تصنع بعض الأفلام لتُعرض في دور السينما، لإمتاع جمهورها وتحقيق الإيرادات، ثم تنتقل إلى ضباب التاريخ، لتُعرض بعد ذلك على التلفزيون بين الحين والآخر لو كانت مهمة أو شهيرة بما يكفي.
لكن في بعض الأحيان تظهر أفلام ذات تأثير دائم، لا تغير فقط في أذهان وطرق تفكير جمهورها، بل تساهم في تغيير قوانين البلاد التي صنعتها، وهنا سنتحدث عن بعض الأمثلة التي كانت لها تأثير اجتماعي وقانوني بالإضافة إلى تأثيرها الثقافي والفني.
“الدكتور سترينجلوف أو”: كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة”
على الرغم من أنه كان مثيرا للجدل بشدة بين السياسيين والعسكريين عند عرضه لأول مرة عام 1946 فإن فيلم “دكتور سترينجلوف أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة” (Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb) يعد الآن كوميديا سياسية ساخرة خالدة وكلاسيكية، ولم يقتصر دور الفيلم على إثارة التوتر لدى الحكومة الأميركية، لكن أدى كذلك إلى تغييرات حقيقية في سياسة الدولة.
ورفضت الحكومة في البداية فكرة المخرج ستانلي كوبريك عن حرب نووية تشتعل بمحض الصدفة، معلنة أنه أمر مستحيل الحصول، لكن الفيلم أثبت أنه شيء قد يحدث، ففي إحدى المشاهد تحاول إحدى الشخصيات الاتصال بالبنتاغون في أثناء حالة الطوارئ لتزوديه برمز الوصول لكن لا يملك ما يكفي من العملات المعدنية لتشغيل الهاتف المدفوع، ما ينتج عنه اندلاع الحرب الذرية.
وقد عُرض هذا المشهد أمام الكونغرس الأميركي، وتناقش الأعضاء الذين اعتقدوا أنه أثار مخاوف مشروعة بشأن إمكانيات الاتصال بين القيادات خلال الأزمات، وتقرر نتيجة لذلك أن معرفة شفرات الوصول إلى الأسلحة النووية يجب ألا تقتصر على مسؤول حكومي واحد فقط كما كانت قبل عرض الفيلم، وبحلول السبعينيات كان سلاح الجو يستخدم مفاتيح مشفرة لحظر استخدام الأسلحة النووية غير المصرح بها.
فيلم قصير عن القتل
في الثمانينيات، عندما كانت بولندا لا تزال تمارس عقوبة الإعدام، أخرج “كريستوف كيسلوفسكي ” فيلما تحدث عبره إلى أرواح الملايين وهو “فيلم قصير عن القتل” (A Short Film About Killing) قصة عن شاب تم اعتقاله ثم حُكم عليه بالإعدام لقتله سائق سيارة أجرة.
وأثار عرضه في مهرجان كان السينمائي عام 1988 نقاشا ساخنا حول المعضلات الأخلاقية والعدالة والقسوة، والتي سرعان ما تطورت لتتجاوز دوائر صناع الأفلام لتشمل ممثلين عن المنظمات غير الحكومية المشاركة في الإصلاحات الجنائية، ونتيجة لكل ذلك تم حذف عقوبة الإعدام من قانون العقوبات في بولندا بعد وقت قصير من العرض الأول للفيلم.
عام 1987 عندما تم تصوير الفيلم كانت عقوبة الإعدام لا تزال سارية في بولندا، وبالتالي تمكن المخرج من التعرف على طريقة الإعدام في بلاده، ونقلها في فيلمه بأمانة، ونرى الاستعدادات الدقيقة لتنفيذ العقوبة، فيصل الجلاد ويتحقق بدقة من حبل المشنقة وعمله بشكل صحيح، ويعمل على تزييت الآلة.
ويعد المشهد الذي يبلغ طوله 5 دقائق والذي يُشنق فيه البطل أحد أقوى المشاهد في تاريخ السينما، وغالبا ما يشار إليه في المناقشات حول عقوبة الإعدام.
وكان هذا الفيلم بالتأكيد احتجاجا على القانون الذي كان ساريا في بولندا في تلك الأوقات، ولكن كذلك هو مجاز عن القتل بشكل عام، وليس ضد عقوبة الإعدام بشكل خاص، وقد قال عنه المخرج في مذكراته “أعتقد أن هذا الفيلم لا يدور في الواقع عن عقوبة الإعدام، إنه يتعلق بالقتل بشكل عام”.
حفرة الأفعى
استند فيلم “حفرة الأفعى” (The Snake Pit) على رواية شبه ذاتية، عن صراع امرأة مع الذهان، والظروف المروعة للمؤسسات النفسية والعقلية في هذه الحقبة، وكان من أول أفلام هوليود الجادة عن المرضى العقليين، والذين تم تصويرهم في أغلب الأحيان إما على شكل مجرمين عنيفين أو مصدر للكوميديا.
وكانت بطلة الفيلم فيرجينيا تخضع في المصحة العقلية للعلاج بالعقاقير، والمعالجة المائية، وعلاج الصدمات الكهربائية، وتعرضت للإيذاء من قبل الممرضات، ووضعت في زنزانة مبطنة، وعوملت بقسوة من الجميع، ما عدا طبيب واحد والذي ساعدها في النهاية على التعافي والعودة إلى منزلها وزوجها المحب.
وبعد وقت قصير من عرض الفيلم في الولايات المتحدة، أصدرت 26 ولاية تشريعات لتوفير علاج أفضل وتحسين الظروف المعيشية للمرضى العقليين.
ومن أجل المصداقية، أمضى المخرج والممثلون وطاقم العمل 3 أشهر في زيارة المؤسسات العقلية وحضور محاضرات نفسية قبل التصوير. حتى إن الممثلة الرئيسية، أوليفيا دي هافيلاند، حضرت جلسات العلاج والمناسبات الاجتماعية في المؤسسات.
روزيتا
“روزيتا” (Rosetta) فيلم فرنسي ألماني إنتاج عام 1999 بطولة إيميلي ديكوين في دور فتاة في الـ17 من عمرها، عالقة في حياة بائسة، تعيش في مقطورة مع والدتها مدمنة الكحول.
تكافح روزيتا الشابة للخروج من هذه الحياة، وتحاول الحصول على وظيفة لمساعدتها في كسب المال، لكنها تعاني لأنه لا يحق لها الحصول على إعانة بطالة، أو إيجاد وظيفة ملائمة.
حاز الفيلم على استحسان كبير عند صدوره، وحصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، ما لفت انتباه الهيئة التشريعية البلجيكية ونتيجة لذلك أعيد النظر في القانون البلجيكي وصدر تشريع جديد يجعل من غير القانوني دفع أجور أقل من الحد الأدنى القانوني للأجور للعمال المراهقين.
هذه الأفلام الأربعة ليست سوى نقطة في بحر الأفلام التي لم تغير فقط القوانين، لكن كذلك الفكر الجمعي للمشاهدين، وأصبحت جزءا من التراث الثقافي العالمي، وساهمت في جعل البشرية أفضل بطريقة أو بأخرى.