منذ معركة طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول وشن إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة بات الحديث عن مأزق إسرائيلي متعدد الجوانب، ولكن ما يظهر على السطح أن إسرائيل ماضية في عدوانها على قطاع غزة ولن تقدم تنازلات مؤلمة للمقاومة لوقف الحرب، كما أنها تستعد لشن حرب على لبنان لردع حزب الله وإجباره على الانسحاب خلف نهر الليطاني لضمان أمن شمال إسرائيل حسب قولها.
فهل ما يظهر من تصميم لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته يعبر عن حقيقة ما يجري وما يثار بشأن المأزق الإسرائيلي المتعدد الجبهات؟.
غزة الثقب الأسود
شنت إسرائيل حربها على غزة تحت شعار “معركة الاستقلال الثانية” أو “معركة وجود” وبالتالي فهي مسكونة بـ”رعب الفشل” وفقا للدكتور محسن صالح مدير مركز الزيتونة للدراسات.
كما يرى معهد راند للدراسات أن إسرائيل تعاملت مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من منطلق فرض القوة الكافية وليس المفرطة لردع الحركة، وقد عبر عن ذلك محلل إسرائيلي تابع لوزارة الدفاع قائلا “نرغب في تكسير عظامهم دون سحقهم”، إلا إن معركة طوفان الأقصى غيرت تلك الإستراتيجية.
لكن مسار الحرب ونتائجها لم تكن كما تصور نتنياهو وحكومته حتى بات العديد من القادة العسكريين السابقين والسياسيين يحذرون من نتائج الحرب على إسرائيل.
فقد أكد رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت في مقابلة مع القناة الـ12 الإسرائيلية على أن الحديث عن النصر الكامل على حركة حماس “غير واقعي”، كما باتت الخسائر التي يتعرض لها جيش الاحتلال في غزة بسبب ضربات المقاومة تشكل هاجسا لقادة الجيش.
وفي هذا الشأن يقول ألون بن دافيد في صحيفة معاريف إن كل الخطط العملياتية لجيش الاحتلال قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت حول حرب تستمر لأسابيع معدودة، ولم يتوقع أحد أن تستمر لعام أو عامين، والجيش لم يستعد لذلك من ناحية قوات الاحتياط وكذلك بأعداد الآليات، حيث قتل 666 جنديا، وأصيب 3922 واحتاج 11 ألف جندي إلى الدعم النفسي منذ بداية الحرب.
ووفقا لبن ديفيد فإن هناك 500 آلية مصفحة تضررت منذ بداية الحرب، العشرات منها تدمرت بشكل كامل.
لذا بات التقدم المحدود الذي يحرزه جيش الاحتلال في غزة وفي تفكيك قدرات حماس، يثير الشكوك داخل القيادة العسكرية العليا بشأن إمكانية تحقيق الأهداف الرئيسية للحرب في الأمد القريب.
وأثار مسار الحرب وتصور نهايتها خلافا بين نتنياهو والجيش ظهر للعلن إثر تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي من أن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها وأن “الاعتقاد أن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفاؤها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين”.
كما بات اليوم التالي للحرب الهاجس الذي يؤرق جيش الاحتلال، إذ يفرض الجيش الاحتلال المباشر للقطاع ولا يريد أن يتموضع في مواقع قد تعرضه لحرب استنزاف من قبل المقاومة في قطاع غزة.
فهل يتحول قطاع غزة إلى ثقب أسود يكبد جيش الاحتلال مزيدا من الخسائر فيما يستمر نتنياهو بالقول إن “وقف الحرب قبل تحقيق الأهداف سيرسل رسالة ضعف”؟.
الضفة.. مارد لم يستفق
سعى الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى استباق تفجر الوضع بالضفة الغربية وفق إستراتيجية “جز العشب” كي لا تثور جبهة الضفة أثناء الحرب على غزة، فعمل على اعتقال الشخصيات التي يمكن أن تشكل حالة ثورة بالضفة أو تقوم بعمليات عسكرية، كما لجأ لاغتيال أي مقاوم ليبلغ عدد الشهداء أكثر من 550 شهيدا، في حين بلغ عدد المعتقلين نحو 9325.
