“مع نغمات الحجاز وأرق الوداع، غادرتُ المضارب والخيام، ألوب في الصحراء، أستمتع بتلالها، أسمع صوت صمتها، اقترب من شجيرات نخيل تفتح أكفّها ما استطاعت، وتستطيل تضرعا إلى السماء واستغاثة لقطرة حب أو ماء”.
هكذا كان يرتحل فرح (الراوي) كل يوم من عالم السجن الموحش والكئيب إلى عوالم الدنيا المنفتحة والمبهجة فوق أثير نغمات عوده الشجية بعد أن ينطفئ النهار ويهبط الليل بظلماته وخيباته على المعتقلين في سجن صيدنايا السوري.
مشاهد ارتحال وسفر مجازي تتكرر في رواية “أوتار وراء القضبان” للكاتب والموسيقي السوري أسعد شلاش؛ فيصوّر خلالها مقاومة مجموعة من المعتقلين بالموسيقى ضروب التعسف التي تعرضوا لها خلال فترة اعتقالهم في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم.
وتمتد الرواية -الصادرة حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- على 215 صفحة من القطع المتوسط، يسرد فيها الكاتب حكاية فرح الموسيقي الشاب الذي اعتقلته قوات الأمن السوري عام 1987 من مدينته حلب بتهمة انتسابه لحزب العمل الشيوعي.
وعبر سبعة فصول يسلط الكاتب الضوء على زوايا معتمة وأخرى مضيئة (بفعل المقاومة) من تجربة الاعتقال بسرد رشيق يمزج بين إكراهات الواقع وشعرية المتخيَّل فيقدِّم للقارئ رؤية مغايرة لأدب السجون.
عود ومنجيرة في زنزانة موحشة
ينفتح السرد في الرواية على شخصية فرح الموسيقي مُرهف الإحساس ونافذ البصيرة، وهو يلتقط جماليات لوحة الطبيعة في شهر سبتمبر/أيلول التي لا يشوّهها سوى “براز الذبابة”؛ تعبير أطلقه فرح ليصف به الوجود الأمني الدائم في أحياء مدينته حلب.
لم يكن يتخيّل فرح أن “براز الذبابة سيغطي كامل اللوحة” بعد فروغه من حفل موسيقي في منزل أحد الأصدقاء، حيث ألقى عناصر من فرع الأمن العسكري القبض عليه بتهمة غنائه للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.
وما هي سوى أيام مضت، حتى نُقل فرح من فرع الأمن العسكري في حلب إلى فرع فلسطين في دمشق لاستكمال التحقيقات، وهناك فوجئ الموسيقي الشاب بوجود العشرات من المعتقلين بتهمة انتسابهم إلى حزب العمل الشيوعي.
وفي زنزانة ضيقة، بالكاد تتسع لبعض الأشخاص، أمضى فرح ورفاقه أشهرا ينامون ويقعدون في أماكنهم، ويتزاحمون أمام حمام واحد، ويأكلون من قصعات البرغل والفاصولياء “التي تشبه تلك التي ترمى للدجاج”، ولا يسمح لهم بالخروج إلى الشمس أو استقبال الزيارات، علاوة على “حفلات التعذيب” التي كانوا يتعرضون لها يوميا، تعذيب يستمر حتى يفقد المُعتَقل وعيه.
غير أن تلك العذابات والمثبطات لم تمنع فرح والشاويش (رئيس المهجع) من ابتكار آلتهم الموسيقية الخاصة بعد أسابيع من التحايل والمناقشات مع السجانين لتجميع القطع المطلوبة لصناعة الآلة.
وهكذا ولد أول عود أو “ما يُشبه العود” -كما وصفه أحد المعتقلين- في تلك الزنزانة الموحشة؛ حيث جُمّعِتْ قطعه من صناديق الفاكهة الخشبية وعلبة معدنية وصلت لأحد المساجين وخيوط بلاستيكية صُنِّعَت يدويا.
“من اليوم فصاعدا سيسهر معي عودي الجديد. تعالوا يا أساتذة الموسيقى ويا طلابها، تعالوا وشاهدوا عودي الصغير ذا الأوتار المفردة”، بهذه العبارة حدّث فرح نفسه محتفيا بولادة عوده الجديد.
وكانت الجلسات الموسيقية خير أنيس لفرح ورفاقه فيما تبقى من أيام مكوثهم في فرع فلسطين قبل انتقالهم إلى سجن صيدنايا، لا سيما بعد أن انضمت للعود آلة جديدة وهي منجيرة سامر (آلة تشبه الناي) التي صُنعت أيضا يدويا في تلك الظروف الاستثنائية.
الموسيقى كسلاح مقاومة
في سجن صيدنايا تعرف فرح إلى فريد -معتقل سياسي وعازف عود متدرب- وسرعان ما ربطت المعتقلان علاقة صداقة قوّاها حبهما للعود وشغفهما بالموسيقى، كانت جميع الأعواد في سجن صيدنايا مصنوعة من عجينة أطباق البيض والجرائد التي يتم نقعها بالماء ثم تشكيلها على قالب العود وتجفيفها لتصبح جاهزة لربط الأوتار والعزف.
وكان أول ما قرره فرح -بعد أن تخلص من مرض الجرب الذي أصيب به في فرع فلسطين- هو صناعة عود يشبه أعواد المعتقلين في أجنحة السجن، وكان له ما أراد بمساعدة فريد، غير أن رائحة عجينة الأطباق والجرائد وتكاثف الذباب عليها جعلت فرح يتراجع عن قراره متخليا عن عود “أبو ذباب” كما سماه، ليتخذ قرارا بعد ذلك بصناعة عود من الخشب الخالص.
