في مدينة “الإسكندرية” الساحلية بشمال مصر، كان المارة يحفظون عن ظهر قلب مشهدا متكررا طوال الصيف، إذ يظهر شاب يحمل جهاز كاسيت ذي حجم متوسط ويرقص ويغني على أنغام الموسيقى الهندية المنبعثة من الكاسيت.
وكان “جمال الدولي” يغني مع أميتاب باتشان ويرقص معه، وكان هو التعبير الأبرز عن الظاهرة الهندية بمصر، حيث انتشرت أفلام ” الماسالا”، وهو اللقب الذي يطلق على الأفلام التجارية، وحظيت بإقبال جماهيري كبير في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وبلغ الإقبال عليها حد الهوس من قبل شباب مثل الإسكندري “جمال”، والذي اختفى كما ظهر، وكانت تلك علامة على انحسار جمهور السينما الهندية في مصر.
وحتى سنوات قليلة مضت كان الجمهور المغربي يحمل الشغف نفسه تجاه السينما الهندية التجارية، بدون شروط، لكن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاع الأصوات النقدية والجماهيرية والتي بلغت أحيانا حد السخرية من تلك المبالغات والميلودراما التي تتميز بها سينما “البهارات” أو “الماسالا”.
وبين المغرب ومصر وغيرها من الدول العربية، كان الفيلم الميلودرامي “من أجل ولدي” هو القاسم المشترك في العشق، وتبعه الحب الكبير للممثل “أميتاب باتشان” الذي يتربع في قلوب البقية الباقية من عشاق السينما الهندية.
ولعل السمات المشتركة بين جماهير الشرق هي التي جعلت من الجمهور العربي عاشقا لذلك النوع من السينما، وخاصة تلك “العاطفية” الغالبة، لكن العديد من السمات أيضا دفعت بذلك الجمهور إلى تلك الأفلام، وخاصة جمهور الطبقات الشعبية والفقيرة منها تلك الرغبة في حجب الواقع والعيش في الأحلام.
تناقضات
وتحفل شبه القارة الهندية بأكبر قدر من التناقضات في العالم داخل دولة واحدة، وكما تحتوي على تقدم تقني كبير في مجال التكنولوجيا والاتصالات، فإنها تشمل أسوأ حالات الفقر والتخلف الاجتماعي في العالم. وتعاني الهند -مثل الدول العربية- من آثار تاريخ طويل من الاحتلال واستنزاف الموارد والعزلة، أدت في النهاية إلى حالة بؤس كامنة في أعماق المجتمع.
وجاءت تلك السينما لتشكل ملامح ملجأ أو مهرب للمواطن الهندي الذي انقطعت به السبل، فقرر أن يدخل إلى صالة العرض السينمائي، فينتقم ممن ظلمه، ويصبح مليونيرا في غمضة عين، ويتزوج من يحبها وسط تصفيق وغناء وألوان ربيعية فاقعة.
وتبلغ نسبة البطالة في شبه القارة الهندية نحو 8% من إجمالي القادرين على العمل في الدولة التي يفوق عدد سكانها مليار و400 مليون نسمة، وتشير الكثير من البيانات إلى أن أكثر من ثلثي سكان الهند يعانون من الفقر.
ووفقا لأحدث تقرير صادر عن مؤسسة “قرى الأطفال إس أو إس” (SOS children’s villages) فإن 68% من سكان الهند فقراء، ويجنون أقل من دولارين في اليوم. كما أن هناك أكثر من 30% من السكان يجنون أقل من 1.25 دولار يوميا، وهم يعدون من الفئة الأشد فقرا ويعيشون تحت خط الفقر.
وتعمل الأفلام الهندية -وخاصة أفلام “الماسالا” التجارية- كمسكن لآلام الواقع، وهو واحد من العديد من الأنواع السينمائية التي يتم إنتاجها في الهند. وتقدم الأفلام بأكثر من 5 لغات، ويبلغ عدد مراكز صناعة الأفلام نحو 22 مركزا في الولايات الهندية المختلفة، لكن الأكبر والأشهر بينها هي مدينة “مومباي”، وتضم الهند 28 ولاية و8 أقاليم اتحادية. وتنقسم الولايات والأقاليم الاتحادية إلى مزيد من المقاطعات وإلى المزيد من التقسيمات الإدارية الأصغر.
