الأديب اليمني حبيب عبد الرب سروري: التكنولوجيا تسطيح للروح البشرية وأعيش محنة اليمن بكل جوارحي
باريس – كجرح لا يندمل وعشق لا يذبل وقصيدة لا تكتمل لا يزال الكاتب حبيب عبد الرب سروري يعيش محنة بلده اليمن بكل جوارحه، وما زال عبق بخوره وعطوره وبهاراته يرافقه أنى ولى وجهه وقلمه منذ غادره في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى فرنسا.
ولذلك، فلا غرو أن تحمل معظم كتبه آثار هذا الجرح النازف وصدى هذا العشق الذي لا يذبل وإيقاع قصيدة اليمن السعيد الذي تحولت قوافيه وبحوره الى أغنية حزينة بفعل العنف والدمار والحرب القائمة منذ سنوات.
ومنذ روايته الأولى “الملكة المغدورة” التي تدور في سبعينيات القرن الـ20 في جنوب اليمن وحتى “حفيد سندباد” التي تقع أحداثها في اليمن الكبير المبتلى بالحروب، ومرورا بـ”دملان”، و”طائر الخراب”، و”ابنة سوسلوف” المسكونات بهموم منعطفات زمنية في حياة اليمن، ووصولا إلى قصصه “همسات حرى من مملكة الموتى” وكتبه الفكرية “عن اليمن.. ما ظهر منها وما بطن”، و”لا إمام سوى العقل”، كل الدروب تؤدي إلى اليمن المنقوش وشما على القلب وتميمة أبدية للروح.
ووحدها بوصلة الحنين والذاكرة تسافر بنا إلى مراتع الطفولة الأولى في حي الشيخ عثمان ومدينة عدن حيث أبصر سروري النور أول مرة في 15 أغسطس/آب 1956 وتردد منذ صباه -بتأثير من والده- على تراتيل الذكر الحكيم وكتب الفقه والتفسير والتصوف والأدب والشعر.
ورغم اختصاصه العلمي وعمله بروفيسورا في علوم الحاسوب بكلية العلوم التطبيقية في روان بفرنسا فإن سروري يعتبر روائيا وكاتبا متميزا بمدونته السردية والفكرية الثرية التي راكمها على مدى عقود.
وقد وصلت روايته “ابنة سوسلوف” إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2015، فيما فازت روايته التاسعة “وحي” بجائزة “كتارا” العام 2019.
وعن روايته العاشرة “جزيرة المطففين” الصادرة أخيرا عن منشورات المتوسط كان للجزيرة نت هذا الحوار مع حبيب عبد الرب سروري الذي خاض في تفاصيل هذه الرواية وعلاقة الإنسان المعاصر بالتحولات التكنولوجية السريعة، وتطرق أيضا إلى الدور الطليعي للمثقف العربي وعلاقته بالسلطة وعدة قضايا أخرى تكتشفونها تباعا، فإلى الحوار:
تحاول روايتك الجديدة “جزيرة المطففين” استنطاق عالمنا المعاصر واستحضار واقعه الديستوبي الصادم من خلال جزيرة مجنحة ومدينة متخيلة، فما هو الحد الفاصل بين الواقع والخيال في هذه الرواية؟ وما الأبعاد الرمزية الفنية لهذا العمل الخيالي المجنح؟
منذ التسعينيات من القرن الماضي تعاظمت على نحو مرعب هوة التباين الفاقع بين قطبي أثرياء وفقراء العالم وبين مستويات حيوات شعوبه المتطورة جدا والمتأخرة جدا، وزاد -في الوقت نفسه- اشتباك الكل في إطار عولمة ضارية لها عمود فقري -تحالف عمالقة قوى المال والتكنولوجيا- يقود كل حركات العالم وسكناته.
أطراف وأقطاب التباين العالمي تعيش معا في روايتي، في أحياء مدينة واحدة: أطلس، رمز هذا العالم المشتبك تحت قيادة واحدة تختفي في جزيرة تحمل اسمها بجدارة: جزيرة المطففين.
اختياري الروائي هذا يختلف تماما عن الروايات الاستباقية العالمية التي تدور غالبا في دول الأثرياء، في كوكب يبدو كأنه يخلو كلية من شعوبنا العربية المبتلاة بالفقر، وتختلف أيضا عن الروايات المحلية التي تتقوقع في الهم العربي وكأننا نعيش معزولين عن بقية العالم.
بكلمتين: الخيال في روايتي ابن جينات واقعنا العالمي الكلي المعاصر، تمثل تجريدي واقتفاء سردي حر لآفاقه، في مستقبل قادم قريب.
في الرواية عدة أسئلة جوهرية وفلسفية، ومنها هذا السؤال: إلى أين تتجه البشرية في عالم اليوم، عالم التشظي وحروب الإبادة الذاتية، عالم اللاجئين والهاربين من الموت والظلم والجوائح والرقابة الإلكترونية، ما هي إجابتك عن هذا السؤال الإشكالي الكبير؟
الرواية كلها محاولة سردية للخوض في هذه الإشكالية الجوهرية الكبرى، بالطبع، ليس هدفها التنبؤ بالمستقبل وعرضه كسلسلة أحداث يتلوها “قارئ فنجان” بقدر ما تصبو ضمنيا عبر حبكة الرواية وأدواتها وهموم إبطالها إلى تفجير آلاف الأسئلة حول المستقبل، وإلى سرد وبث مخاوف الكاتب من ملامحه القادمة، في ضوء حركة الحاضر واتجاهاته.
لعلها تدين ضمنيا النيوليبرالية التي توجه العالم، لتجاوزاتها المتغطرسة للحدود، أو ما يسميه الإغريق بهيبريس (الخيلاء) في مجالات كثيرة، ولا سيما على الصعيد البيئي الذي قاد إلى خلل كارثي يهدد حاضر ومستقبل كوكب الأرض، ولعلها أيضا تنبه إلى مخاطر أراها قادمة لا محالة.
إلى أي مدى حاولت في هذه الرواية استثمار المعرفة وتوظيفها لتستشرف كثيرا مما يحمله القادم في مجال العلم والتكنولوجيا، ولا سيما الرقابة والتجسس الإلكتروني؟
سؤالك في محله، أحد أبرز هموم هذه الرواية سرد تداعيات انحرافات التكنولوجيا الرقمية وآثارها على مستقبل حياتنا، ليس فقط الآثار الوخيمة للشاشات على شبكية عين الإنسان ولكن، وذلك الأهم: دورها في تسطيح الروح البشرية.
إنسان المستقبل -كما يبدو في الرواية- كائن مسرنم (سائر أثناء نومه)، خاضع كلية لإرادة التكنولوجيا والشاشات، إلى جانب ذلك فإن التجسس الإلكتروني محور جوهري في الرواية، لعلها تدور بمجملها حوله كما لاحظت “ننظر إلى الشاشة فيما هي في الحقيقة من تنظر إلينا” كما تقول الرواية، تستبطننا، تقرأ أفكارنا.
منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001 هناك في “جزيرة المطففين” قوى هوسها الرقابة الكلية على الإنسان عبر الآلة، تحكي الرواية هذا الهوس خلال يوميات بطليها زريقة وفريد، يتابع حركاتهما وسكناتهما برنامج استخباري خطير جدا اسمه “أوميغا”، ليس في الحقيقة إلا جزءا من برنامج أخطر اسمه “أوميغا++”.
جاءت رواية “جزيرة المطففين” نتيجة زيارة قمت بها إلى مدينة كاليه لكتابة تقرير عن أوضاع اللاجئين، وكانت قضية اللاجئين هي الدافع الأول لكتابة الرواية، فما هي الوسائل الفنية الروائية التي وظفتها للمرور من التقرير الصحفي المباشر إلى الفن القصصي السردي المتخيل؟
اقترحت عليّ مؤسسة “فيستيفال الأدب” الألمانية في نهاية عام 2020 زيارة “غاب كاليه” في أقصى شمال فرنسا، حيث يتجمع اللاجئون سرا للهروب عبر بحر المانش نحو بريطانيا، وذلك لكتابة مقال أدبي عن أوضاعهم في كتاب ظهر باللغة الألمانية.
كان ذلك في ظروف صعبة لا تخلو من المخاطر: إغلاق الحدود بين بريطانيا والعالم قبل “البريكست” بأسبوعين بسبب متغير إنجليزي جديد لفيروس كورونا.
كانت تجربة في غاية الأهمية لانطلاق مشروع الرواية، هؤلاء الهاربون همزة الوصل الدامية التي تربط حي ألف بحي ياء يموتون بعشرات الآلاف سنويا غرقا وقتلا وتعذيبا واغتصابا وهم يخوضون مغامرة الهروب.
بقاع تكدسهم التراجيدية تكبر وتكبر في عالمنا المعاصر، وتقبع جميعها في حي أطلسي خاص مهم جدا في الرواية اسمه “حي الشتات العظيم”.
هكذا تنطلق الرواية من لقاء الراوي قرب غاب كاليه باللاجئين السريين اليمني والإريتري: طفران وحجي.
برز في السنوات الماضية كتّاب يمنيون في المهجر والمنافي نتيجة الحرب الدائرة في اليمن، مثل علي المقري أحمد الزين وأنت، فهل يمكن الحديث عن موجة من الأدب اليمني في المهجر؟ وما هي خصوصية هذه الموجة ومميزات هذا الأدب؟
ثمة فعلا عدد من المبدعين اليمنيين الكبار يعيشون خارج اليمن كعلي المقري، أحمد زين، مروان الغفوري، علي محمد زيد وغيرهم، ينتجون بغزارة وشغف، لا أظن أننا نكتب أدبا خاصا بنا لأننا مندمجون في واقعنا اليمني والعربي حتى مخ العظم، نعيشه يوميا، ذلك أن مفهوم المسافة الجغرافية لم يعد هو نفسه قبل تطورات التكنولوجيا، ننتمي جميعا لقبيلة صدر بيت الشاعر العظيم عبد الله البردوني “يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن”.
إن كانت هناك مميزات ما للإنتاج الأدبي لهذه القبيلة فلعلها لا أكثر ظروف الحرية والاستقرار، وفرص الاحتكاك بالآخر التي تولد أحيانا نظرة أكثر اتساعا واندماجا بهموم العالم كما حدث لطفران في الرواية أيضا.
برأيك، هل تجربة المنفى ضرورية لكل كاتب ومبدع حتى يطور تجربته ومدونته ويعمقها؟ وما الإضافات الفنية التي حصلت لك من المنفى والغربة؟
لا أعتبر -في الحقيقة- أني أعيش في منفى، لأني أعيش حياتي بحرية حقيقية ما كان لي أن أحياها في اليمن الذي أضحى منفى لأهله كما قال البردوني، وأعيش ثقافتي العربية واليمنية بتفاعل مندمج مع العالم وثقافاته.
أهم إضافات هذا الوعاء الجغرافي -الذي سميته الغربة- ثقافة الحرية أولا، والانحناء أمام القانون، وارتباط الكفاءة بالاستحقاق فقط.
جئت إلى هذه البلاد وأنا لا أنطق كلمة فرنسية، أميا في “الرياضيات الحديثة” التي اخترتها لدراستي الجامعية، وتحولت في أقل من 15 عاما إلى بروفيسور جامعي.
وقد سمحت لي هذه الظروف المشجعة بالعودة إلى شغفي الأول بحماس هائل: الأدب، وفرنسا مناخ خصب لذلك كما تعرف، هي أحد أهم مراتع الفن والأدب والفكر والتنوير، وهي قبلة كثير من مبدعي العالم.
أتابع يوميا وأقرأ أهم جديد إنتاجاتها الأدبية والفكرية، وسيؤثر ذلك ربما على توسيع آفاق كتابتي وثقافتي.
كيف استفاد الروائي حبيب عبد الرب سروري من مهندس الحاسوب وعالم الرياضيات؟ حدثنا عن هذه العلاقة الملتبسة بين الأدب والرياضيات والتزاوج بين الخيال المجنح في سماء المثل والعلم التطبيقي الذي يرتبط أكثر بالواقع؟
العلاقة تبدو ملتبسة في ثقافتنا العربية فقط، حيث العقلية العلمية غائبة تماما تقريبا.
