الشعور بتهديد الهوية.. كيف يحافظ مسلمو أميركا على قيم أطفالهم؟
“إذا أردتَ الالتزام بتعاليم دينك، فعليك أن تُخالفَ العالم. اليوم، لم يعد بإمكانك أن تقول أن ثمّة رجل، وامرأة، وهذا ضرب من الجنون”.
لم يكن النص الوارد أعلاه لشيخ دين على أحد المنابر في بلد مسلم، ولا داخل أحد مساجد الولايات المتحدة، بل جاء على لسان مذيع في إذاعة إنجيلية محلية بولاية كانساس الأميركية، وهي ولاية ريفية تقع في منتصف الولايات المتحدة، ويكثر فيها المزارعون والأميركيون الذين عادةً ما يُصوِّتون للحزب الجمهوري في العقدين الأخيرين.
أما ما تلا الاقتباس فكان انتقالا لقضية أخرى، مختلفة في موضوعها، لكنها متشابكة من حيث تأثيرها على المسلمين في أميركا. إذ أشار المذيع مباشرةً إلى أن “الأميركيين يجب أن يزيلوا مجموعة الشيوعيين الذي يديرون البيت الأبيض، وأن يعيدوا أميركا لأهلها، حتى لا تكون مرتعًا للمهاجرين”.
فما بين القضية الأولى المتصلة بالمثلية الجنسية وتشعبات الهويات الجنسية التي باتت منتشرةً في الولايات المتحدة والتي تستند في جوهرها إلى شيوع الفكر الفرداني الذي يعزز من الذات الفردية على حساب القيم الدينية والمجتمعية، والثانية التي تتصل بمنع الهجرة، وتصاعد الخطاب اليميني في الولايات المتحدة وهو الخطاب الذي يرسخ من فكرة الآخر، الذي يمثل على مستوى الثقافة تعبيرا عن أقلية ستبقى كذلك حتى لو امتلكت قانونا حق المواطنة.
بينهما، يقف المسلمون في أميركا أمام تحديات متزايدة، على مستوى القيم والهوية، وهي ما دفعتهم لاتخاذ عدد من التدابير المجتمعية لمواجهة سيل التحديات المتنامي، لهم ولأبنائهم وللأجيال التالية.
المسجد
تتميز المساجد في الولايات المتحدة الأميركية بالخصوص، وعدد من الدول الغربية عموما، باعتبارها المحطة المركزية للمسلمين في حياتهم، فهي ليست مكانا يقتصر على إقامة شعيرة الصلاة فيه كما في غالبية الدول العربية، بل كثيرا ما يكون مكانا لإقامة عقود الزواج، وإجراء الأنشطة الاجتماعية للجالية المسلمة على اختلاف شرائحهم، كما تُقام فيها دروس ومحاضرات دينية دورية، وقد وصفها الدكتور أمجد قورشة في مقابلة له على الجزيرة باعتبارها مجتمعا مصغرا.
كما أن كثيرا من المساجد التي تبدأ صغيرة الحجم، ثم تبدأ في توسعة أنشطتها إثر تنامي الجالية في المناطق المحيطة بالمسجد، إنما تحرص على بناء صالة متعددة الاستخدامات بجوار المسجد، وفيها تقام العديد من الأنشطة، ليس ابتداء من كونها مساحة ترفيه لكافة الأطفال والشباب المسلم في الجالية لإقامة الأنشطة الرياضية، وليس انتهاء بكونها صالة يمكن حجزها لإعداد الولائم، كما حدث في إفطار شهر رمضان كما فصلنا في تقرير سابق أُعد خلال شهر رمضان الفائت، أو حتى حين إقامة عقد قران.
وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 3 آلاف مسجد موزعة على مختلف الولايات، كما أن أعداد المساجد تزداد عاما بعد آخر، مع اتساع حضور المسلمين وانتشارهم، وهي مساجد تقوم بالأساس على دعم وتبرعات أبناء المجتمع في المنطقة المُعاش فيها، وبالتالي فهي تخدم أبناء ذاك المجتمع باحتياجاته المتعددة، ومنها تفاعل المسجد مع تلك التحديات المحيطة، مثلا، يقيم المركز الإسلامي في ولاية كانساس فعاليتين أسبوعيا على مدار العام، واحدة باسم أكاديمية السبت، والأخرى أكاديمية الأحد، وفيها تُروى قصص السيرة النبوية، وقصص الأنبياء، وتعلّم التجويد وتلاوة القرآن، والأحاديث النبوية، وغيرها من الأنشطة والفعاليات والزيارات الميدانية التي ينظمها المسجد، والتي تسعى لربط أبناء المجتمع المسلم بدينهم أولا وبالمسجد ثانيا وبأن تتشكل دائرة الأصدقاء القريبة من داخل المسجد.
