في الأهمية، وهي “صراع الهوية” الذي كان يعتمل في نفس سيغموند فرويد وقت كتابته عن “هوية موسى”، إذ يبدو أن عالم النفس الشهير كان يؤمن بنظرية “العرق اليهودي” الواحد قبل أن يدحضها علم الجينات الحديث بشكلٍ كامل، حيث أشار فرويد في أكثر من موضع إلى النزعات الشخصية المتأصلة في النفس اليهودية، التي رأى أنها تجد طريقها في الانتقال من جيل إلى جيل عبر رابطة الدم، وهو ما يجعل حتى اليهود الملحدين -وفقًا له- لا يمكنهم الفكاك من يهوديتهم التي تجاوزت فكرة الديانة؛ ولهذا نجد أن مؤسس علم النفس الحديث الذي أعلن أكثر من مرة أنه غير مؤمن بالرب، ظل متمسكًا بيهوديته باعتبارها هوية لم تعد بحاجة إلى الدين لاستدامتها، وقد عظم هذا الأمر من قلقه الوجودي على مصير علم “التحليل النفسي” وخوفه من أن يوصم بأنه “علم يهودي”، وحاول أن يبحث عن مخرج تاريخي.
هنا نكون قد وصلنا إلى الادعاء الثاني الخاص بأصل “التوحيد”، الذي نسبه عالم النفس الشهير إلى الملك المصري أخناتون، قائلًا إنه تمرد على ديانة أسلافه التي عُرف عنها تعدد الآلهة، وأقام لنفسه عاصمة جديدة “أخيتاتون” في منطقة تل العمارنة بمحافظة المنيا المصرية، وهناك دعا إلى عبادة إله واحد، وهو ما اعتبره دليلًا على تطور “العقيدة التوحيدية الأولى” في مصر، زاعمًا أن موسى استقى منها تعاليمه. وهي الكذبة التي فندها فرويد نفسه داخل كتابه، معترفًا بعدم وجود مادة تاريخية كافية للتدليل على صحة تكهناته، خاصةً في ظل غياب الدلائل الأثرية وعدم وجود أي ذكر للإسرائيليين في المصادر التاريخية، هذا إضافة إلى أن هوية “فرعون الخروج” حتى يومنا هذا يكتنفها الغموض، أما ديانة أخناتون التوحيدية، فيعتقد البعض أنها لم تكن أكثر من توحيد للعقائد، حيث لم تتخل ديانة أخناتون عن “عبادة الشمس” التي تعتبر أحد أبرز ملامحها.
وفي هذا السياق يشير روبرت ريبر في كتابه -السابق الذكر- إلى أن سيغموند فرويد كان منبهرًا بشكلٍ خاص بشخصية الملك أخناتون البطولية، إذ اعتبره أول ثائر في التاريخ على “سلطان الأسطورة” الغارقة في عوالم الظلام والحياة الأخرى، ولهذا سعى لتحرير العالم من القوى الظلامية عن طريق “الشمس” كرمزٍ للضياء، وهو ما جعل فرويد -بحسب ريبر- يتماهى مع شخصية أخناتون ويرى في نفسه حامل شعلة التنوير ومحرر العقول من الأسرار المكبوتة في اللاوعي.
تناول إدوارد سعيد في محاضرته هذه الجزئية، مشيرًا إلى أن الدراسات الأخيرة في علم المصريات قد كشفت عن وجود قدر لا يستهان به من الآثار التي تدل على أن التوحيد جاء سابقًا لعصر أخناتون بوقت طويل. وهو أمر يوافقه فيه عالم النفس والفيلسوف الألماني إريك فروم، الذي لم ينكر التأثيرات الخاصة بالثورة الثقافية التي أحدثها أخناتون في مصر، إلا أن ذلك من وجهة نظر فروم لا يتعارض مع فكرة ظهور التوحيد قبل ذلك بكثير في زمن “نبي الله إبراهيم”، وبالتالي تصبح معرفة مصر بالتوحيد في هذا العصر أمرًا ليس مستغربًا.
رغم ذلك رأى فروم في شخصية “نبي الله موسى” ملمحا مهمًّا في تبلور الفكر التوحيدي الخالص، الذي نتج عنه تنزيه الإله الخالق عن أية صلة “بالأصنام” أو التمثيلات المجسمة للآلهة التي اعتادت الشعوب البدائية عبادتها واللجوء إليها، وهو ما يمثل لحظة روحية حاسمة في تاريخ البشرية. ووفقًا لهذه الرؤية نجد “النبي موسى” في كتابات إريك فروم كان زعيمًا روحيًّا عالميًّا قاد عملية التحرر الاجتماعي من العبودية، وبالتالي فهو يرمز لحلقة أساسية في تاريخ تطور الأفكار والوعي العام العالمي؛ مما لا يجعله محصورًا فقط في تاريخ إسرائيل، وبالمناسبة نشير إلى أن إريك فروم هو كذلك من أصول يهودية.