ورغم ما تبدو عليه جبهة الضفة من شبه هدوء، فهناك في الواقع حرب مستعرة، ورغم كل جهود الاحتلال مازالت المقاومة تتقدم. إذ لم تسفر سياسة الاحتلال عن القضاء على العمل المقاوم في الضفة أو إضعافه، بل انتشر نشاط المقاومة إلى عدة مدن، ليتم بين الحين والآخر الإعلان عن تشكيل خلايا عسكرية كان آخرها إعلان سرايا القدس – مجموعات طمون عن “انطلاق عملها الجهادي” يوم 25 من الشهر الجاري.
وتعد قلقيلية مثلا بارزا لتطور العمل المقاوم، فقد أخذت المقاومة هناك بداية “الطابع الفردي” مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسارع المقاومون بعدها لتشكيل “مجموعات ليوث المجد” التابعة لكتائب شهداء الأقصى والمحسوبة على حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
وبعد أشهر، تشكلت “كتيبة قلقيلية- سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ورغم خفوت وميضها بداية، فإنها عادت وأعلنت في بيان لها، مطلع الشهر الجاري، إطلاق أول أعمالها المقاومة بتفجير عبوة ناسفة بقوة تابعة للاحتلال اقتحمت المدينة.
وبعد نجاحات محدودة للاحتلال في منطقة نابلس والقضاء على العمل المقاوم هناك لفترة وجيزة، عادت عمليات المقاومة إليها خلال الفترة الماضية، وترافق ذلك مع عمليات للمقاومة في طوباس وطولكرم كما عادت جنين للصدارة بعد عملية تفجير مركبة نمر ومقتل ضابط وإصابة 16 جنديا.
وتظهر عمليات المقاومة بالضفة أن أداء المقاومين يتطور ويأخذ منحنى مختلفا عما كان عليه سابقا، كما استطاعت المقاومة تطوير خبرات قادرة على التعامل مع المتفجرات، وذلك حسب ما يقول محللون.
فقد ذكر موقع والا الإسرائيلي أن الفصائل الفلسطينية المسلحة بالضفة عملت بذكاء وخدعت قوات الجيش الإسرائيلي. لذا يعتقد العديد من المراقبين أن عمل المقاومة في الضفة سيشهد مزيدا من التطور والانتشار وقد يسبب تشتتا لقوات الاحتلال التي تعاني بسبب حرب غزة والمناورات في جنوب لبنان.
لبنان.. نار تحت الرماد
ما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة حتى دخل حزب الله لمساندة القطاع بفتح جبهة في شمال إسرائيل لإشغال جيش الاحتلال، وعلى الرغم من حرص الطرفين على عدم خوض حرب مفتوحة فإن استمرار إطلاق النار وارتفاع وتيرته بات ينذر باحتمالية حرب وشيكة بين الجانبين.
ويرى حزب الله أنه أدخل “العدو في حرب استنزاف مستمرة وهو يعترف بأنه في مأزق إستراتيجي”، وذلك وفقا لما يقوله نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب علي دعموش.
فقد تمكن حزب الله من خلال إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل من تهجير نحو 70 ألف إسرائيلي وإفراغ مدن من سكانها حتى بات المعلقون الإسرائيليون يرون أن الشمال بات “تحت رحمة حزب الله”.
وقد أثبت موقف حزب الله أن إسرائيل خسرت معادلة الردع مع الحزب، وأن عليها خلق حالة جديدة تمنع حزب الله من التمادي في استهداف الشمال وإظهار قدرتها للجمهور الإسرائيلي على حمايته من الأخطار التي تواجهه، وهو الأمر الذي دفع صحيفة تايمز أوف إسرائيل للقول إن ما يحدث في الشمال كشف عمق المأزق الإسرائيلي، وضيق الخيارات وصعوبتها وفداحة أثمانها، مهما كانت.
