اعتذر البابا فرانشيسكو مطلع أبريل/نيسان الجاري لوفد من مجتمعات السكان الأصليين يمثل شعوب “ميتيس” و”الإنويت” و”فيرست” و”الخلاسيين” وغيرهم، معترفًا بالضرر الذي لحق بالمدارس الداخلية في كندا، مسجلًا بذلك خطوة حاسمة في اعتراف الكنيسة بدورها في الإساءة لمجتمعات السكان الأصليين والأطفال.

وفي وقت سابق من العام الماضي، تقدم أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في كندا باعتذار للسكان الأصليين بعد العثور -في أغسطس/آب 2021- على أكثر من ألف قبر قرب مدارس داخلية، وأقر الأساقفة بـ”المعاناة التي عاشها تلامذة المدارس الداخلية” وبـ”الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها” بعض من أبناء الطائفة الكاثوليكية.

 

ويقول مؤرخون كنديون إنه بين عامي 1883 و1996 أجبر نحو 150 ألف طفل من السكان الأصليين -وتحديدا من الهنود الأميركيين والخلاسيين وشعب الإنويت- على “استيعاب وإدراك” المجتمع الأبيض في كندا، وفُصلوا قسرا عن عائلاتهم ولغتهم وثقافتهم، وأودعوا في 139 من هذه المدارس الداخلية في جميع أنحاء البلاد من أجل تشريبهم الثقافة السائدة.

وتعرض العديد منهم لسوء المعاملة أو الاعتداء الجنسي، وتوفي أكثر من 4 آلاف شخص في تلك المدارس، وفقا للجنة التحقيق التي خلصت إلى أن ما حدث كان “إبادة ثقافية” حقيقية.

 

يشار إلى أن هذه المدارس كانت تحت إشراف الكنيسة الكاثوليكية، وبقيت تلك المؤسسات التعليمية مفتوحة حتى بداية سبعينيات القرن الماضي.

 

معنى الاعتذار

في مقال نشره موقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation) الأسترالي، قالت آني سلاك -الأكاديمية بجامعة جورج تاون- إنها وبصفتها لاهوتية كاثوليكية تدرس سلطة الكنيسة، فقد لاحظت كيف يمكن للاعتذارات البابوية السابقة أن تتحدث نيابة عن الكنيسة بأكملها، فإما أن تنكر مسؤوليتها أو تقرها.

وتحدثت الكاتبة عن تطورات الاعتذارات البابوية، وقالت إنه كان من غير المعقول أن يعتذر البابا سابقًا، لأن ذلك يعني أن الكنيسة كانت خاطئة.

واستدركت الكاتبة قائلة إن المجمع الفاتيكاني الثاني -الذي انعقد بين عامي 1962 و1965، وصدر عنه جملة من المقررات والمراسيم ليكمل ما توقف المجمع الأول عن إنجازه بعد سقوط روما بيد الثوار عام 1870- غيّر منظور الكنيسة بشأن التغيير وأقام إصلاحات كبرى.

 

ففتح المجمع الثاني الباب أمام الاعتراف بالخطأ، إذ اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عن العديد من الأخطاء السابقة للكنيسة بإعلان 12 مارس/آذار 2000 “يوم العفو”، حيث قال في تلك الوثيقة إن “الكنيسة اليوم، من خلال خليفة بطرس (البابا)، تسمي وتعلن وتعترف بأخطاء المسيحيين في كل عصر”، وهو ما أرسل إشارة إلى أن الاعتذارات البابوية نيابة عن الكنيسة بأكملها، بما يتجاوز المسؤولية الشخصية للبابا الحالي.

الاعتذارات البابوية

وأوضحت الكاتبة أنه قبل عام واحد فقط من ذلك البيان، ذكرت اللجنة اللاهوتية الدولية أنه في تاريخ الكنيسة بأكمله لا توجد سوابق للاعتذارات البابوية عن أخطاء الماضي، لذلك شكل هذا الاعتذار سابقة جديدة ومهمة، وتستند الاعتذارات البابوية إلى فهم أن البابا هو زعيم الكنيسة الرسولية الواحدة، المقدسة، الكاثوليكية، المرتبطة بالتقاليد على مر العصور، وذلك يعني أنه يمكن للبابا أن يعتذر عن حدث في الماضي، عندما لم يكن هو البابا، أو ربما لم يكن قد ولد بعد، لأن الكنيسة التي تعود إلى ألف عام مضت مرتبطة باليوم.

وتبين الكاتبة أنه عندما يعتذر البابا، غالبًا ما يخاطب الاعتذار مشاعر الضحايا، لكنه يفشل في اعتبار الكنيسة مسؤولة، فقد اعترف البابا بنديكتوس السادس عشر بألم ضحايا الاعتداء الجنسي في عام 2008، وعبر عن شدة أسفه للألم والمعاناة التي تحمّلها الضحايا، وأكد أنه، بوصفه قسيسا لهم، يشاركهم أيضًا في معاناتهم. ومع ذلك، امتنع بنديكتوس السادس عشر غالبًا عن الاعتذار عن تستر الكنيسة، ولهذا فإن عدم الاعتراف بالخطأ والتستر من جانب الكنيسة يجعل هذه الاعتذارات مجرد تعبير عن الأسف من دون تحمل للمسؤولية والمساءلة.

وتطرقت الكاتبة إلى اعتذارات البابا فرانشيسكو، الذي اعترف في كثير من الأحيان بأخطاء الكنيسة، كاعتذاره سنة 2015 عن الخطايا الجسيمة للاستعمار في الأميركيتين، حيث تحدث فرانشيسكو في ذلك الاعتذار باسم الكنيسة بأكملها، على الرغم من أن أعمال الاستعمار بدأت قبل عدة قرون، وأكد هذا الاعتذار الطبيعة العالمية للكنيسة.

 

وأكدت الكاتبة أنها ومن وجهة نظرها، تعتبر أن اعتذار فرانشيسكو بشأن المدارس الداخلية يمثل خطا فاصلا بين الاعتذارات السابقة العامة والمحددة، حيث وضع مسافة بينه وبين أعضاء الكنيسة الكاثوليكية المسؤولين عن الإساءة، من خلال قوله “بشأن السلوك المؤسف لأعضاء الكنيسة الكاثوليكية هؤلاء، أطلب مغفرة الله، وأريد أن أقول لكم من كل قلبي، أنا آسف جدًّا”.

 

وشددت الكاتبة على أنه بالرغم من وجود من يقول إن الأفعال أهم من الأقوال وأن الاعتذارات البابوية جوفاء بدون أفعال مقابلة، فإنها تعتقد أنه من المهم أيضًا إدراك أن الاعتذار فعل في حد ذاته، فأفعال زعيم عالمي مثل البابا مهمة، ومن المعروف أن الاعتذارات هي خطوة في طريق العدالة التصالحية، بحسب تعبيرها.

وتشير الكاتبة إلى أنه قد لا تقول الاعتذارات البابوية كل شيء، لكنها تقول شيئًا مهمًا، حيث إنه وبصفته رئيسًا للكنيسة الرومانية الكاثوليكية وقائدًا عالميًا، يعتذر البابا لكل من الكنيسة ونيابة عن الكنيسة للعالم، فهذه الاعتذارات نقاط انطلاق ضرورية على طريق التسامح والشفاء، بحسب الكاتبة.

المصدر : الجزيرة + ذا كونفرسيشن

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *