أهان علماؤُه العَلَم الفرنسي أمام نابليون وأفتوا بخلع الخديوي لتعاونه مع المحتل الإنجليزي.. كفاح الأزهر لأجل الاستقلالية
وبين لحظة النعمان القيرواني ولحظة شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب؛ انقضت أكثر من ألف عام ظل فيها الأزهر في وضعية “شاهدٍ ومشهودٍ”. فقد وُلد الأزهر مع القاهرة، وأبصر النور من بوابة السياسة، وكانت العلاقة مع السلطة في سمْتها العام تتسم بالتوتر والجفاء، بعكس علاقته بمجتمعه الذي ظل لسانا مبينا عن حال فقرائه ووقفا معطاء لأغنيائه.
كان شيخ الأزهر هو شيخ الطوائف والحِرف والمذاهب، ولسانهم في رحلة الصعود إلى “القلعة” مقرّ الحكم لرفع شكاوى الناس من المظالم، وكان طلابه هم موئل الثورات والقلق والحراك، وعلماؤه هم من رمَوْا بعَلَم الدولة الفرنسية في وجه حاكمها القوي الغازي نابليون بونابرت (ت هـ/1821م)، وهم الجلة التي نادت بخلع الخديوي توفيق (ت هـ/1892م)، والعمائم التي غمرت ميدان التحرير فأسقطت حسني مبارك (ت هـ/2020م)، ومنهم جاء أحمد الطيب الذي ما زال يحيّر رأس السلطة القائمة حاليا.
وكما كان الأزهرُ منارة ومنبرا للتشيع عند تأسيسه في عهد الفاطميين؛ فإنه كان -ولا يزال- منارة ومعقلا للتسنّن منذ زوال دولة الفاطميين وحتى اليوم. وفي هذا المقال؛ سنسعى لإبراز جزء من تاريخ الأزهر ومشيخته، وعلاقته بالسياسة والساسة طغاةً وغزاةً، وأسباب محاولات النيل من استقلاليته ومكانته في الذاكرة التراكمية للعامة والعقل الجمعي للأُمّة.
نشأة فاطمية
يُعد الجامع الأزهر من أقدم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، فقد أَسّسه الفاطميون وافتُتحت الصلاة فيه في رمضان سنة 361هـ/972م. وكان الهدف الرئيسي من تأسيس الجامع الأزهر هو أن يكون منبراً رسمياً للدولة الفاطمية، وإماتة الصلة بالمنابر الرسمية التي مثّلت المذهب السني في فترة ما قبل الفاطميين، كجامع عمرو وغيره. ولذا فإنّ الآذان الرسمي في الأزهر بدأ شيعياً، وباتت الأدعية الشيعية تتردد في الأزهر كل صلاة.
ولم تعرف مصر في عهد الفاطميين –وهم من الشيعة الإسماعلية- بناء المدارس العلمية التي تأسست فيما بعد، فكان الأزهر هو الجامع والمدرسة في نفس الوقت. وفي ذلك يقول الجلال السيوطيّ (ت 911هـ/1505م) في كتابه ‘حسن المحاضرة‘: “لما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإنّ الدولة العبيدية كان مذهبها مذهب الرافضة والشيعة، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء”.
كانت أول حلقة في الجامع الأزهر في عهد المعز لدين الله وتحديداً في سنة 365هـ/976م، عندما جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيروانيّ (ت 374هـ/985م) بالجامع الأزهر، وقرأ مختصرا في فقه آل البيت. ثمّ استمرت حلقات بني النعمان في الأزهر، فقد كانوا من علماء المغرب المقربين من الخلافة الفاطمية، وجاؤوا مصر نصيراً وعونا للفاطميين، واستأثروا في ظلها برياسة القضاء زهاء نصف قرن؛ كما يقول محمد عبد الله عنان (ت هـ/1986م) في ‘تاريخ الجامع الأزهر‘.
وممن جلس في الأزهر للتعليم الوزير يعقوب بن كلِّس (ت 380هـ/991م)، الذي بدأ سنة 369هـ/980م شرح “الرسالة الوزيرية”، وهي رسالة في الفقه الشيعي الإسماعيلي. وبدأت الدراسة المنتظمة في الأزهر في العهد الفاطمي على يد ابن كلس الذي يحكي المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- نصب جماعة من الفقهاء للقراءة في الأزهر، وأجرى عليهم الرواتب الثابتة وأرزاقا من ماله.
أمّا عن منابع الرزق ومصادر التمويل فكان الخلفاء الفاطميون هم الذين يجرون الرواتب الثابتة على فقهاء الأزهر، ويتولون عمارته وتجديده. ومن ذلك نصّ الوقف الحاكمي الشهير الذي أوقفه على دار الحكمة والجامع الأزهر، وعدد من الجوامع، وأورد لنا المقريزي نصَّه مسجلا كل شيء من النفقات ومحددا لكل بند ميزانيته الخاصة، حتى البخور والقناديل وأجرة الخياطة. وقد كانت هذه الجرايات مهمة لبقاء الجامع فاعلاً مذهبياً، ومعبراً عن هوية الدولة الفاطمية.
لكن في نفس الوقت وُجدت مدارس سُنّية في مواجهة الأزهر الفاطمي فنافسته في الصراع على الأتباع، ففي الفسطاط كان جامع عمرو قلعة لأهل السنّة، ووُجدت في الإسكندرية مدرستان سنيتان، الأولى: أنشأها سنة 532هـ/1138م وزير الفاطميين السُّني رضوان بن ولَخْشي (ت 533هـ/1139م) لتدريس المذهب المالكي. والثانية أنشأها وزير الفاطميين السُّني العادل بن السلار (ت 548هـ/1153م) لتدريس المذهب الشافعيّ.
وممن درَّس فيها الحافظ أبو طاهر السِّلَفي (ت 576هـ/1180م) الذي يقول عنه الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: “ثم استوطن ثغر الإسكندرية بضعا وستين سنة وإلى أن مات، ينشر العلم ويحصل الكتب التي قل ما اجتمع لعالم مثلها في الدنيا”. ومقتضى كلام الذهبي أن النشاط العلمي السنّي لم ينقطع في ثغر الإسكندرية في عهد الفاطميين، وخاصة في عهدهم الأخير المسمى “عهد الوزراء” لسيطرتهم فيه على الخلفاء الفاطميين.
ركود أيوبي
لمّا سقط الحكم الفاطمي قلّد صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م)، وظيفةَ قاضي القضاة لصدر الدين ابن درباس (ت 613هـ/1216م)، فعمل ظاهرياً بمقتضى مذهبه وهو امتناع إقامة خطبتين في بلدٍ واحد، فمنع الخطبة من الأزهر وجعلها في جامع الحاكم “لكونه أوسع”؛ بتعبير السيوطي في ‘حسن المحاضرة‘.
وبقيت الجمعة معطلة في الأزهر قرابة مئة عام، إلى أن جاء الظاهر بِيبَرس (ت 676هـ/1277م) وتكلم في إعادتها إليه فرفض قاضي القضاة ابن بنت الأعز (ت 665هـ/1267م) ذلك، فعزله -لعدّة أسباب- وولّى قاضياً حنفياً، وأَذِن في إعادتها؛ وفقا لرواية سليمان بن رصد الحنفي الزياتي (ت 1311هـ/1893م) في ‘كنز الجوهر في تاريخ الأزهر‘.
وهنا وقفة بخصوص تعطيل الصلاة في الأزهر؛ ذلك أنَّ الناظر فيما ورائيات المسألة يدرك أنّ القرار الأيوبيّ كان له صلة وثيقة بمحو الهوية الفاطمية، فالأزهر كان منبره منصة للتوجيه السياسي حينئذ، وهو أوّل معالم العهد الفاطميّ حيث يقع في قلب القاهرة بمنطقة قصور الفاطميين، في حين كان الجامع الحاكمي في أطراف القاهرة، فقام صلاح الدين بإبطال الجمعة في الأزهر بالتوازي مع إجراءات صارمة لتصفية الجيوب الفاطمية.
يقول القلقشندي (ت 821هـ/1418م) في ‘صبح الأعشى‘: “واعلم أنّ الدولة الأيوبية لمّا طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة، وغيرت غالب معالمها، وجرت على ما كانت عليه الدولة الأتابكية..”. ومن هذه المعالم الرئيسية مسألة الجمعة، والدروس الشيعية التي كانت تُلقى في كلّ جمعة في عهد الفاطميين!
وصلاح الدين وإن لم يصرح تصريحاً بنواياه تجاه تعطيل الجمعة في الأزهر، إلا أن هناك شواهد كثيرة على ذلك، منها: أنّ الجمعة في العصر الفاطمي لم تكن تُؤدّى في الجامع الأزهر فقط، وفي ذلك يقول السيوطي: “كان الخليفة [الفاطمي] يخطب في جامع عمرو جمعة، وفي جامع ابن طولون جمعة، وفي الجامع الأزهر جمعة”.
لم ينبن على تعطيل الجمعة في الأزهر، إلغاء دوره تماماً كمدرسة علمية جامعة، بل عادت مع الوقت دروس العلم وحلقه تُعقد فيه، وإن فقد موقعه وأهميته كمركز تنطلق منه توجهات الدولة وتوجيهاتها ويعبر عن هويتها. فهذه المرة كان مثله مثل عدد كبير من الجوامع والمدارس التي بناها الأيوبيون، والتي دخلت في منافسة لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة، ومجالس الإملاء الحديثية ونحو ذلك.
وقد اهتمّ الأيوبيون كثيراً ببناء المدارس العلمية في سياق الدفاع عن المذهب السني، وتعزيز حضوره وترسيخه بعد فترة حكم الفاطميين الطويلة. ومّمن درّس فيه في هذا العصر قاضي القضاة والمؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م)، وأقام فيه الشيخ الصوفي عمر ابن الفارض (ت 632هـ/1235م)، وعقد فيه مجالس الذكر.
وحين قدم إلى مصر سنة 589هـ/1193م المؤرخ والطبيب الكبير عبدُ اللطيف البغدادي (ت 629هـ/1232م) جلس على كرسي التدريس في الأزهر سنين عددا، فدرّس علوم المنطق والكلام والبيان. ودرّس فيه أيضا الطبيب اليهودي الشهير موسى بن ميمون (ت 600هـ/1203م) فشرح الفلك والرياضة والطب.
ازدهار مملوكي
لم تكن دروس الأزهر منتظمة مثل المدارس الأخرى خلال العهد الأيوبي، رغم أنه كانت المذاهب الفقهية الأربعة تدرس فيه، بخلاف المدارس الأخرى التي أوقفت على مذهب بعينه، ولم يكن متفرداً بالشهرة العلمية على نحو ما استقرّ عليه الأمر في نهاية عهد المماليك وعهد العثمانيين.
فبناء العديد من المدارس في بدايات العصر الأيوبي؛ جعل الأزهر في منافسة كبيرة مع تلك المدارس التي كانت العطايا والجرايات والأحباس عليها أكثر بكثير من الأزهر، مما ألجأ العلماء والفقهاء إلى تفضيل تلك المدارس.