لا وجود لهذا الالتباس في الثقافة الغربية التي تأسست على إنجازات العلم وانتصاره الكاسح على الكنيسة، حضور العلم كبير في أعمالها الأدبية انطلاقا من حضوره في صميم الحياة يثري أبعادها السردية والفلسفية والاستشرافية.
في ما يتعلق بي أعيش هذا التفاعل الأدبي العلمي على نحو عميق، ليس فقط لحضور العلم في أعمالي الأدبية أحيانا، لكن أيضا لأن الهموم التعبيرية اللغوية شغلتني في بعض أبحاثي العلمية.
لا يجب نسيان أن الرياضيات لغة، وللبرمجة آلاف اللغات الكمبيوترية، والبحث عن القدرة التعبيرية الفائقة في اللغات الكمبيوترية من أهداف أبحاث الذكاء الاصطناعي، ولبعض لغات الكمبيوتر وأساليب برمجيتها جماليات أيضا كجماليات بعض الأساليب الأدبية.
كيف تعيش الحرب في اليمن؟ وما تأثيراتها النفسية والفنية الإبداعية عليك وعلى قلمك على المديين القريب والبعيد؟
أعيش محنة اليمن وحروبه بكل جوارحي، يعصرني الألم كل يوم، يرافقني اليمن حيثما أولي كجرح لا يندمل وكعشق لا يذبل.
لعل معظم رواياتي مسكونة به منذ “الملكة المغدورة” التي تدور في سبعينيات القرن الـ20 في جنوب اليمن وحتى “حفيد سندباد” التي تقع أحداثها في اليمن الكبير المبتلى بالمليشيات والحروب وانقلاب عصابة الإماميين السلالية و”صرختها” المهلكة لشعبه، ومرورا بـ”دملان”، و”طائر الخراب”، و”ابنة سوسلوف” المسكونات بهموم بعض منعطفات زمنية اضطرابية في حياة اليمن.
برأيك، هل انتهى زمن المثقف العضوي الذي يدافع عن أفكاره لآخر رمق وأصبحنا نعيش زمن المثقف “العظمي” الذي يرضى بعظمة صغيرة من السلطة في شكل منصب صغير مقابل صمته ومهادنته؟ المثقف والسلطة، أي علاقة اليوم في هذا الواقع العالمي المعولم والمتحول العنيف؟
لعل أحد عوائق تطورنا -كعرب- هو خنوع المثقف “العظمي” ونفاقه والبحث عن سلامته في تبعية الطغاة، بيع القلم للدكتاتور أو الصمت والمهادنة هو موقف الأغلبية من مثقفينا، في حين أن دور المثقف هو حشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة وإقلاق الحاكم أيا كان وجعله يخشى كلمة المثقف، ورفضه ومقاومته.
أدرك أن قمع دولنا -حيث كبح الحريات والقهر والتجويع والتعذيب والقتل تهدد حياة المعارض غالبا- يفسر بعض المواقف الصامتة أحيانا، لكنه لا يبرر حقارة التطبيل للحاكم وبؤس الانحناء له.
أين يبدأ الخيال وأين ينتهي الواقع في أعمالك الروائية؟ أدخلنا إلى غرفة الكتابة السرية لديك، كيف تعيش مخاض الكتابة والإبداع؟
“الخيال أهم من المعرفة” كما قال أينشتاين، ومن يمتلك قوة الخيال في العلم أو الأدب يمتلك العالم، التخييل الروائي توسيع للعالم.
تجربتي السردية -إذا جاز القول- محاولة مستمرة للبحث عن تطوير تفعيل ملكة التخييل الروائي.
بدأت في “الملكة المغدورة” تجربة تشبه السيرة الذاتية، ثم انتقلت إلى التخييل في روايتي الثانية “دملان” من منطلق حذر: تخييل يشبه السيرة الذاتية المعاكسة، ثم بدأت المسيرة نحو التخييل الكلي بخطوات أكثر فأكثر جرأة، ثم تضاعفت -كما أظن- في “جزيرة المطففين”.