شهد كهف فانغارد في جبل طارق اكتشافا مهما يُظهر لأول مرة هيكلا فريدا من نوعه، استخدمه إنسان النياندرتال قبل نحو 60 ألف عام.
هذا الهيكل، الذي يبدو بسيطا عند النظر إليه، يمثل مثالا على التطور الفكري والتنظيمي لهذا النوع البشري القديم، وهو ما يؤكد قدرتهم على التعامل مع تحديات الطبيعة بأساليب مبتكرة.
يقول خوان أوتشاندو توماس، الباحث في قسم علم الأحياء النباتية، في كلية الأحياء، بجامعة مورسيا الإسبانية، والمؤلف الرئيسي للدراسة في تصريح للجزيرة نت: “كان الاكتشاف مفاجأة لأننا لم نتوقع العثور عليه في الموقع. في الواقع، كان علينا انتظار النتائج الأولى من تخصصات مختلفة للتوصل إلى اتفاق حول حقيقة أننا كنا ننظر بالفعل إلى بنية صنعها إنسان نياندرتال”.
من ناحية بيولوجية، فالنياندرتال أحد أقرباء البشر، الذين عاشوا قبل نحو 400 ألف إلى 40 ألف سنة مضت، انتشروا في شريط ضخم ممتد بين جنوب أوروبا حتى وسط آسيا.
وبحسب الحفريات التي وجدها العلماء لهم، فإنهم أقصر من البشر الحاليين مع أجساد ممتلئة بشكل أكبر وصدر أعرض، ومنذ اللحظة الأولى التي اكتشفت فيها حفريات النياندرتال الأول، قبل نحو قرن ونصف، ساد تصور بين العلماء يقول إنهم بشر الكهوف ذوو الطابع الحيواني، لكن يوما بعد يوم أظهر الباحثون أن هذا غير صحيح.
تُظهر الأدلة أن النياندرتال استخدم هذا الهيكل لإنتاج القطران عن طريق تسخين نباتات معينة، مثل الصمغ الصخري، تحت ظروف خالية من الأكسجين. استُخدم القطران كمادة لاصقة لصنع الأدوات وربطها بأجزاء خشبية، مما يعكس مستوى عاليا من التنظيم المعرفي.
ميز العمل النظري بين طريقتين للحصول على المادة اللاصقة، طريقة بسيطة وغير منتجة عن طريق حرق لحاء البتولا في الهواء الطلق، وطريقة أكثر تعقيدا تتطلب تسخين رقائق البتولا من دون أكسجين، أي استخدام قطع مدفونة من الخشب المسخن بالنار بحيث تفرز القطران بينما لا تحترق لأنها معزولة عن الأكسجين.
سواء استخدموا الطريقة المنتجة أو غير المنتجة، فإن لذلك آثارا كبيرة على تقييم قدرتهم المعرفية، إذ تتطلب الطريقة الأكثر تعقيدا درجة كبيرة من التنظيم والممارسة.
ولتأكيد هذا الاكتشاف، تعاون فريق مكون من 31 باحثا من مختلف التخصصات مثل علم الأحياء القديمة، والكيمياء الجيولوجية، وعلم الآثار. وتم استخدام أساليب متعددة لتحليل الرواسب في الهيكل المكتشف.
يوضح خوان في تصريحه: “يتوافق هيكل الموقد لدينا مع التوقعات من الدراسات النظرية على قطران البتولا التي تتطلب استخدام هياكل التسخين للحصول على القطران، وهي مادة لاصقة ثبت أن إنسان نياندرتال استخدمها”.
يُظهر هذا الاكتشاف أن النياندرتال لم يكونوا جماعة من البدائيين كما اعتقد العلماء في وقت سابق، بل تمتعوا بقدرات معرفية متقدمة مقارنة بعصرهم. ويشير استخدامهم لهذا الهيكل إلى درجات من التفكير المنطقي، والتخطيط المسبق، وفهم جيد لخصائص المواد الطبيعية.
يقول خوان في تصريحه للجزيرة نت: “إن استخدام إنسان نياندرتال للقطران كان معروفا بالفعل، ولكن في حالتنا، ما اكتشفناه هو البنية أو الطريقة التي تم الحصول على هذا القطران بها”.
يفتح هذا الاكتشاف أبوابا جديدة لفهم تقنيات النياندرتال، ويقول خوان عن ذلك: “من المحتمل أن توجد هياكل مماثلة في مواقع أثرية أخرى بها سكان نياندرتال، رغم أننا لا نعرف حتى الآن ما إذا كان هناك المزيد في المنطقة أو في مناطق أخرى أكثر بعدا”.
ويضيف: “ونأمل من الآن فصاعدا، وباستخدام بنيتنا كمرجع أو نقطة انطلاق، أن نكتشف المزيد من الهياكل مثل تلك الموجودة في كهف فانغارد في مواقع أثرية أخرى”.
إن هذا الاكتشاف يعيد تشكيل الصورة التقليدية لإنسان النياندرتال، فبدلا من النظر إليهم ككائنات بدائية، يبدو أنهم امتلكوا قدرا ليس باليسير من الفهم المتقدم للتقنيات الطبيعية، وهو ما يبرز قدرتهم على التكيف والإبداع.