ويرى المحلل السياسي للقناة الـ13 الإسرائيلية أن “الإذلال من طرف حزب الله بات أكبر مما يمكننا احتماله”، لذا كان على القيادة الإسرائيلية العمل على إثبات قدرتها على إدارة حرب على جبهتين وهو ما تمثل في تصريحات بعض المسؤولين هناك خاصة وزير الدفاع يوآف غالانت الذي هدد بإرجاع لبنان إلى العصر الحجري، وعلى الرغم من تلك المواقف التصعيدية والتهديدات من قبل مسؤولين إسرائيليين، فإنهم يذيلون تصريحاتهم بالخيار السياسي أو الدبلوماسي.
ووفقا لما يقوله المحللون الإسرائيليون فلا توجد رؤية واضحة لدى الحكومة الإسرائيلية حول أهداف الحرب المحتملة وكيفية تحقيقها، وهو ما يخلق معضلة إسرائيلية مضاعفة، لذا يمكن القول إن ما يثني إسرائيل -حتى الآن- عن التحرّك بشكل كبير ضد لبنان، هو قلقها الشديد مما سيكون عليه ردّ المقاومة بعد ذلك، ومن غياب الثقة بالقدرة على تحقيق أهداف هذه الحرب.
ووفقا لصحيفة معاريف الإسرائيلية فقد بعث ضابط كبير في قوات الاحتياط التابعة لسلاح الجو خلال الأيام الماضية برسالة لأعضاء هيئة الأركان طلب خلالها منهم التوضيح للمستويات السياسية أن الجيش غير مستعد لحرب طويلة في لبنان، وأن الذهاب لحرب كهذه حاليا سيؤدي إلى كارثة إستراتيجية أكبر من 7 أكتوبر.
هذا الأمر دفع بعض المسؤولين العسكريين للقول “سيتعين علينا تدمير قدرات حزب الله – لكن ليس هناك عجلة، دعونا نفعل ذلك عندما يكون ذلك مناسبا لإسرائيل بدلا من الانجرار إليه”.
فحزب الله يطرح عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى، وأنه سيلتزم بوقف إطلاق النار بمجرد وقفه في غزة.
فالمأزق الإسرائيلي بلا أي أفق، ما قد يكون قابلا لإطالة أمد حرب الاستنزاف، بانتظار معجزة إقليمية تسهم في تغيير الواقع أو إرساء تفاهمات أكبر، يكون انعكاسها أقوى من القدرة على تجنبها، كما يرى البروفيسور أماتسيا برعم مدير دائرة دراسات الشرق الأوسط والإسلام في جامعة حيفا.
الجبهة الداخلية.. اتساع الخرق
“الحزن وانعدام الأمل يخيمان على الجميع والكآبة تعم الأجواء.. جميعهم منهكون لم يسبق لي أن رأيت الإسرائيليين كئيبين كما هم اليوم” هكذا استهل الكاتب في صحيفة واشنطن بوست ماكس بوث مقاله في الصحيفة يوم 25 من الشهر الجاري.
وذكر المقال أن 37% فقط من الإسرائيليين متفائلون بشأن مستقبل إسرائيل وذلك خلال استطلاع للرأي في مايو/أيار الماضي، فقد بات الإسرائيليون يشعرون أنهم في حرب أبدية.
وما يمر به المجتمع الإسرائيلي دفع رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، إلى دعوة مواطنيه إلى عدم مغادرة إسرائيل، التي تمر بأصعب أوقاتها منذ عام 1948. ووجه لهم نداء بعنوان “لا تغادروا البلاد”، مشيرا إلى أنهم يمرون “بأصعب فترة منذ حرب الاستقلال (نكبة 1948)، مقاطعة دولية، تضرر الردع، 120 إسرائيليا في الأسر، آلاف العائلات الثكلى، الجليل (شمال إسرائيل) مهجور، آلاف المهجرين، وزراء لا يهتمون إلا بأنفسهم، فقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز”. واستدرك “هذا صحيح بالكامل، لكن من المؤكد أننا قادرون، وسوف نخرج من هذه الحفرة”.
ويقدر عدد الإسرائيليين الذين خرجوا بعد الحرب بأكثر من نصف مليون شخص وفقا لموقع زمان إسرائيل الإخباري. أما الداخل فيوجد أكثر من 100 ألف إسرائيلي مشردين وفقا للكاتبة الإسرائيلية داليا شيندلين، في مقال في صحيفة الغارديان البريطانية الشهر الماضي.
وتؤكد شيندلين أن الحرب تؤثر سلبا على دخل الناس وصحتهم العقلية، وفي كل يوم تفقد أسر إسرائيلية أبناءها في الحرب من أجل “النصر الكامل” الذي لا يتحقق أبدا.
ويرى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي يشهد انقساما حادا، ويتألف المجتمع حاليا من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة.
وينبع هذا الصدع من الخلافات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية، وإن كان هذا الأمر موضوعا للنقاش النظري بين التيارات الدينية والعلمانية، فقد أصبح الآن صراعا حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها، وهذا الأمر لا يُحاربُ في وسائل الإعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.
ووفقا لبابيه يمكن تسمية أحد المعسكرين بـ”دولة إسرائيل”، والتي تضم أشخاصا أكثر علمانية وليبرالية، ومعظمهم، من اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة وأحفادهم، الذين أدوا دورا فعالا في تأسيس الدولة في عام 1948 وظلوا مسيطرين عليها حتى نهاية القرن الماضي، والمعسكر الآخر هو “دولة يهودا” التي نشأت بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة. وتتمتع بمستويات متزايدة من الدعم داخل إسرائيل وتشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز نتنياهو في الانتخابات.
كما يتزايد نفوذ هذه الطبقة في المستويات العليا في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن، وهي تريد أن تصبح إسرائيل دولة دينية تمتد على كامل فلسطين التاريخية.
ومع استمرار الحرب فان هذه الانقسامات ستستمر وقد تتسع ولا يعتقد أن وقف الحرب قد ينهي بل على العكس ممكن أن تكون نتائج الحرب سببا في اتساع الخرق في المجتمع الإسرائيلي وزيادة انقسامه، وفقا للمحللين.
الردع الدبلوماسي.. خسائر مستمرة
يرى الدبلوماسي الإسرائيلي ألون ليل أن إسرائيل خسرت الردع الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به في أعقاب الحرب على قطاع غزة، ووفقا للدبلوماسي فإن بعض الدول كانت لها خلافات مع إسرائيل ولم تجرؤ على الحديث عن ذلك سابقا ولكنها باتت الآن في الجانب المعاكس لإسرائيل.
فلم يسبق لإسرائيل قبل طوفان الأقصى أن تعرضت للضغط الدولي الكبير الذي تتعرض له الآن من عدة جبهات بسبب حربها الدموية على غزة، إذ باتت إسرائيل في عزلة خارجية، حيث تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.
وانضم بنيامين نتنياهو إلى صفوف زعماء العالم الذين يوصفون بالمنبوذين دوليا عندما أصبح هدفا للمحكمة الجنائية الدولية، التي يسعى المدعي العام فيها كريم خان إلى إصدار مذكرة اعتقال ضده وضد وزير دفاعه غالانت لاتهامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
كما شهدت الفترة الماضية احتجاجات عمت العديد من الجامعات في العالم خاصة أميركا وأوروبا تطالب بقطع صلات تلك الجامعات مع إسرائيل وشركاتها ونجحت بعض تلك الاحتجاجات في تحقيق مطالبها، كما يعتبر ما تعرضت له المشاركة الإسرائيلية في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجين) من صيحات استهجان مؤشرا على الانزعاج من إسرائيل وسياساتها حتى في الأوساط الثقافية.