الياسمينة.. معركة الحسم يسطرها “العرين” وتحكيها جدران نابلس القديمة
نابلس- من هناك ومن بين بيوت حارة “القريون” المتلاصقة وعبر أزقتها الضيقة، سارع محمد حرز الله (أبو حمدي) الخطى نحو رفاقه في حارة الياسمينة، الذين كانت تحاصرهم قوات كبيرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتمطرهم بالرصاص والقنابل المتفجرة لتقضي عليهم وتنفذ أول عملية اغتيال مباشر ضد مجموعة “عرين الأسود” المقاومة.
وصفت تلك العملية العسكرية في ليلة 24 يوليو/تموز الماضي بأنها الأعنف والأطول منذ عام 2002 حينما نفّذ الاحتلال الإسرائيلي اجتياحه لمدينة نابلس وبلدتها القديمة على وجه الخصوص، وكانت “الياسمينة” واحدة من حارات البلدة القديمة الست التي استهدفها الاحتلال آنذاك ولا يزال.
وببسالة دافع أبو حمدي (30 عاما) عن عرينه في حارة الياسمينة، وغدا أول مصاب يقطر دمه فداء له، ليلحق -بعد 4 أشهر من إصابته الخطيرة في الرأس وبالتحديد في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي- بركب الشهداء، ولا سيما رفيقاه عبد الرحمن صُبح ومحمد العزيزي (أبو صالح) اللذان استشهدا في تلك الليلة، ويكون بذلك آخر شهداء العرين حتى الآن.
وإن ودّعت الياسمينة أبو حمدي وبعض رفاقه فإنها لم تودع المقاومة، وكذلك تفعل جاراتها من الحارات الست في البلدة القديمة؛ القريون والغرب والقيسارية والعقبة والحبلة، وهذا ديدنها، يقول ذلك كل من عرفها ومرَّ بين أزقتها.
العرين يجدد العهد
وثمة فصل جديد من المقاومة الفلسطينية المسلحة تشكل عبر مجموعة “عرين الأسود” التي اتخذت من البلدة القديمة بنابلس، ولا سيما حارة الياسمينة، مقرا لها، وضمت مقاومين من كل حاراتها وحتى القرى والمخيمات المحيطة.
والتاريخ أيضا يؤكد المقاومة قولا وفعلا في البلدة القديمة، ويعيد لعام 1936 مشاركتها في أحداث الثورة الفلسطينية، ثم عام 1967 واتخاذ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) من أحد أحواشها (حوش العطعوط) مقرا له وللمقاومة.
وبهذا الحوش أيضا كانت معركة العرين الأخيرة قبل 40 يوما، والتي لم تقل عنفا عن سابقاتها، حيث استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي وديع الحوح أحد قادة العرين، واغتالته بطائرة مسيّرة انفجرت بمنزله الذي لم تجرؤ على اقتحامه.
ومع انتفاضة الحجارة (الانتفاضة الأولى) عام 1987، وانطلاق مجموعات النسر الأحمر (الجناح العسكري للجبهة الشعبية)، والفهد الأسود (الجناح المسلح لحركة التحرير الوطني- فتح)، واتخاذها من قصر حسين عبد الهادي (أحد المعالم التاريخية في الياسمينة) مركزا عُرف باسم “المحكمة” لمحاكمة العملاء المتخابرين مع الاحتلال الإسرائيلي؛ شكلت “المحكمة” فصلا مهما في مقاومة حارة الياسمينة حينئذ، وفق الباحث بشؤون البلدة القديمة جهاد التكروري، لتتجلى هذه الروح الثورية لاحقا لدى شبانها من الحارات الأخرى في انتفاضة الأقصى عام 2000، واحتضانها للمقاومين من كل مكان، وامتدادها اليوم عبر “عرين الأسود”.
وهكذا ظلت البلدة القديمة بنابلس -بحاراتها المختلفة لا سيما الياسمينة- تشكل حصنا منيعا للمقاومين، ولأسباب كثيرة -خاصة جغرافيتها واتصالاها بالأحياء الأخرى وبناءها المعماري- اتخذوها درعا لهم.
