عام 1990 أطلق المهندس الأميركي آندي هِلدبرانت برنامجا حاسوبيا بغرض تحسين النسخ الصوتية للآلات الأوركسترالية الضخمة، ليتمكن صانعو الأفلام من الاستعانة بها بدلًا عن حشد عدد ضخم من الآلات وعازفي الأوركسترا الكاملة في أثناء تسجيل موسيقى الأفلام.
كان هِلدبرانت، قبل عدة أعوام من إطلاق ذلك البرنامج، خبيراً ناجحاً في مجال معالجة الإشارات الصوتية لعمليات الكشف عن النفط في طبقات الأرض، وبخبرته هذه نجح في إنتاج البرنامج الجديد، وبعدة خبرات اكتسبها على مدى 6 سنوات في الموسيقى والبرمجة استطاع تحسين برنامجه لينتج نسخة جديدة محسّنة سمّاها Auto-Tune “أوتوتيون” عام 1997.
العالم بعد “أوتوتيون” ليس كما قبله، إذ أصبح بإمكان العازفين والمنتجين الموسيقيين تصحيح أصوات موسيقاهم دون الحاجة لجمع الموسيقيين لإعادة التسجيل، فبدلا عن إهدار وقت المنتج الموسيقي والعازفين في تسجيل عدة مقاطع على مدى عدة أيام لاختيار الأفضل منها والتوليف بين بعضها البعض على برنامج التسجيل، باتت معالجة الأخطاء في وقت أقل أمراً ممكنا، كل ما على الموسيقيّ فعله هو تسجيل مقطع، ثم اختيار السلم الموسيقي المطلوب، والسرعة، ليعمل البرنامج على تصحيح النغمات الناشزة إلى أقرب نغمة صحيحة.
ملعب مفتوح للتجريب
في البداية، تعامل المنتجون الموسيقيون مع البرمجية الجديدة بحرص، اكتفوا فقط بتصحيح النغمات الخاطئة، كان من الصعب ملاحظة تأثيرها على الأغاني، نظرًا إلى عدم انتشارها آنذاك، حتى بدأ “الأوتوتيون” يتدخل شيئًا فشيئًا في إنتاج ألبومات موسيقية كاملة، فظهرت نزعة الصوت الروبوتي الحاد في الأغنيات.
كما وجدها الهواة غير الدارسين فرصة للعب والتجريب الموسيقي، لتبدأ موجة عالمية من المجربين الهواة، في أميركا وأوروبا وأفريقيا شمالا ووسطا وحتى الهند وكوريا، الآن لا يحتاج الهواة إلى دراسة لينتجوا الموسيقى، فالأوتوتيون يقوم بضبط نشازهم وتصحيح نغماتهم آلياً.
ومنحت القدرات الآلية لهذه البرمجية -التي تحولت إلى جهاز مستقل بذاته- شعبية هائلة حول العالم، وفي ألوان موسيقية، كما دشّن موسيقى جديدة، إذ يمكن اعتبار المهرجانات في مصر ابنة أصيلة للأوتوتيون وكذلك “التراب” في أميركا ومصر، وحظيت المهرجانات أثناء صعودها الأولي باهتمام نقدي وصحافي واضح ما ساعدها على الانتشار والوصول لآفاق خارج حدود مصر.
موسيقى جديدة خلفها الأوتوتيون
7 أعوام مرت بعد إطلاق “أوتوتيون” كانت كفيلة لتحقيق انتشار عالمي، وكذلك ظهور معارضة قوية من نقاد الموسيقى وصلت لحد وصفه بـ “الاختراع الشرير” كما وصفه نيل ماكورميك في مقاله المنشور بصحيفة “ديلي تلغراف” إذ حمّل هذا الاختراع مسؤولية غياب الأصوات النقية عن التسجيلات التي سنسمعها في المستقبل.
نحن الآن في المستقبل الذي حاول ماكورميك التنبؤ به، انتشر “الأوتوتيون” وانتشرت الأصوات المعالجة والنغمات المصححة، بعدما قلل الأوتوتيون من الجهد المبذول لإنتاج الموسيقى وسمح لغير الدارسين بممارستها وتصحيح نشازها.