اللامعقول
ورغم امتداد جماهيرية الأفلام الهندية واتساع رقعة جمهورها في السنوات الـ20 الأخيرة، ومحاولات منتجي هوليود للاستفادة من الإيرادات المهولة للسينما الهندية، فإن الأخيرة لم تتخلص من تلك المبالغات المتعلقة بالإغراق في الميلودراما واللامعقول في أفلام الحركة (الأكشن)، والذي يتجاوز فكرة “السوبر هيرو” في السينما الأميركية إلى ما يمكن أن نطلق عليه “الوهم”، فلا توجد قوانين في الفيزياء ولا في العقل تمكننا من تخيل شخص -مهما بلغت قوته- يحمل سيارة بيد واحدة، أو يتلقى عشرات الطلقات، ثم يقفز ليطيح بـ7 أشخاص بركلة.
وفي فيلم وثائقي أخرجه فاذال وياسمين كيداوي عام 2020عن تاريخ السنيما الهندية، يفسر النجم الأشهر شاروخان الأمر قائلا “الأسرة الهندية تشاهد الأفلام بشكل جماعي، بمعنى أنها تجتمع حول الشاشة، وبالتالي يعتقد صانع العمل أن لديه أعمارا مختلفة يجب أن يرضيها، ويجعلها مستمتعة بالعمل، وهذا يعني أيضا مساحة عمرية قد تتراوح بين 6 و96 عاما”، ويضيف قائلا “لم يقل أحد إن بوليود تقدم نوعا معينا من الأفلام، بل لدينا أماكن لصناعة كل أنواع الأفلام، ولدينا واحدة من أقدم صناعات السينما في العالم”.
أما “جافيد أختر” كاتب السيناريو الأشهر في بوليود، فيشير إلى أن ” الماسالا” أو السينما التجارية الهندية، لم يتم ابتكارها من قبل الصناع المعاصرين، ولكنها ميراث من أسلوب “الناوتانكي” المسرحي والذي يعود إلى مئات السنين، بالإضافة إلى المسرحيات السنسكريتية منذ آلاف السنين، مثل مسرحية “شاكونتلام” و”مريشكاتيا” أي العربة الطينية الصغيرة، وقد ورث المسرح الهندي تلك التقاليد و”حين بدأنا في إنتاج الأفلام لم يكن لدينا أي ارتباك، وجاء أول فيلم سينمائي هندي ناطق محتويا على 50 أغنية”.
ويضيف الممثل الشهير عرفان خان أن الدراما هي التي أضيفت إلى الغناء والرقص والموسيقى لتصبح النتيجة النهائية أفلاما، وتبلور الطريقة الهندية في رواية القصص.
صورة المسلم
ولأن السينما مرآة للطبيعة متعددة الأبعاد لشبه القارة الهندية، سواء كان ذلك في تصويرها للثقافة الهندية، أو المجتمع، أو الطوائف، أو الطبقات، أو السياسة، أو الفن، أو الدين. ورغم نمو السينما الهندية كمشروع تجاري بمعزل عن الحكومات المتعاقبة، فإن الأجندة السياسية وجدت طريقها إلى الشاشة عبر الأفلام، خاصة في المساحات المرتبطة بصورة المسلم في أوقات اشتداد الصراع بين الهند وباكستان، وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقدمت المسلم كإرهابي في عدد من الأفلام، وكانت الأقليات وخاصة المسلمين، يتم تقديم أفرادها كجواسيس أو خونة أو مهربين.
في المقابل، شهدت السينما التجارية الهندية ثورة قادها النجم عامر خان، وذلك عبر تقديم أفلام أقل مبالغة وأكثر منطقية، شهدت محاولات لتصحيح صورة المسلم بأفلام مثل “اسمي خان” و”دولة” وغيرها، خاصة في ظل وجود نسبة ليست بالقليلة من المسلمين تعمل في مجال السينما الهندية.
وتعد بوليود “سينما الشمال الهندي” الأشهر بين مراكز صناعة السينما الهندية، لكن أنواعا أخرى من السينما في مختلف مناطق الهند شهدت صعودا، وقدمت إنتاجا مختلفا نوعيا يتميز بالبعد عما هو مألوف من قيم تجارية تعمل كمخدرات لتسكين آلام الفقراء، فتناولت قضايا حقيقية ولم تتجاهل البعد الترفيهي، ومنها السينما التاميلية والتيلجو وغيرها، وتنطلق التسمية من لغة المنطقة التي يتم إنتاج الأفلام فيها، لكن التجربة الأبرز جاءت من خلال السينما البنغالية ورائدها المخرج “ساتيا جيت راي” الذي انطلق لمعالجة قضايا الواقع وحصل على تقدير عالمي واتهامات من قبل النقاد المحليين بالمتاجرة في فقراء الهند.