ومن هذا التحصين استمد المقاومون خبرتهم، فنصبوا الشوادر لمنع تعقّبهم عبر الطائرات الإسرائيلية المسيرة، وفي الأرض نشروا كاميرات إلكترونية لرصد أي تحرك مشبوه.
تحصين ذاتي
وتميزت الياسمينة (نسبة لزهرة الياسمين) بشكل أكبر من غيرها بالأحواش وكثرة الأزقة والقناطر الطويلة والتي يصل طول بعضها إلى 60 مترا، إضافة للبوابات الرئيسية، وتلاصق بنائها واتصاله ببعضه، فضلا عن السراديب تحت الأرض.
وارتبطت هذه الأحواش بحكايات النضال والثورة كحوش العطعوط الذي أسس به أبو عمار أولى الخلايا المسلحة لمقاومة الاحتلال آنذاك، رفقة أبو السعيد العطعوط وحسن فريتخ والناجي بعارة وغيرهم، إضافة لبيئتها الاجتماعية والسكانية الصلبة، حيث يعمل معظم أبنائها بالمقالع الحجرية (الحجَّارة) والبناء.
وكل ذلك جعل من الياسمينة ترسانة عسكرية تصدت وصمدت أمام كل توغلات الاحتلال وقصفه الذي لم يتوقف عند مجزرة عام 2002 وقتل الشقيقتين زها ورشا فريتخ، بل استمر حتى اليوم باستهدافه المقاومين فيها.
جذور ممتدة ومعالم حاضرة
وفي التاريخ تضرب الياسمينة جذورها -وفق التكروري- فهي تضم أقدم مسجد أنشئ بعد الفتح الإسلامي (الساطون)، وبها حارة السمرة وهي الطائفة الدينية الأصغر بالعالم، ومسجد الخضراء، الذي يقال إن نبي الله يعقوب حزن فيه على ابنه يوسف، عليهما السلام.
كما تعد الحمَّامات العامة -ومنها حمام السمرة الذي بني تزامنا مع إنشاء البلدة القديمة (5 آلاف عام) وتجدد في المراحل الزمنية اللاحقة- جزءا أصيلا في معالم حارة الياسمينة، وكذلك الصبانات (معامل صناعة الصابون)، إضافة للقصور التاريخية للأسر المتنفذة كقصور آل عبد الهادي.
وفوق العمارة والتاريخ والبيئة الاجتماعية، شكَّل سوق الياسمينة عماد الحارة الاقتصادي، فكان متنفسا للأهالي والمتسوقين من الخارج.
ويبلغ عدد سكان البلدة القديمة بمدينة نابلس نحو 10 آلاف نسمة، لكن الغالبية العظمى منهم هجروا أحياءها، ومنها حارة الياسمينة، بفعل الأحداث الأمنية والتوسع الطبيعي، وسكن أهالي حارة الياسمينة في محيطها الممتد، وفق ما يقول زهير الدبعي أحد مؤرخي مدينة نابلس.
وآوت عائلة هواش إليها الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) عام 1967 قبل انتقاله للقدس، واستشهد نجلها صدقي هواش خلال تصديه لجيش الاحتلال، وسميت معركة “دار هواش”، وكانت أول اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال بنابلس حينها.
بينما تزعّم تيسير هواش (أبو الشريف) مجموعة من الثوار الفلسطينيين في معركة الكرامة عام 1968، واستشهد فيها رفقة 155 فلسطينيا.
المعركة مستمرة
في الياسمينة، كما في أزقة البلدة القديمة، تشم رائحة المقاومة وترى أثرها عبر جداريات وملصقات ولوحات مضاءة تحمل أسماء الشهداء وصورهم، وهناك أيضا يحيّون المقاومين ويساندونهم بما استطاعوا من قوة.
وكذلك تبعث شعارات المقاومة التي خُطت على الجدران أملا جديدا في جيل الشباب الذين راحوا يطلبون منا التقاط صور لهم، لعلهم يغدون شهداء، تماما كتلك العبارة التي خطت أسفل صورة الشهيدين العزيزي وصُبح (الياسمينة.. معركة الحسم)، بينما تظل ألسنتهم تردد كلمات الأغنية الأشهر “وتشهد علينا حارة الياسمينة”.