ووقت نشر هذا المقال في الجريدة البريطانية، كان الأوتوتيون يتلمس طريقه في مصر بتحديثاته وإضافاته، حين استخدمه الشاب عمرو حاحا، الشهير -حينها- بدكتور عين شمس، مع مطلع الألفية لتصحيح نغمات النشاز في الأفراح الشعبية وضبط أصوات مطربيها، لتظهر التسجيلات الصوتية التي ستعرف بالمهرجانات، وصاحبتها نفس المخاوف النقدية في بدايتها، لكنها ككل جديد فرضت نفسها، تخبطت وأخفقت ونجحت وأسست عالمها.
في المستقبل الذي خاف منه ماكورميك يمكننا إعادة تقييم التجارب، إما بنظرة متشائمة كنظرة الناقد الموسيقي بأن الأصوات المعالجة زاحمت الأصوات الطبيعية النقية في مجالها دون جهد، أو بنظرة أكثر تفاؤلًا مضمونها أن هذه الأداة الجديدة سمحت لجيل كامل لم يسعفه حظه لدراسة الموسيقى -باعتبارها من الكماليات- بأن يخرج موسيقاه وكلماته، وأن يعبر عنها بصخب ودون الحاجة إلى دراسة، أعطتهم صوتاً وتركتهم أمام ديمقراطية ذائقة الجمهور، وأمام طموح موسيقي الثقافة الجماهيرية لتطوير مهاراتهم.
حاحا الذي بدأ مساره مختصاً بصيانة أجهزة الحاسوب داخل مقهى إنترنت، ويلعب مجرّباً مع عدة برامج هندسة ومعالجة الصوت، أصبح يمتلك الآن مهارة توزيع وإنتاج موسيقى جديدة، ويملك استوديوهين لتسجيلها، بميكروفونات ذات جودة عالية وأحدث إصدارات برامج الصوت، وأذن موسيقية ناضجة، ومسار مهني احترافي، كما نضج رفيقاه السادات وفيفتي على مستوى الغناء والإنتاج.
حاسوب في كل بيت
عام 2004، كانت حملات “حاسوب في كل بيت” -التي أطلقتها الحكومة المصرية- ساعدت بعض من أبناء الطبقة الوسطى على امتلاك أجهزة بدائية للاستخدام المنزلي، والسماح لأصحابها بالوصول إلى الإنترنت، وكذلك التغاضي عن شبكات الإنترنت الصغيرة غير الرسمية التي يؤسسها شباب كل حي ويتخذونها مشروعاً للعمل الحر، حينها لم يكن يوتيوب قد اتجه بعد إلى توثيق حسابات المشتركين ولا لحفظ حقوق الملكية الفكرية للفنانين، ولم تكن فكرة القنوات الرسمية للفنانين قد ظهرت بعد.
كانت الإنترنت فضاءً فسيحاً يسمح بالتجريب والنقل والاقتباس، وكذلك حرية التعبير بأي وسيلة، عبر المدونات أو النقاشات عبر المنتديات أو حتى نشر فيديوهات وموسيقى تجريبية، أو التعلم مثلما داوم حاحا ابن حي عين شمس (شرق القاهرة) على تجريب برامج معالجة الصوت ومفاتيحها حتى أنشأ نغمات تصلح لرنات الهاتف المحمول منتصف العشرية الأولى للألفية الحالية، ثم طوّرها لتصبح نغمات موسيقية شرقية مصححة بالبرمجيات الصوتية يمكن تضمينها داخل المهرجانات التي بدأت تحقق انتشارها داخل الأفراح مع نغماته وتصحيحاته لأصوات مؤديها.
وخلال سنوات قليلة تحول اسم حاحا لعلامة تجارية موثوقة في عالم موسيقى المهرجانات، لا ينافسه سوى موزع مدينة السلام الأشهر “فيغو” وبخاصة بعدما نشأ صراع بينهما على تصدر المهرجانات والتعاون مع مؤديها، كل ببصمته والصوت الآلي الذي يعلن توقيع كل منها الصوتي بداية المهرجان، وتبادل الاتهامات بسرقة النغمات، حتى اتخذ الصراع شكلًا شوفينيًّا بين حي عين شمس ومدينة السلام، ساهم في تطوير كل واحد منهما.