ربما أدرك الظاهر بيبرس أهمية الأزهر من حيث التاريخ والموقع، فأراد استلاب تلك المكانة لتعزيز شرعيته، ولتدريس المذهب السني أصولا وفروعاً، وكان الأمراء والسلاطين حينئذ يتنافسون في بناء الجوامع وتأسيس المدارس، والإنفاق عليها ورعاية طلابها، وكان هذا جزء لا يتجزأ من شرعيتهم وهيبة سلطانهم.
دخل الأزهر منافسة كبيرة مع المدارس العلمية التي زادت في العصر المملوكي وتنافسَ الأمراء على بنائها وتشييدها. فقد شُيّدت على بابه الغربي مدرستان: المدرسة الطيبرسية سنة 709هـ/1309م، والمدرسة الآقْبُغاوية سنة 740هـ/1339م. وفي طرفه الشرقي شُيدت المدرسة الجوهرية سنة 844هـ/1440م. وهذه المدارس تُعدّ من لُبّ الجامع الأزهر ولا تنفكّ عنه، فمن درَس فيها أو درّس فهو يدْرُس أو يُدرّس في الأزهر.
ويُمكن القول إنّ عصر المماليك هو العصر الذهبيّ للأزهر؛ فالمقريزي يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأن مَنْ “يلازمون الإقامة فيه بلغت عدتهم في هذه الأيام (= سنة 818هـ/1415م) سبعمئة وخمسين رجلا ما بين عَجَمٍ وزَيَالعة (= منتسبون إلى زَيْلَع: مدينة كانت شمالي ما يُعرف اليوم بالصومال)، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواق يُعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه، والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحِلَق الذِّكْر”.
ومن أعلام العلماء الذين درّسوا في الأزهر خلال هذه الحقبة الزاهرة العلامةُ والمؤرخ الكبير عبد الرحمن ابن خلدون (ت 808هـ/م) عندما نزل بالقاهرة سنة 784هـ/1382م، وقد عبّر عن ذلك بقوله: “وانثال عليّ طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلستُ للتدريس بالجامع الأزهر بها”.
وكان تلميذه الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) ممن يُدرّسون ويخطبون في الأزهر، ويقول السيوطيّ عن خطبة ابن حجر في الأزهر: “وفي هذه السنة (= 819هـ/1416م) أمر الملك المؤيد الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء إليه في الخطبة أن يهبطوا من المنبر درجة، ليكون اسم الله ورسوله في مكان أعلى من المكان الذي يذكر فيه السلطان، فصنع ذلك الحافظ ابن حجر بالجامع الأزهر..؛ قال ابن حجر: وكان مقصد السلطان في ذلك جميلاً”.
تقلبات عثمانية
يمكن القول إن الجانب المؤسسي للأزهر تبلور تماما في العصر العثماني، ولم يكن الأزهر وحده في ذلك بل إن المجتمع المصري بدا وكأنه يأخذ وضعه التنظيمي على المستوى الحِرفي والطوائفي والنقابي والمهني، وكان مركز قيادات تلك الطوائف وشيوخها بالقرب من الأزهر لأنه كان مركز ارتكاز القاهرة في تلك الفترة.
وفي نفس الفترة بدأت تتبلور الزعامة السياسية والاجتماعية والدينية لعلماء الأزهر، وقد تُوج ذلك بظهور منصب “شيخ الأزهر”، الذي بات من أهم الرموز الدينية والسياسية في مصر، واللسان الناطق باسم المصريين أمام السلطة، حتى إنه صار هيئة موازنة لمؤسسة “شيخ الإسلام” في الدولة العثمانية.
وقد لاحظ ذلك علي باشا مبارك (ت 1311هـ/1893م) فقال –في ‘الخطط التوقيفية الجديدة لمصر القاهرة‘- ملخِّصا سياق وهدف نشأة المشيخة الأزهرية: “لما كان الأزهر كثير الطلبة والمدرسين والخَدَمة والمرتبات كان من اللازم إقامة من يسوس أمورهم، ويفصل قضاياهم، ويضبط مرتباته ويقيم شعائره؛ فجعل لكل طائفة شيخ وخَدَمة، وللجميع شيخ عموم يرجعون إليه ويباشر حكام الدولة، وهو في الحقيقة ‘شيخ فقهاء القُطر‘ بتمامه بمنزلة ‘شيخ الإسلام‘ في دار المملكة” العثمانية.
ظهرت إذن في هذا العصر مشيخة الأزهر؛ وأول من تولاها هو الشيخ محمد بن عبد الله الخَرَشيُّ (أو الخراشي) المالكي، وذلك -على الرأي المشهور- في أواخر القرن الحادي عشر (بعضهم حددها بسنة 1090هـ/1679م)، وبعض الباحثين يُرجعون نشأتها إلى منتصف القرن العاشر. وعلى كل فإنّ الشيخ الخرشي هو أول شيخ للجامع الأزهر معلوم لنا؛ كما يقول عنان في ‘تاريخ الجامع الأزهر‘.
وقد أتاح تولي الشيخ الخرشي منصب المشيخة أن يستحوذ المالكية على منصب المشيخة، فتولى ستة من مشايخها منصب المشيخة بين عاميْ (1083-1137هـ/1672-1724م)، رغم أنّ المذهب الشافعي كان المذهب الأكبر في البلاد حينئذ، بيد أن تولي المشيخة لم يكن بالضرورة يعتمد على المذهب، لأنّ فقهاء المالكية أنفسهم تصارعوا في فترة ما على المشيخة؛ كما يقول حسام عبد المعطي في ‘شيخ الجامع الأزهر في العصر العثماني‘.
ومع ترسخ المشيخة تضخم دور الأزهر في عهد العثمانيين حتى بات مشايخه قوة اجتماعية ضاربة، يأخذون على أيدي السلطان وأمراء المماليك، وينصرون عليهم عامة الشعب حين تشتكيهم.
كان العثمانيون يحبون الأزهر ويدركون مكانته ومركزيته في العالم الإسلامي. وقد عبر عن ذلك الوالي العثماني على مصر أحمد باشا حين خاطب شيخ الأزهر عند وصوله القاهرة لتسلم منصبه سنة 1161هـ/1748م: “المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم”؛ حسب رواية الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1824م) في ‘عجائب الآثار‘.
وفي عهدهم بدأت المدارس المملوكية في التراجع، وعلا صيت الأزهر وتزايدت إيراداته وأوقافه، لا سيما بعد أن أوقف عليه سلاطين العثمانيين أوقافا كثيرة، خاصة خلال فترة السلطان سليمان القانوني (ت 926هـ/1520م) الذي أوقف جزء من مال الجزية على المشايخ والمجاورين، مما ساهم في جذب الأزهر للعلماء الكبار، وطلاب العلم في داخل مصر وخارجها.
ولذلك سجّل الرحالة العثماني أوليا جلبي (ت 1095هـ/1684م) –في ‘سِياحِتْنَامه مصر‘- عند زيارته مصر سنة 1082هـ/1671م أنه “ليس في مصر (= القاهرة) جامع له ما للأزهر من جماعةٍ، إذ هو واقع في عين فعل (= وسط) مصر، فهو مزدحم بالناس ليلا ونهاراً، فلا تجد فيه موضعاً للسجدة، يجتمع فيه اثنا عشر ألف طالب ليل نهار، وتطن أصواتهم كأصوات النحل مما يُدهش الإنسان، وقد انهمكوا في مباحثات علمية”.
الأزهر ونابليون
منذ دخول الفرنسيين مصر سنة 1212هـ/1798م بدأ التفكير الجادّ في كيفية سحق العلماء وتحطيم مكانتهم لدى الناس، بل إنّ تقارير رسمية قُدّمت إلى قادة الحملة الفرنسية في هذا الخصوص.
وجاءت في أحد التقارير -حسبما يقوله هنري لورنس في ‘الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر‘- توصيات بخصوص كيفية اجتذاب العلماء في بداية الأمر، إلى أن يتمّ “تنوير أذهان الشعب كي ينكشف العلماء، وعندئذ لن تكون لهم مكانة غير المكانة التي يستحقونها”.
بل إن نابليون بونابرت يقول -في مذكراته وفق ما يرويه جمال الدين الشيال (ت 1387هـ/1967م) في ‘تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية‘- إنه لكي يسوس “هؤلاء الناس (= المصريين) لا بد من وسطاء يسعون بيننا وبينهم، وكان لا بد أن نقيم عليهم رؤساء وإلا أقاموا رؤساءهم بأنفسهم.
وقد فضلتُ العلماء وفقهاء الشريعة لأنهم: أولًا كانوا كذلك (أي رؤساء بطبيعتهم)؛ وثانيًا لأنهم كانوا مفسري القرآن، ومعروف أن أكبر العقبات تنشأ عن أفكار دينية؛ وثالثًا لأن للعلماء خُلُقًا لينًا، ولأنهم -دون نزاع- أكثر أهل البلاد فضيلة، لا يعرفون كيف يركبون حصانًا، ولا قـِبَل لهم بأي عمل حربي، وقد أفدت منهم كثيرًا، واتخذت منهم سبيلًا للتفاهم مع الشعب، وألَّفت منهم ‘الديوان‘ (= مجلس الحكم)”.
ولذا عندما دخل نابليون بونابرت إلى مصر تودد إلى علماء الأزهر ليجذبهم إليه فمنحهم كثيراً من الامتيازات والإعفاءات المالية، بل إنه “أنعم” سنة 1213هـ/1799م على شيخ الأزهر الشرقاوي بوسام بألوان عَلَم الثورة الفرنسية لكنه رماه بين يديه باستهانة أغضبت المحتل الغازي.
وفي ذلك يقول الجبرتي: “طلب ساري عسكر (= قائد الجيوش) بونابارته المشايخ، فلما استقروا عنده نهض بونابارته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات (= أوسمة) ملونة بثلاثة ألوان، كل طيلسان ثلاثة عروض: أبيض وأحمر وكحلي، فوضع منها واحدا على كتف الشيخ الشرقاوي فرمى به إلى الأرض واستعفى، وتغير مزاجه ونزلوا في البلاد مثل الحكام يحبسون ويضربون ويشددون في الطلب وانتقع لونه واحتد طبعه”.
وفي هذا السياق؛ اهتمّ الغزاة الفرنسيون بالأعياد الدينية والموالد التي يُعرف اهتمام المصريين بها لا سيما في ذلك الوقت. وفي ذلك يقول الجبرتي: “سأل ساري عسكر عن المولد النبوي الشريف ولماذا لم يعملوه كعادتهم؛ فاعتذر الشيخ البكريّ بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل وقال: لا بد من ذلك، وأعطى له ثلثمئة ريال فرنساوي معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا [في] ميادينهم، وضربوا طبولهم ودباديبهم”.
لكن ومع ذلك فلا يمكن الجزم بنجاح سياسة نابليون بونابرت، إذ إن مشايخ الأزهر قادوا ثورة الناس ضد حكم الفرنسيين في أكتوبر/تشرين الأول 1798م (1212هـ)، بعد ثلاثة أشهر فقط من احتلالهم مصر. وقدر رجال المخابرات العسكرية الفرنسية أنّ الجامع الأزهر هو مركز الثورة، وأنّه يضمّ خمسة عشر ألف ثائر يرابطون داخله وحوله.