في رأي بعض النقاد أن كتابة فرويد عن موسى بكل ادعاءاته ومزاعمه كانت “بحثًا في السيرة الذاتية” عن فرويد نفسه الذي كان مهووسًا ومتماهيًا بشكلٍ غير واعٍ مع شخصية “بطله”، وهو أمر أشار إليه العديد من النقاد والمفكرين، منهم إدوارد سعيد بقوله إن تنقيب سيغموند فرويد في شخصية موسى كان أشبه بتنقيبه في جوانب هويته هو، والهوية الإنسانية بشكل عام؛ ولهذا السبب أشار محمد العزب موسى في كتابه “موسى مصريًّا.. نظرية فرويد في التاريخ اليهودي”، إلى أن علينا النظر إلى كتاب فرويد “موسى والتوحيد” باعتباره بحثًا في علم النفس، إذ اعتقد أبو علم النفس الحديث أن الأمم والجماعات البشرية ذات نفسية خاصة ومعقدة يسري عليها ما يسري على النفسية الفردية من كبت وتحويل وإعلاء، وهو أمر يسهل تتبعه باستفاضة في أبحاث فرويد الأخرى التي نشرت تحت عنوان “علم نفس المجموعة”، وفي العقود الثلاثة الماضية تزايد عدد الدراسات التي نادت باعتبار “موسى والتوحيد” كتابًا في التحليل النفسي، وإسهامًا في فهم الصراعات المحتدمة بين عناصر النفس الثلاثة (الأنا والأنا العليا والأنا السفلى)، من خلال التعمق في تحليل “النفسية اليهودية” باستخدام نظريات وأساليب التحليل النفسي، بهدف الوصول إلى رؤية متماسكة حول نشأة الأخلاق، والتكوين النفسي للضمير.
وجّه العديد من الفلاسفة نقدًا لاذعًا للمنهج الفرويديّ في التحليل النفسيّ، كان أبرزه نقدًا ينتمي لحقل فلسفة العِلم، من حيث صوابية المنهج، والطريقة التي ينتهجها سيغموند فرويد في تحليل الشخصية وتفسير السلوك. وكان النقد الأبرز الموجّه آنذاك يتمثّل بنقد الفيلسوف كارل بوبر حول مبدأ التخطئة، ومدى قابلية التحليلات النفسية بالصيغة الفرويدية للتخطئة والنقد.
يعتمد منطق كارل بوبر على فكرة بسيطة مفادها أنّ أي نظرية علمية كي تكون علمية بحدّ ذاتها وكيف تقارب الصواب، فإنّها يجب أن تكون قابلة للتخطئة. على سبيل المثال، لنفترض أنّ شخصًا ما راجع سيغموند فرويد في حلم يُعاود المريض ويتكرّر لديه، وفي تفاصيل الحلم أنّ الشخص يرى نفسه يطير. حينها قد يُفسّر المُحلّل النفسي هذا الحلم على أنّه رغبة في الحرية أو الهروب من ضغوط الحياة. لكن ماذا لو رفض المريض هذا التفسير؟ وقاومه وقال: أنا لم أشعر بالقلق قبل الطيران ولكن أثناء التحليق في الجوّ خلال الحلم، حينها قد يُفسِّر المُحلّل الحلم على أنه خوف من التحديات المتعلقة بتحقيق الحرية أو إدارة النجاح. في أي من السيناريوهين يمكن لسيغموند فرويد والمُحلّلين النفسيين تكييف التفسير ليناسب استجابة المريض، مما يجعل من الصعب إثباته أو دحضه.
هذه الدوامة التفسيرية تشمل حِيَل الدفاع النفسي، إذ لنفرض أنّ شخصًا ما قال لفرويد ما يُعانيه في حياته، ثمّ أخبره فرويد بأنّه في الغالب لديه رغبة جنسية غير واعية في أحد الأقارب، إذا رفض المريض هذا التفسير، حينها سيصمه فرويد بأنّه يُمارس حيلة دفاع نفسي معروفة تُسمّى الإنكار. هذا تحديدًا ما اعترض عليه كارل بوبر بأنّ المنهج الفرويديّ يمكن أن يجعل تفسيراته غير قابل للدحض لأنه يمكن تعديله باستمرار ليتوافق مع أي حجة مضادة أو تفاصيل إضافية يُقدّمها المريض.
لم يقتصر هذا النقد على كارل بوبر، بل كان لدى عالِم النفس الألماني الشهير المتخصّص في دراسات الشخصية هانز آيزنك، نقدٌ مماثل ينتقد فيه التفسيرات اللّاحقة، أو التفسير بأثر رجعيّ، بأنّها تفسيرات تأتي عقب أن يقول المريض أو العميل ما لديه، وبالتالي لا يُمكن المصادقة عليها كما أنّها لا تمتلك أي قدرة تنبّئية للوقائع القادمة، وهذا عطب أساسي في أي فرضية علمية.
من هنا، يوصي النقّاد بالحذر والتوجّس عند التعاطي مع تفسيرات سيغموند فرويد وأتباع منهج التحليل النفسي، من مدى موثوقية التفاسير والحكايات المنسوجة تفسيرًا للسلوك الإنساني أو الشخصية وطباعها. فإذا بدا التفسير والحكاية المنسوجة منطقيين فهذا لا يعني أنّهما صحيحان بالضرورة؛ إذ حتّى الأساطير والخرافات الشعبية تملك قدرًا من المنطقية من حيث قدرتها التفسيرية، لكنّ منهج التخطئة أو القابلية للدحض يعتبر أنّ النظرية تقارب الصواب ليس بمدى منطقيتها التفسيرية ولكن بمدى قدرتها على الصمود أمام محاولات النقد والتخطئة واستمرارها في التفسير بالرغم من كلّ محاولات التخطئة السابقة.