المدارس الإسلامية
وفي العقد الأخير، برزت أهمية المدارس الإسلامية بصورة غير مسبوقة في الولايات المتحدة، خاصة مع تتامي ظهور تأثيرات قضايا الهويات الجنسية في المدارس العامة، سواء بدخولها في مناهج التعليم بعدد من المقاطعات، أو عبر انتشار هذه الثقافة على شريحة الطلبة، ومن ثم تزايد فرص تأثيرها الواسع على عموم الطلاب.
ففي أميركا، ليس ثمّة منهج مركزي يعمم على كافة الولايات، ولا حتى داخل الولاية الواحدة، بل يعود القرار للمقاطعة التي بيدها قرار إدخال مسائل الهويات الجنسية في مناهج التعليم. ويتأثر ذلك بالانتخابات المحلية التي قد تُفرز ممثلا يدعم هذه القضايا ويحرص على تضمينها داخل مناهج التعليم في المقاطعة.
فالمدرسة هي الصورة الأكثر تكثيفا للمجتمع وثقافته، خاصة وأن المدرسة في الولايات المتحدة تعمل باستمرار على تعزيز فكرة فردانية الطفل وتشجيعه على اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحته حتى لو خالف ذلك قيم الأسرة، مما يتنافى مع رغبات وتطلعات الأسر المسلمة. وتحت إلحاح الحاجة، بدأت عدد من العائلات المسلمة توجيه أبنائها للدراسة في المدارس الإسلامية، مع التوجه نحو توسيع هذه التجربة ودعمها.
وتقول صبا حمودة، مديرة المدرسة الإسلامية في مدينة كانساس الكبرى في حديث للجزيرة نت إن هذا العام الدراسي شهد زيادة غير مسبوقة في معدلات التسجيل حتى وصل عدد الطلاب في المدرسة اليوم لـ400 طالب، نظرا للتحديات المتزايدة التي تواجه الطلبة المسلمين في المدارس العامة. وتضيف أن المدرسة لم تستطع استيعاب كافة طلبات التسجيل نظرا لمحدودية مقاعد الدراسة.
لكن ثمة تحديات تخص هذا الشأن، فتجربة المدارس الإسلامية ما زالت ناشئة، سواء على مستوى جودة المناهج، وكذا جودة المعلمين، وجودة المرافق التعليمية، وهو ما يتطلب من المجتمع المسلم بذل جهود أكبر لتطوير هذه التجربة. في ولاية كانساس، يسعى المركز الإسلامي في كانساس سيتي إلى إقامة مشروع الهداية، ويضم هذا المشروع مدرسة إسلامية، ومسجدا، وصالة ترفيه تخدم أبناء المجتمع المسلم في تلك الولاية، بموازنة تقدر بـ10 ملايين دولار، جُمع منها حتى الآن 2.5 مليون دولار.
وتعد مدينة دالاس في ولاية تكساس، ومدينة شيكاغو في ولاية إلينوي، النماذج الأكثر تقدما بهذا الشأن نظرا لاتساع الجالية هناك، وتزايد عدد المشاريع التي تخدم المجتمع المسلم. في حين يمكن ملاحظة اتساع هذا الاهتمام بإنشاء المدارس الإسلامية وتقوية تجربتها في عموم الولايات.
التعليم المنزلي
يعد التعليم المنزلي أحد الحلول التي لجأ إليها عدد من الآباء والأمهات المسلمين لإخراج أبنائهم من أجواء الاحتكاك المباشر بالمدارس العامة في الولايات المتحدة، خاصة أن كثيرا من المدارس الإسلامية لم تنضج تجربتها بعد على مستوى جودة المناهج، كما أن محدودية أعداد القبول في ظل اتساع الجالية يُبرز تحديا آخر في قدرة المدارس الإسلامية على استيعاب الطلب المتزايد للتسجيل فيها.
لذا، يلجأ عدد من الأهالي للتعليم المنزلي، وبذلك يتفادون التحدي الأكبر بالنسبة لهم، وهو الاختلاط ببيئة المدارس العامة، وفي الوقت ذاته يحصلون على جودة تعليم مرتفعة المستوى. وما يميز تجربة التعليم المنزلي في أميركا بالمقارنة مع عدد التجارب في مناطق أخرى من العالم، هو أن المناهج التعليمية معترف بها رسميا بالولايات المتحدة، مما لا يؤثر على فرص الطالب التعليمية في إكمال دراسته الجامعية في أي تخصص يريد، طالما استوفى الطالب نظام التقييم المعتمد في المدرسة والمعترف به في عموم الولايات.
وبهذا السياق، قابلنا نور، وهي طفلة عمرها 13 عاما، اتجهت والدتها لخيار التعليم المنزلي منذ كانت في المرحلة الرابعة (ابتدائي) نظرا لقلقها الشديد من الثقافة التي بدأت ابنتها بالتأثر بها، وتشير والدة نور للجزيرة نت أن قلقها كان بالأساس من ثقافة المدرسة وثقافة الأطفال داخلها أكثر من المنهج التعليمي، وتضيف أن التعليم المنزلي حقق لابنتها الحصول على جودة تعليم مرتفعة مع تجنب المخاطر الثقافية التي يمكن أن تتأثر بها من المدرسة. تقول نور للجزيرة نت إن أول سنة كانت صعبة، لكنها اعتادت على نظام التعليم عن بُعد.
ويحرص أهالي الأطفال الذين يدرسون في المنزل، على انتظام حضورهم لأنشطة المسجد المنتظمة واختلاطهم بأقرانهم، وذلك لتعويض الجانب الاجتماعي الذي تلعب فيه المدرسة دورا هاما في تشكيل شخصية الطفل وقدرته على التفاعل الاجتماعي.
المشاركة في الفعاليات الجماعية لقضايا المسلمين
برز حضور الجالية المسلمة مؤخرا في المظاهرات التي امتدت في كافة الولايات الأميركية لمناصرة القضية الفلسطينية والتنديد بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بشكل واضح. فلا تكاد تمر إجازة نهاية الأسبوع إلا ويكون هناك فعالية أو مظاهرة للتنديد بالحرب الإسرائيلية، والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار.
أما في واشنطن مثلا، فقد أقامت مجموعة من المسلمين هناك مظاهرات يومية خلال شهر رمضان أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وقد استطاعت تلك المظاهرات تحديدا استقطاب عدد من الناشطين والمتضامنين مع القضية الفلسطينية من خارج العاصمة واشنطن، فقد جاءها أشخاص من بوسطن، مينيسوتا، كانساس، تكساس، ميشيغان، وغيرها الكثير من الولايات.
هذه المظاهرات يرى فيها كثير من الآباء والأمهات فرصة هامة لتعزيز مفاهيم الانتماء لقضايا المسلمين، والتضامن معهم، والاهتمام بأخبارهم وما يجري لهم. تقول ليلى، وهي طفلة في الـ11 من عمرها، إنها تحضر المظاهرات بانتظام، وإن والدها يحرص على اصطحابها هي وشقيقها الصغرى لكل فعالية تضامن مع فلسطين. وتضيف ليلى للجزيرة نت: أنها كانت سعيدة بإمساكها مكبر الصوت ومشاركتها الهتاف مع المتظاهرين.
ففي عموم الفعاليات التي تنتشر عبر الولايات، يُلاحظ الحضور الواسع للأطفال في الفعاليات، فيما يقول فراس عطا للجزيرة نت، إنه يحرص دائما على إحضار أطفاله ليعزز من قيم التضامن لديهم مع القضايا التي تتصل بدينهم وثقافتهم.
المنزل
يعد المنزل أحد الركائز الأساسية لتنشئة الطفل، سواء كان ذلك في الغرب، أو في البلاد العربية والإسلامية كما ذكر أمجد قورشة في مقابلة له على الجزيرة، لكنها تأخذ شكلا أكثر تكثيفا في الغرب، فالاهتمام بتفاصيل حياة الطفل تظهر كأمر مركزي في تنشئته. لذا، تأخذ عدد من العائلات ما يمكن وصفه بالتدابير الوقائية، مثل منع الحديث باللغة الإنجليزية داخل المنزل، وإشراك أبنائهم في دروس لتعلم اللغة العربية والقرآن عبر الدروس التي تتم عبر الإنترنت.
تقول أم الحارث للجزيرة نت إنها تحرص على ترغيب أبنائها بالدين بكل وسيلة متاحة، وتضيف أن دور الآباء والأمهات في الغرب يزداد لأن ثقافة المجتمع الخارجي تختلف جوهريا عن ثقافتنا المسلمة، مما يزيد من الحرص على تعزيز القيم الدينية لدى أطفالنا منذ سن مبكرة حتى تكون وقاية لهم حين الكبر، حدّ وصفها.