وقد استطاع علماء الأزهر أن يحشدوا الحرافيش والعامة والتجار فسلّحوهم بما تيسر من السلاح والعصي، وقتلوا عددا كبيراً من جنود الفرنسيين، وقُتل الحاكم العسكريّ الفرنسيّ لمنطقة القاهرة، وهاجمَ الثوار دار قائد سلاح المهندسين، وقُتل عددٌ من قادة الحملة العسكريين؛ وفقا لعنان.
مواجهة الخديوي
ولمّا كادت الأمور تخرج عن السيطرة من يد الفرنسيس، أمر بونابرت بقصف الجامع الأزهر بالمدفعية، فتمّ قصفه قصفا متواصلا ومركزاً. وبعبارة الجبرتي؛ فـ”ـإنّ الفرنسييين ضربوا بالمدافع والبنبات (= جمع بنبة وهي القنبلة) على البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وجرروا عليه المدافع والقنبر (= القنابر وهي القنابل)”.
واستطاع الفرنسيون أن يكسروا الثورة، فدخلوا الجامع الأزهر مشاة وركبانا وربطوا خيولهم في أعمدته وقبلته، ونهبوا كل ما وقع تحت أيديهم من متاع المجاورين والمشايخ. ويحكي الجبرتي فظائع في هذا الجانب ارتكبها الفرنسيون داخل الجامع في مقدمتها إعدامهم خمسة من علماء الأزهر.
ورغم أن الفرنسيين استولوا على الأزهر ورابطوا فيه، وأسسوا فيه قوة عسكرية دائمة، إلا أنّ بعض الوثائق الرسمية –حسب عنان- تفيد بأنّ نابليون أصدر أمرا يوم الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 1798م بهدم الجامع الأزهر، ونسْف بعض أعمدته الداخلية إن أمكن؛ حسب عنان.
ورغم الإجراءات الوحشية التي انتهجها الفرنسيون تجاه المصريين وعلماء الأزهر بسبب ثورة القاهرة الأولى والتي كان مركزها الأزهر؛ فإن المصريين ثاروا عليهم مجددا -بقيادة الأزهر- في مارس/آذار 1800م.
ولم يُنس للشيخ أبو الأنوار السادات (ت 1228هـ/1813م) دوره في قيادة ثورة الأزهر الأولى سنة 1212هـ/1798م، ودوره أيضا في الثورة الثانية فتم اعتقاله وتعذيبه رغم كبر سنّه! ثمّ اعتُقل شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي (ت 1227هـ/1812م) وعدد من المشايخ الآخرين. إلاّ أن هذه الفجيعة التي أصيب بها الأزهر في طلابه ومشايخه، عززت شرعيته ومكانته عند الجماهير.
وبعد عقود؛ قاد الأزهريون أيضا ثورة أحمد عرابيّ (ت 1298هـ/1881م) والتي انتهت بالاحتلال الإنكليزي لمصر بعد إخفاقها. فشيخ الأزهر محمد الإنبابي الشافعي (ت 1313هـ/1895م) وعدد من العلماء أصدروا فتوى بأنّ “الخديوي [توفيق] مرق من الدين مروق السهم من الرمية، لخيانته في دينه ووطنه وانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده”؛ كما جاء في كتاب ‘هيئة كبار العلماء 1911-1961‘ للباحثة زوات عرفان المغربي.
وأفتى الشيخ حسن العدوي المالكي (ت 1303هـ/1885م) بعدم طاعة الخديوي فقال: “إنه بأمر الله ورسوله لن تطاع أوامر الخديوي، وأن الوقت قد حان لنشوب حرب مقدسة”. وبعد هزيمة الثورة العُرابية نُفي الشيخ محمد عبده، وعُزل الشيخ الإنبابي، وألغِيت امتيازات كل الأزهريين الذين شاركوا في الثورة أو تعاطفوا مع الخديوي.
وفي ثورة سنة 1337هـ/1919م، شارك المجاورون في الأزهر في الثورة ابتداءً، وخرجوا في مظاهرات حاشدة، والتحموا بمظاهرات العمال وأصحاب النقابات، ثمّ لحقهم الأزهر الرسميّ بعد خمسة عشر يوما من انطلاق شرارة الثورة.
فبعد أن طالب بالهدوء في بداية الأمر؛ انتفض بشدة بعد مهاجمة الإنجليز للأزهر في 11 ديسمبر/كانون الأول 1919م (1337هـ)، وأصدرت هيئة كبار العلماء بالأزهر بيانا يدين الإنكليز ويطالب بالاستقلال؛ حسب مليكة الزغل في ‘حراس الإسلام‘.
رصيد المكانة
والحقيقةُ أنّ مكانة الأزهر لم تأتِ من فراغ، بل تحول الأزهر إلى فاعل من الفواعل الرئيسية في الحياة السياسية، والمشهد الديني والثقافي في العالم الإسلامي. ويُفهم في هذا الصدد وجود أروقة أزهرية داخل الجامع الأزهر، للهنود، والمغاربة، والعراقيين، والشوام، وغيرها، بالإضافة إلى أروقة لأقاليم مصرية كأروقة: الشراقوة، والصعايدة، ونحو ذلك.
فالأزهر إذن لم يكن محلياً بل كان ملكا للأمة كلّها. ولم يكن ثمة مانع لأن يتبوأ شيخٌ غير مصريّ مبرّزٌ في العلم والمذهب رئاسة المذهب، أو حتى مشيخة الأزهر.