قواعد اللعبة
بعد سطوع المهرجانات وتصاعد جماهيريتها نسبيًا، تغيرت طبيعة الأفراح الشعبية وفقراتها، بدأ البعض يتخلى عن الفقرات المعتادة المنتشرة في الأفراح الشعبية، لصالح مطرب المهرجان الأقل تكلفة والأعلى جماهيرية، والذي يمكنه رفع حماس الجمهور وضيوف الفرح وتحيتهم عبر الميكروفون.
لكن الفقرة الثابتة التي لم تتغير هي الرقص الرجالي، فرق من الشباب والمراهقين يحترفون الرقص الإيقاعي الاستعراضي أو الرقص بالأسلحة “التشكيل” ويرتدون زيًا موحدًا ويتدربون على هذه الرقصات لاستعراضها أمام جمهور الأفراح أو الراقص المنفرد، ومن نجومها في مدينة السلام كان “السادات” شابًا نحيلاً وقصيرًا، يمكنه ممارسة هذه الرقصة والاحتراف فيها وحتى منافسة راقصين آخرين على حلبة الرقص، يمكنه أيضًا أن يمسك الميكروفون ليقوم بدور “النبطشي” منظم الفرح، موزِّع التحايا على الكبار والعائلات من الحضور. وبالطبع الرد على المطرب الأساسي “فيفتي” في هذه الحالة والذي يشكل معه ثنائياً لازماً لإجراء حوار وللغناء والرد.
بعد فترة سيبدأ “السادات” في التجريب والغناء وسيكتب أولى أغنياته “صحوبية جت بندامة” تنتشر الأغنية كفيروس، لتملأ الفراغ الصوتي لكل سيارات الميكروباص، وتوك توك، والأفراح، والمهرجانات، بموضوعها المعتاد عن “غدر الصحاب”.
غدر الصحاب أهم من الصوت الجميل
بهذا الموضوع المكرر والذي أثبت نجاحا سرمدياً بين جمهور الأغنية الشعبية منذ بداية الموال وحتى ليالي الحظ، عن غدر الصحاب وموضوعات أخرى عن الفخر والاعتداد بالنفس والخيانة.
امتلكت المهرجانات فرصتها لتحقيق الانتشار بين جمهور الأغنية الشعبية، وبدأت مرحلة تطوير كلماتها لتحمل موضوعًا متماسكًا بدلًا عن تداعي الأفكار والتحية والسلامات، وكذلك تطوير نغماتها وتوزيعاتها، صارت أكثر شرقية وأقل نشازاً.
وعلى مدى 5 سنوات استطاعت بأدوات سهلة الوصول مثل برامج تصحيح الصوت، والميكروفونات الرخيصة ومنصات العرض غير الخاضعة لشركات الإنتاج الكبرى أن توسع قاعدتها الجماهيرية، وأن تمنح الفرصة لشريحة أكبر من الممارسين لهذا اللون الجديد، وظهرت ثنائيات غير السادات وفيفتي مثل: أوكا وأورتيغا، فيغو وحاحا، وحتى المجموعات والفرق الغنائية مثل: الدخلاوية، فريق “شبيك لبيك” الذي أصدر مراهقوه بأصواتهم الرديئة مهرجان “مفيش صاحب يتصاحب” بنفس الموضوع مضمون النجاح “غدر الصحاب” والذي حقق أكثر من 133 مليون مشاهدة على يوتيوب، كما أصبح في مرحلة ما نشيدًا شعبيًا، ينتجه أبناء الأحياء الفقيرة لتفرض وجودها على كافة الطبقات، حتى حققت نجاحها وصارت فرساً رابحاً واستثماراً مضمونا، فخضعت لشركات الإنتاج ورأسمالها، وقنواتها وإعلاناتها.