وبعد أيام من تجميع قطع الخشب -التي تصل إلى السجن على شكل صناديق أطعمة- وبمساعدة من فريد تمكن فرح من صناعة أول عود من الخشب الخالص في تاريخ السجن، مستعينا ببعض أدوات النجارة البسيطة كالمنشار والغراء.
“تقدمت وعودي نحوه، بقوة اختطفه من يدي، رفعه للأعلى ما استطاع فارتفعت معه، بقوة هوى بنا على الأرض فتناثرت أجزاؤنا، التصق قلبي بالقطعة التي ما زالت الأوتار عالقة بها، بحنينها التفَّت الأوتار حول قلبي ومنعته من الانفطار”.
هكذا حطم أحد السجانين عود فرح بدعوى إثارته الضجيج ليلا؛ فحرم بذلك المهجع من أول صوت عذب لأول عود خشبي في سجن صيدنايا.
عوقب فرح بشهر من الحبس الانفرادي في زنزانة في القبو لإثارته الضجيج، لكنه استغل وجود قصعة الطعام ليرسم بزاويتها الحادة على الحائط 5 أسطر ومفتاحا موسيقيا في بدايتها ويبدأ بتدوين نوتة للتدريب.
وعلى هذا النحو كان فرح يقاوم بالموسيقى تعسف السجانين حتى في أحلك ظروف اعتقاله، فمن خلال الموسيقى كان يحافظ على توازنه النفسي ويمتص الصدمات الناجمة عن مشكلات داخل السجن أو حوادث خارجه كوفاة أبيه وأخيه.
وبعد خروجه من الزنزانة الانفرادية، عاد فرح لجمع قطع الخشب وبمساعدة رفاقه صنع عودا جديدا من الخشب وجعله قابلا للفك تحسبا لأي طارئ؛ كأن يدخل الضباط فجأة فيكون مستعدا لتحويله إلى صندوق معلق في الحائط لا يثير شك أحد.
وتطورت لاحقا علاقة المعتقلين بالموسيقى لتصبح سبيل مقاومة جماعية؛ فيقيم العازفون الحفلات ويستضيفون نزلاء المهاجع المختلفة، ومن خلال الغناء والعزف يواسون أنفسهم ويطلقون آهاتهم ويعالجون ما أورثهم الاعتقال من آلام وأعطاب نفسية.
وعن هذه المقاومة من خلال الموسيقى وعن تلك المغايرة في تناول تجربة الاعتقال في روايته “أوتار وراء القضبان”، يقول أسعد شلاش للجزيرة نت “إنه صراع القوة الخشنة المتجبرة بكل ما تمتلكه من أدوات وقوانين داعمة لجبروتها وطغيانها مع القوة الناعمة بما تمتلكه من أدوات معرفية وإنسانية، ولعجز الأخيرة عن الوقوف بشكل مباشر أمام جبروت الطغيان والتصدي له، لم يبق أمامها سوى الارتداد إلى ذاتها واستنهاض قواها المعرفية الكامنة للمحافظة على توازناتها النفسانية والإنسانية”.
الوداع وخطاب المعرفة والجمال
يبدو أن الكاتب قد أدرك منذ البداية أنه إذا ما أراد أن يقدم رؤية مغايرة لأدب السجون، تكون فيها المقاومة هي العلامة البارزة في السرد لا القهر والهوان كما هو سائد في هذا النوع الأدبي، فسيتحتم عليه أن يمارس تلك المغايرة على مختلف مستويات التجلي في الرواية سواء الشكلية منها أو الخطابية.
وهو ما برع فيه أسعد شلاش عندما أوكل لشخصيته الرئيسية (فرح) مهمة السرد مزيلا بذلك كل الحواجز بين أفكارها وهواجسها ومشاعرها وبين القارئ، وعندما جعل من خطاب شخصيته خطابا معرفيا وشعريا لا يُقارب الأحداث إلا من منظورات جمالية ونفسية تعكس روح المقاومة في البطل، وتحول الشر الكامن في الأمكنة والسجانين إلى سخرية قادرة على تحجيمه أمام عدالة القضية.
وعن ذلك يقول شلاش -للجزيرة نت- “لقد أردت أن أوضّح من خلال خطاب فرح أن للفكرة، وللكلمة، ولمنهجية التفكير، وطريقة التعامل مع الراهن سطوة قد تبدو غير فاعلة في الآن (في زمانها) ولكن عليها سيعوَّل في التغيير القادم”.
“غدا ستنتهي قصة عشق مختلفة عن كل القصص، قصة عشق أنامل وأوتار، غدا لن تتنفس هوائي، لن تشرق وتغرب شمسي عليك، لن ترى برقي وتسمع رعدي، لن تزقزق عصافيرك فرحا بهطول مطر أناملي، لن ترى ألوان قوس فرحي وشجوني”.
وبهذه الكلمات ودع فرح عوده بمناسبة الإفراج عنه بعد 6 أعوام أمضاها في الأقبية والسجون السورية بتهمة انتسابه إلى حزب كان قد تخلى عن عضويته قبل 3 أشهر من اعتقاله.
وبذلك ينغلق السرد في رواية “أوتار وراء القضبان” التي سلطت الضوء على أحداث واقعية جرت في سوريا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ حين قام النظام السوري بحملة اعتقالات طالت معظم المعارضين من الأحزاب اليمينية واليسارية في محاولة لقتل الحياة السياسية في البلاد.