لكنْ هناك سببان رئيسيان ترتد الزعامة الأزهرية إليهما، هما: الأول: أن الأزهر كان ملجأ المستضعفين من العامة وأهل الحاجات، فكانوا يلوذون به ويحتمون بمشايخه ضد تعسف الأمراء والسلاطين. والثاني: موقف الأزهر من الاحتلال ودوره في قيادة الثورات. وربما يدخل في هذا الجانب أيضا تلك الاستقلالية التي كان يتميز بها رجال الأزهر قبل استلاب مواردهم ومكانتهم.
ومن أمثلة حماية الأزهر للمستضعفين ولجوء الناس إليه ما وقع من علماء الأزهر عندما فرض الوالي العثماني خورشيد باشا (ت 1207هـ/1822م) ضرائب كبيرة على أهل القاهرة، فأرهقهم بالظلم والعسف واشتد ضجرهم، ونهب العسكرُ البيوتَ وسرقوا الناس في الطرقات؛ فلاذ الناس حينها بعلماء الأزهر واجتمع العامة والأطفال والتجار بالجامع الأزهر وتحلقوا بمقصورته، وأغلقت الحوانيت وتعطلت الأرزاق.
واجتمع علماء الأزهر وعقدوا مجلساً شرعياً وكتبوا وثيقة مطالب قدموها إلى خورشيد باشا، وبلغ عددها واحداً وعشرين مطلباً أهمها: منع مرابطة العسكر في القاهرة، ومنع فرض أي ضريبة على سكانها دون موافقة علماء الأزهر؛ كما يروي عنان.
ولمّا رفض خورشيد باشا مطالب علماء الأزهر طالب علماء الأزهر بعزله، والتفّ الناس حول علماء الأزهر، وذهبوا إلى القاضي ثم إلى بيت قائد القوات العثمانية في مصر حينها محمد عليّ باشا (ت 1265هـ/1849م) يهتفون بخلع خورشيد.
وهنا مفارقة مهمة ينبغي التوقف عندها كثيراً لنقف على رأي الأزهريين عندئذ في السلطة والحُكْم؛ فمن مقولات خورشيد عندما رفض عزل العلماء والناس له: “إني مُوَلَّى من طرف السلطان، فلا أُعْزَل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر السلطنة”؛ طبقا لرواية الجبرتي.
لكن علماء الأزهر أصروا على عزل خورشيد، وقرروا تنصيب محمد عليّ واليا مؤقتا على مصر، إلى أن يأتي الفرمان السلطاني بتثبيته أو تعيين شخص آخر. وحسب رواية الجبرتي؛ فقد قال لهم محمد علي: “أنا لا أصلح لذلك، ولست من الوزراء، ولا من الأمراء، ولا من أكابر الدولة، فقالوا جميعاً: قد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة، والعِبرة رضا أهل البلاد”!!
ونلحظُ هنا أن العلماء يستعملون مصطلحات تحيل على حضور مفاهيم الشرعية الشعبية للسلطة في أذهانهم وصياغة مواقفهم، مثل: “رأي الجميع والكافة” و”رضا أهل البلاد”!!
وحتى القاضي العثماني اضطر لاستعمال تلك المصطلحات؛ فالجبرتي يقول إنه عندما أرسل خورشيد باشا إلى القاضي يطلب الدعم ورواتب الجنود، قال له بعد أن رفض طلبه: “حضر يوم تاريخه نحو الأربعين ألف نفس بالمحكمة، وطالبوا نزولكم أو محاربتكم، فلا يمكننا دفع قيام هذا الجمهور، وهذا آخر المراسلات بيننا وبينكم، والسلام”.
ومن خلال هذه الوقائع نلحظ أن علماء الأزهر يرون أن شرعية السلطة السياسية لا تتمّ إلا برضا الجماهير؛ ونرى كذلك كيف كانوا سندا ودعماً لمطالب العامة والجماهير، حتى في الأمور العظيمة التي يتحدد عليها مصير الدولة نفسها.
وقد أورد لنا الجبرتي حوارا عاصفا بشأن حقّ الناس في عزل الحاكم الظالم، دار بين علماء الأزهر وأحد القيادات الموالية لخورشيد باشا وهو عمر بك الألباني، فقال عمر بك: “كيف تعزلون من ولاّه السلطان عليكم؟ وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم).
أمّا عن استقلال المدرسة الأزهرية؛ فقد أزعج الأزهرُ أمراء المماليك وولاة العثمانيين، ومن تعاقبوا على حكم مصر حتى محمد علي وأحفاده. فرجال الأزهر كانوا يدافعون عن العامة ومطالبهم، وكان ذلك لأسباب من أبرزها غناهم وكفايتهم بالأوقاف والموارد الخاصة بهم.
وكانت إيرادات الأزهر تأتي من ثلاث جهات: الإيرادات الحكومية، وإيرادات الأوقاف الخاصة بالأزهر، وإيرادات التبرعات. وكان الغالب على الأمراء الخوف من الاقتراب من الأوقاف عموماً، ومن الأوقاف الأزهرية على وجه الخصوص، لأنها مقدسة ومحمية بالشريعة.
ويحدثنا التاريخ أن بعض الأمراء حاولوا التسلط على الأوقاف واستلابها، بيد أن العلماء وقفوا له بالمرصاد؛ فحين أراد السلطان برقوق (ت 801هـ/1398م) السيطرة على أموال الواقفين تصدى له شيخ الإسلام سراج الدين البُلْقَيْني (ت 805هـ/1402م) وقال له: “أما أوقاف الجوامع والمدارس وجميع ما للعلماء والطلبة فلا سبيل إليها، ولا يحلّ لأحد نقضه؛ لأنّ لهم في الخمس أكثر من ذلك”!
