“أنا والمحقق والزنزانة”.. موظف أممي يحكي عن عزلة الأدباء وتجربة الاعتقال في سجن إسرائيلي
غزة- “حضر الشرطيان القصيران واضعين بأيديهما قفازات بلاستيكية، وطالبا بنزع ملابسي كافة، فقام أحدهما بتفتيش وتحسس ملابسي بدقة متناهية (…) حتى حذائي تم تفتيشه بتمرير جهاز تفتيش يدوي عليه، ومن ثم انتقلا لجسدي تفحصاه بدقة بالغة الصفاقة، والوحشية، والسفالة غير الآدمية (…) انتهت عملية التفتيش البشعة اللاإنسانية”.
وبدأ التحقيق مع سعيد: أنت جئت لتنفيذ عملية تفجيرية؟ قبل أن يوجه له ضابط ثلاثيني ذو شعر أشقر قصير، وقامة طويلة، 4 تهم: عضوية تنظيم مسلح تخريبي (إرهابي)، المساهمة في الإضرار بأمن دولة إسرائيل، المساهمة في تمويل جهات تخريبية، المساعدة في تهريب الإسمنت الخاص بمشاريع الأمم المتحدة لصالح جهات تخريبية في غزة لإقامة الأنفاق.
لم تكن تلك مشاهد من سيناريو هوليودي، بل قصة حقيقية بطلها سعيد أبو غزة، موظف الأمم المتحدة، الذي وثق تجربته الاعتقالية في سجون الاحتلال في رواية بعنوان: “أنا والمحقق والزنزانة”.
قلب زهرة
في عام 2014، كان سعيد يعمل في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، من دون أن يشفع له عمله في هذه المنظمة الأممية لدى سلطات الاحتلال التي تمنعه أمنيا من الوصول إلى القدس والضفة الغربية منذ عام 1991، حينما كان طالبا، واعتقله الاحتلال -أول مرة- في رام الله قبل ترحيله إلى غزة.
وأخيرا، وبعد طلبات عدة تقدمت بها هذه المنظمة لسلطات الاحتلال، وافقت على منح موظفها تصريحا للمرور عبر معبر بيت حانون (إيرز) للوصول إلى مكتبها في القدس المحتلة.
في هذا المعبر، الذي يعدّه الغزيون “مصيدة للاعتقال”، بدأ المشهد الأول من فصول تجربة سعيد مع الاعتقال. ويقول للجزيرة نت ما قاله لوالدته السبعينية “الحاجة زهرة”، التي ألحت عليه بعد السفر خشية “مكر” إسرائيل، لكنه أجاب “أنا موظف أمم متحدة ومن الصعب اعتقالي، ولو لديهم تحفظات أمنية علي ما تم إصدار تصريح”.
غير أن قلب الحاجة زهرة كان صادقا أكثر من “حصانة” موظف في منظمة تابعة للأمم المتحدة، ووقع في المصيدة، وقيده الاحتلال بأصفاد حديدية في يديه وساقيه، ووضع عصبة سوداء على عينيه، واقتاده إلى سجن عسقلان.
سجن عسقلان
في الطريق من معبر بيت حانون إلى عسقلان داخل قفص في سيارة الاعتقال، ظل سعيد يردد “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت في الظالمين”، ويقول “إنه دعاء سيدنا يونس أجراه الله على لساني، فكان بردا وسلاما على قلبي وروحي”.
وتدور في هذا السجن كثير من الأحداث الدرامية، التي يرصدها سعيد في روايته بتفاصيل تكاد تكون سينمائية، بالنسبة لمن لم يخض تجربة الاعتقال، التي خاضها فرد أو أكثر من كل بيت فلسطيني منذ الاحتلال عام 1967.
ألقي بسعيد في “غرفة بائسة” حسب وصفه، وأجبر على ارتداء بدلة السجن برتقالية اللون، ويقول “إنها البدلة الحقيرة، ومرت بذاكرتي سريعا الأفلام الأميركية ومشاهد معتقلي غوانتانامو الإجرامي.. كم يتشابه العالم المتعالي على الإنسانية بأدواته الظالمة”.
وتتلاحق الأحداث انطلاقا من زنازين التحقيق، حيث أجبر حارس إسرائيلي الكاتب سعيد على خلع ملابسه كافة، “وبدأ تمرير يديه الضخمتين على جسدي العاري تماما، المرتبك من شدة الحياء رغم برودة الجو، بدأ يمقتني بعينيه الباردتين من دون حياء، ولا خشية، ولا إنسانية، لم أقاوم يديه القاسيتين الكبيرتين، بل أغمضت عيني كامرأة عارية أمام مغتصبها المتوحش (..) تألمت نفسيا أمام هذه الوحشية…”.
وبدأ التحقيق: “أنت إرهابي من غزة؟”
– “بل أنا موظف أمم متحدة من غزة”. ضحك الحارس، وقال “غزة كلها إرهابية، ويجب القذف بها في البحر لننعم بالسلام”.
مرت أيام على سعيد داخل الزنزانة، رصد خلالها كثيرا من التحديات، وركز في روايته على “العصافير”، وهو الوصف الذي يطلقه الأسرى على “عملاء” لمخابرات الاحتلال، يتم زرعهم في الزنازين والسجون من أجل “نزع” اعترافات من الأسرى.
بعد جولات عديدة من التحقيق وثبات سعيد على موقفه بأنه مجرد موظف أممي ليست له أي علاقة مع أي تنظيم فلسطيني، تم إخضاعه لجهاز كشف الكذب، في جولات استغرقت ساعات من طرح الأسئلة التي تناولت كل شيء وأي شيء في موضوعات وقضايا مختلفة، وينتهي التحقيق بعد معاناة وألم، وسأل ضابط التحقيق مختص الجهاز: ما النتيجة؟ فأجاب “صادق في كل الأسئلة ولم يكذب”، ولاحقا أُفرج عن سعيد بتدخل مبعوث أممي ليطلق سراحه، ويعود إلى غزة.
عزلة الأدباء
ويقول سعيد إنه منذ اللحظات الأولى التي أدرك فيها أنه سيخوض هذه التجربة قرر أن يرصد تفاصيلها بعينيه، ويطبعها في ذاكرته، ليوثقها في كتاب ليكون في المستقبل القريب “شاهدا” على بشاعة احتلال، لن يكتب له أن يعمر طويلا على هذه الأرض.
ويؤمن الأمين العام المساعد للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين عبد الله تايه على أهمية توثيق التجارب الاعتقالية، وترجمتها إلى لغات عدة، وقال للجزيرة نت “إن تجربة سعيد وغيرها من تجارب المعتقلين الفلسطينيين تصلح لتحويلها إلى أعمال سينمائية”.
وقال الناقد والروائي شفيق التلولي للجزيرة نت إن رواية سعيد تندرج في إطار ما يوصف بـ”أدب السجون”، وهي رواية تلامس تجارب مماثلة لآلاف الفلسطينيين، الذين ذاقوا مرارة سجون الاحتلال.
ويحث التلولي -وهو أسير سابق- وزارة الثقافة والمؤسسات الفلسطينية على حفظ إرث السجون، الذي يمثل جزءأ أصيلا من الذاكرة الفردية والجمعية للفلسطينيين.
ويعاني الكُتاب والأدباء في غزة من قيود الاحتلال المفروضة على تنقلهم للضفة الغربية أو الخارج، مما يعيق -حسب سعيد- عملية التواصل الأدبي وتبادل الأفكار والإنتاج الأدبي والمعارف والخبرات، فضلا عن صعوبة انتقال الكتب من وإلى غزة، مما يشكل عزلة للأدباء.