موسكو– بعد أكثر من عام على بدء الحرب في أوكرانيا، أصبح الاقتصاد الروسي -وفق التصريحات والبيانات الرسمية- في وضع أفضل مما كان متوقعا في الأشهر الأولى من الحرب والعقوبات، بل إن تقديرات صندوق النقد الدولي وكل من وزارتي المالية والاقتصاد تشير إلى أن الاقتصاد سيعود إلى النمو خلال العام الحالي.
وحتى الآن، لم تتحقق التوقعات بشأن انهيار الاقتصاد الروسي، فقد كان التضخم في روسيا أقل منه في أوروبا، وفقا لما خلص إليه محللو وكالة “ريا نوفوستي” بناء على بيانات الخدمات الإحصائية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وفي العموم، ومع استمرار الحرب في أوكرانيا وبقاء الاقتصاد الروسي تحت سيف العقوبات الغربية، تحتل روسيا في الوقت الراهن المرتبة الـ50 في ترتيب الدول من حيث التضخم.
ورغم انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 2.1% عام 2022، فإن ذلك لم يضاهِ التوقعات المتشائمة الربيع الماضي، وبينما انخفض إنفاق الأسرة بنسبة 1.8% بالأسعار الثابتة، إلا أن الاستثمار في الأصول الثابتة ازداد بنسبة 5.2%.
عكس التيار
لكن تراجع سعر الروبل بشكل حاد في الآونة أمام اليورو والدولار الأميركي واليوان الصيني أثار تساؤلات عن استدامة التوقعات الإيجابية بخصوص الأوضاع الاقتصادية في البلاد، بالحد الأدنى حتى نهاية العام الحالي، وإذا ما كانت مخاطر الركود الاقتصادي لا تزال قائمة.
ففي مطلع الأسبوع الماضي، تراجع سعر صرف الروبل بشكل حاد، وفقدت العملة الروسية أكثر من 6% من قيمتها، بعد أن ارتفع سعر صرف الدولار في أثناء التداول في بورصة موسكو فوق 81 روبلا، وذلك للمرة الأولى منذ 15 أبريل/نيسان 2022. ويتم تداول العملة الروسية حاليا عند 81.43 روبلا للدولار الواحد.
وشكّل هذا الانهيار مفاجأة إذ كان يُتوقع الضعف بحلول نهاية العام.
سحابة صيف
وعلل البنك المركزي الروسي تراجع قيمة الروبل بأنه “نتيجة لملامسة نقطة القاع” في تلقي عائدات التصدير التي هبطت نفسها بداية العام، لكنه أكد أن ديناميكيات استعادة قوته ستكون أكثر سلاسة.
وهذا ما يميل إليه أغلب خبراء الاقتصاد الروس، بأن الانخفاض الحالي في الروبل يرجع إلى النقص في تدفق العملات الأجنبية إلى البلاد وانخفاض عائدات النفط والغاز، ويعربون عن ثقتهم بأن الأشهر المقبلة ستشهد تحسن الوضع مع تدفق العملات الأجنبية على خلفية تكيّف الاقتصاد الروسي ومصدري السلع الأساسية مع العقوبات الخارجية.
وإلى جانب هذه الأسباب، يضيف الخبير الاقتصادي فيكتور لاشون -في حديث للجزيرة نت- عوامل أخرى، ومن بينها تراجع أسعار النفط، والمضاربات في سوق العملات الأجنبية، والزيادة الحادة في الإنفاق في الميزانية، وعدم ثبات الوضع في ميزان المدفوعات.
ورغم أن قوة العملة الوطنية تزداد نهاية كل شهر -حسب لاشون- عندما يبيع المصدرون العملات الأجنبية خلال الفترة الضريبية ويبدأ اتجاه تصحيح سعر الروبل، فإن ذلك لا يلغي في كل الأحوال وجود تحديات قد يؤدي تأثيرها طويل الأجل إلى الحد من الأمن الاقتصادي لروسيا بشكل عام، ويجعله عرضة للتحديات الخارجية، ويضعف بشكل كبير من موقعه على المسرح العالمي.
ومن بين أهم هذه التهديدات -وفقا للمتحدث ذاته- انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، والاعتماد الكبير على قطاع الطاقة، والتخلف التكنولوجي للقطاع الصناعي، ونقص الاستثمارات، وتدفق رأس المال إلى الخارج، وانخفاض الابتكارات وعدم التوازن في نظام الميزانية، والمستوى العالي من التمايز بين الأقاليم.
حالة عدم يقين
ويتابع لاشون أنه حتى مع أفضل سيناريوهات استقرار سعر العملة، فإن احتمالات حصول تدهور في وضع الطبقة الوسطى والرفاهية الاجتماعية والنفسية عموما للسكان ستبقى قائمة، حتى تستكمل الدولة إجراءات مواجهة الأزمة وتداعيات العقوبات، وعلى رأسها تأمين البديل المتمثل في “الأسواق الصديقة”.
وحسب رأيه، لا يزال الاقتصاد المحلي يتحمل ضغوط العقوبات في عدد من المؤشرات، وإن لم يشعر السكان بتأثيرها بالكامل بعد. ويلفت إلى أنه مع استمرار انخفاض معدل البطالة الإجمالي، فمن المرجح أن يستمر سوق العمل في التكيّف بسبب التغيرات في الأجور وساعات العمل، ولكن قد تكون لها آثار ملموسة مع ذلك على دخل الأسرة ومخاطر الفقر.
تراجع غير متوقع للروبل
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي سيرغي أرتيسيان أن الانخفاض الحاد لسعر الروبل لم يكن متوقعا، فعلى الرغم من الضعف المتوقع للروبل نهاية عام 2022 بسبب دخول حظر النفط الأوروبي حيز التنفيذ، فإن خسارة أكثر من 6% من سعر الروبل خلال يومين فقط فاجأت السوق.
وحسب قوله، يكمن السبب الأساسي في الزيادة الحادة في الواردات مقابل الانخفاض الملموس في حجم الصادرات، التي كان النمو الاقتصادي على مدى السنوات العشر الماضية يتحدد فعليا بمعدل زيادتها.
ويضيف أنه، على مدى السنوات المقبلة، 10 إلى 15 سنة، يمكن تثبيت معدل نمو الاقتصاد الروسي عند مستوى منخفض للغاية نحو 1% سنويا، وفق رأيه.
في الوقت نفسه، يلفت إلى تأثير العوامل الجيوسياسية ( العقوبات والحرب في أوكرانيا) التي أدت إلى تسريع بداية فترة انخفاض معدلات النمو.
ويحذر أرتيسيان من أنه رغم أن الضعف الحالي للعملة الروسية له طبيعة مضاربة، فإنه قد يؤدي مع مرور الوقت إلى زيادة أسعار السلع الأساسية وغيرها من الخدمات، مع ما يمكن أن ينجم عن ذلك من عدم رضا اجتماعي.