وعندما قال بدر الدين بن أبي البقاء السبكي (ت 803هـ/1400م) إن “للسلطان الأرض كلها يفعل فيها ما يشاء”؛ ردّ عليه سراج الدين البلقيني: “بل السلطان كآحاد الناس لا يملك من الأرض شيئاً إلا كما يملكه غيره”؛ وفقا لما يحكيه ابن حجر في ‘إنباء الغُمْر‘.
وعندما جاء محمد علي واليا على مصر بدعم وتأييد وضغوط من علماء الأزهر، أدرك خطر الجماعة الأزهرية عليه وعلى مستقبل حكومته، إن تركهم على ما هم عليه من قوة واستقلالية. ومن هنا حاول الهيمنة على الأزهر عبر اتجاهين: الأول: تأميم أوقاف الأزهر، والثاني: التدخل المباشر في تعيين شيوخه خشية أن يأتي شيخٌ للأزهر قويّ وشعبيّ يُفقده سلطته التي وصل إليها بمثل هؤلاء المشايخ الأقوياء.
فبالنسبة للسطو على أوقاف الأزهر؛ يقول الشيخ محمد عبده (ت 1323هـ/1905م) -في مذكراته- إن محمد علي “أخذ ما كان للمساجد من الرزق… وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر [ما] لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يُساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة”.
وكان غرضُ محمد علي من وراء ذلك التصرف أن تكون موارد العلماءُ المالية عن طريقه هو حتى يضمن ولاءهم له وهيمنته عليهم، ولأنه رأى أن شرعيته ما عادت ترتكز على سلطة العلماء والأزهر بل على القوة والعسكر.
تدخل سافر
أمّا بالنسبة للخطّ الآخر وهو التدخل المباشر في تعيين شيخ الأزهر؛ فلم يكتف محمد علي باشا فقط بإضعاف الجماعة العلمائية بل أراد تحويل الأزهر إلى أداة لتعزيز شرعيته. وكان المعروف والمستقر أنّ علماء الأزهر يختارون شيخهم، وقد اختاروا الشيخ محمد المهدي العباسي الحنفي (ت 1315هـ/1897م) ليكون شيخا للـأزهر، لكن محمد عليّ رفضَ التصديق على اختيار العلماء، واختار الشيخ محمد الشنواني بدلا منه.
وتوازى ذلك مع استمالته لبعض المشايخ بغية شقّ صفوفهم؛ فلحظة محمد عليّ هي لحظة مفصلية في تاريخ الأزهر؛ إذ في عهده حدث التحول الكبير في مكانة العالمِ الأزهريّ مجتمعياً.
فقد غضّ المشايخ الذين تمّت استمالتهم الطرف عن الضرائب الباهظة التي فرضها محمد علي على الفلاحين والمصريين مقابل بعض الامتيازات الخاصة بهم. وقد رصد الجبرتي هذا التحول الخطير بقوله: “ولما انقضى هذا الأمر واطمأنّ الباشا واستقرّ خاطره وخلص له الإقليم المصري، وثغر الإسكندرية، فأول ما بدأ به أنه أبطل مسموح المشايخ والفقهاء معا في البلاد التي التزموا بها”.
وهذا يذكرنا بما كان يحدث أحيانا في تاريخ المؤسسة الأزهرية من ضعف وانقسام يسهّل على السلطة إخضاعها. ومن أمثلة ذلك أنه عندما اختلف الأزهريون حول منصب شيخ الأزهر بعد وفاة الشيخ النشرتي سنة 1120هـ/1708م؛ وصل الخلاف لدرجة الاقتتال بالأسلحة النارية داخل الجامع الأزهر، بسبب إصرار الشيخ النفراوي (ت 1126هـ/1714م) على الجلوس على كرسي الشيخ النشرتي، قبل إتمام عملية التنصيب والاختيار رسمياً، فمات ما يقرب من خمسة عشر قتيلا من طلبة العلم في هذه الفتنة.
ونجد عند الجبرتي كثيرا من تلك الفتن المتعلقة بمحاولة الوصول إلى كرسي المشيخة، وما ذلك إلا لحظوظ النفس والمذهب لا للعلم والإصلاح، وإلا لما وصل الأمر للاقتتال وسقوط القتلى في صحن الأزهر.
وهذا يؤول بنا إلى سؤال الإصلاح؛ فبمجيء الشيخ محمد عبده وبروز صيته كعالمٍ من علماء الأزهر الكبار فطن إلى مشكلة الأزهر الحقيقية، فوجّه جهوده نحو المركز بعمله على استقلال المؤسسة الدينية، وحاول تخليق مسافات بينها وبين قصر الخديوي، لكن التقليديين من رجال الأزهر لم يسعفوه في مشروعه، ووقفوا بجانب القصر ضدّ طموحاته خوفا على نفوذهم وتحالفاتهم.
وقد صرّح تلميذه السيد محمد رشيد رضا (ت 1354هـ/1935م) -في ‘المنار والأزهر‘- بما سماه “إصلاح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قدّس روحه، من وجهة إعلائه لشأن الأزهر واستقلال أهله به، وكفّ يد كل من الحكومة والأمير عن الاستبداد فيه”. ويقول عن أمنية عبده في إصلاح الأزهر: “كان الأساس الذي وضعه الإمام محمد عبده لإدارة الأزهر أن يكون علماؤه مستقلين فيه بنظام وقانون لا سلطان للحكومة ولا للأمير على العبث به”.
صرامة تعليمية
لا يمكن ختم الحديث عن الأزهر دون تقديم لمحة عن نظامه التعليمي والمناهج التي كانت تُدرس فيه، والتي تبلورت تقريباً في العهد المملوكي ولا يزال معظمها يُدرّس حتى اليوم، من علوم صرف وبلاغة ونحوٍ وفقه وأصول. ولم تخل الدراسة أيضا من بعض العلوم العقلية حينئذ كالرياضيات ونحوها، لكن المشتغلين بها “نزرٌ من الطلبة”؛ حسب مصطفى بيرم التونسي (كان حيا سنة 1321هـ/1903م) في ‘تاريخ مدرسة الأزهر‘. ثم تضاءلت تلك العلوم العقلية من الأزهر حتى توارت كليا.
ويقول الجبرتي إن الوزير أحمد باشا كور الذي عُيّن واليا عثمانيا على مصر في سنة 1161هـ/1748م “كان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، فلما استقرّ بقلعة مصر قابل صدور العلماء، منهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخُ الأزهر، فتكلم معهم في الرياضيات فقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت”!!
ثم أوضح الشبراوي للوالي أن “غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث كعلم الحساب”، وأن العلماء المعتنين بالعلوم الرياضية “موجودون في بيوتهم يُسعى إليهم”.
وقد ذكر له من هؤلاء العلماء الشيخَ الأزهري حسن الجبرتي (ت 1188هـ/1774م) الذي يقول عنه ابنه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي إنه “كان فريدا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان…، وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرؤوا عليه علم الهندسة وذلك سنة تسع وخمسين (= 1159هـ/ 1746م) وأهدوا له من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الاثقال واستنباط المياه وغير ذلك”. ويقول علي مبارك فيما يرويه عنه بيرم التونسي: “وينهَى أهلُ الأزهر من يقرأ كتب الفلسفة ويشنّون عليه الغارة، وربما نسبوه للكفر”.
لكن لم يمنع هجران تلك العلوم –وخاصة الطبيعية منها- أن يبرز بعض الأزهريين في شيء منها في فترات مختلفة؛ فشيخ الأزهر أحمد الدمنهوري (ت 1164هـ/1778م) نبغ في العلوم الشرعية والعقلية والطبية، حتى وصفه بعض الأزهريين بأنّه اهتمّ بالعلوم الغريبة: “وكانت له حافظةٌ ومعرفةٌ في فنونٍ غريبة”؛ حسب الزياتي في ‘كنز الجوهر‘. ومن مؤلفاته في العلوم الحديثة: “عين الحياة في استنباط المياه” و”القول الصريح في علم التشريح”. وهابته الأمراء لوفور علمه ورجاحة عقله، ولكونه أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر.
وكذلك الشيخ حسن العطار (ت 1250هـ/1834م) الذي أزعجه إهمال الأزهريين للعلوم العقلية والعلوم الحديثة، فقال في حاشيته على ‘شرح جمع الجوامع‘: “إنّ مسألة الخلاء ومسألة إثبات الميل في الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقهما يظهر للفطن أسرار غريبة، وعليها ينبني كثير من مسائل جر الأثقال وعلم الحيل، واختراع الآلات العجيبة، وقد عُرّبت كتب في زماننا من كتب الفرنجة وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطلعنا على بعضها، وفي تلك الكتب تكلم القوم في الصناعات الحربية والآلات النارية، ومهدوا فيها قواعد وأصولاً..”، حتى قال: “وهذه نفثة مصدور، ولله عاقبة الأمور، لعمري لقد تساوى الفطن والأبله…، وسُدّ طريق النظر على الناظر البحّاث؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله”.
أما عن طريقة تصدّر الشيخ الأزهري علميا؛ فإنه كان يجلس أمام العمود في الجامع الأزهر والطلبة حوله، فإذا كثروا جلس على كرسيّ، وكلما كبرت حلقة الشيخ كلما ذاع صيته، واقترب حظه من التصدر في مشيخة المذهب أو الأزهر.
وقد كان نظام التعليم قبل الشيخ المهدي العباسي في الأزهر بدون امتحانات، حتى سنّ الشيخ العباسي الامتحانات للأساتذة والطلاب. فتمّ تعيين ستة من أكابر العلماء من كل مذهب، وجُعل الامتحان في أحد عشر علماً من العلوم المعروفة في الأزهر وقتئذ: الحديث والتفسير والأصول والمنطق، والتوحيد والفقه والنحو الصرف، والمعاني والبيان والبديع.
وإذا أراد أحدٌ التصدر للتدريس في الأزهر فعليه أن يحضر هذه الفنون لكبار العلماء، ويقدّم عريضة لشيخ الجامع يطلب فيها أنه يريد الدخول في حومة العلماء المدرسين، فيُمتحن امتحانا شديداً عسيراً يسمى “امتحان العالمية”، حتى إذا اجتازه قُبل وتصدّر.
ومن غرائب هذا الامتحان أنّ الشيخ محمد عبده امتُحن على عهد المهدي العباسي سنة 1294هـ/1877م، وبتعبير أحد العلماء فإنّ اختبار محمد عبده لم يكن امتحاناً بل كان مناظرة، حتى حلف بعض المشايخ بالطلاق ألا يجتازه كي لا يأخذ درجة التدريس، ولكن الشيخ العباسي أعطاه الدرجة الأولى، فقام أحد المشايخ وأعطاه الدرجة الثانية وختمَ وأخذ من مشايخ اللجنة الأختام، فوافقهم الشيخ العباسي كرهاً على ذلك!!