بين تايوان والقارة العجوز.. هل تعثر ماكرون فوق البساط الجيوسياسي بين الصين وأميركا؟
باريس – أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن زيارته الدبلوماسية للصين جدلا واسعا في الساحة الدولية، حين تحدث عن زيادة السيادة الفرنسية والأوروبية في مواجهة الولايات المتحدة وتايوان مقابل الصين.
ودعا ماكرون الاتحاد الأوروبي إلى تقليل الاعتماد على واشنطن، محذرا من “التكيف مع الإيقاع الأميركي، ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”.
ويحاول إيمانويل ماكرون أن يسرع إنشاء “أوروبا فدرالية” أو “أوروبا للدفاع” لتأسيس جيش مشترك وقوي منذ خطابه الأول في السوربون في عام 2017.
قطب ثالث
في هذا السياق، يرى أستاذ العلوم السياسية في مدرسة ليون للأعمال توماس غينولي أن رئيس الجمهورية الفرنسية تواجهه عدة عراقيل لإقامة نواة دفاعية صلبة للقارة بسبب رفض ألمانيا المشاركة في هذا المشروع، وتودد بعض دول أوروبا الشرقية -خاصة بولندا- غير المشروط لأميركا، نظرا لإيمانها أن استقرارها الأمني متوقف على الحماية الأميركية ضد التهديد الروسي.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول غينولي إن “أوروبا بحاجة إلى سياسة الدفاع الأوروبية، لكنها في الوقت نفسه بحاجة إلى واشنطن لضمان أمن أوروبا، وهما أمران غير متوافقين”.
من ناحية أخرى، علّق الكاتب والمحلل السياسي جان بيير بيران على تصريحات ماكرون بالقول إنها “غير منطقية واختياره الخروج عن التيار الأميركي لتأسيس قطب ثالث يجب أن يُقابل بحذر شديد”.
وأضاف أن عدم تطرق ماكرون في زيارته للصين لما يحدث في المحيط الهادي “خطوة غير مفهومة، فهجوم بكين على تايوان سيعني تأثر الاقتصاد الفرنسي بالدرجة الأولى، ففرنسا تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث القوة البحرية، إذ لا تزال تحت سلطتها مناطق كثيرة في المحيط الهادي، مثل جزر ماركيساس وجزر كاليدونيا الجديدة وجزر رينيون وغيرها”.
زيارة فاشلة
على المستوى الجيوسياسي، يعتقد بيران أن الرئيس الفرنسي فشل في زيارته لأنه أضعف الموقف الأوروبي في الخارج وأضعف فرنسا داخل أوروبا، معتبرا أن فشله في زيارة رسمية بهذه الأهمية سيكون له تداعيات دبلوماسية مهمة.
بدوره، أشار المحلل السياسي المتخصص في العلاقات الدولية جيرالد أوليفيه إلى أن “فرنسا مرتبطة بشكل كبير بالاتحاد الأوروبي في معظم قراراتها الإستراتيجية، لكنها ترى الفرصة سانحة لتقديم أوروبا مستقلة بذاتها. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل ارتباط دول الاتحاد بالولايات المتحدة من خلال حلف شمال الأطلسي (ناتو)”.
ويضيف أن “ماكرون يرغب في دفاع أوروبي تحت راية فرنسية، لكن ألمانيا لن تقبل أن يكون جيشها تحت سيطرتها. وحتى الآن، فكل الدول الأوروبية تفضل الوصاية الأميركية”.
ماكرون تحت المجهر الأميركي
قرأ الأميركيون، وخاصة أعضاء الكونغرس، بيان ماكرون الذي يضع واشنطن وبكين على المستوى نفسه بأنه متناقض جملة وتفصيلا.
وفسرت الصحافة الأميركية موقف ماكرون بأنه تغيير واضح في سياسته تجاه واشنطن.
فبينما اعتبرت صحيفة “وول سترت جورنال” (The Wall Street Journal) أن الرئيس الفرنسي “يقوّض الدعم الأميركي لأوروبا ويضعف الردع ضد العدوان الصيني”، وصفت صحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times) تصريحاته بـ”اللينة تجاه بكين وتصدّ بعض الحلفاء”.
من جانبهم، صعد عدد من المسؤولين الجمهوريين وتيرة الانتقادات لرئيس الإليزيه، وقال رئيس لجنة الصين في مجلس النواب الأميركي مايك غالاغر إن تصريحات الرئيس الفرنسي كانت “محرجة وساذجة جيوسياسيا”، في حين تساءل المرشح الرئاسي السابق ماركو روبيو، عبر تغريدة عبر حسابه على تويتر، عما “إذا كان ماكرون يتحدث نيابة عن أوروبا”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى جيرالد أوليفيه أن تحويل ماكرون بوصلته نحو الصين لتحقيق المصلحة الاقتصادية والعسكرية والإستراتيجية لباريس أمرٌ مشروع.
توجس أوروبي
بدأت بوادر القلق والحذر الأوروبي من تصريحات الرئيس الفرنسي تظهر على السطح منذ عام 2019، عندما أعلن أن حلف الناتو “في حالة موت دماغي”، ثم محاولاته الحوار مع موسكو دون أي تشاور مع شركائه وجيرانه القاريين.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه الكاتب والمحلل السياسي جان بيير بيران أن ماكرون وجد فرصته الذهبية للانتقام من صفقة الغواصات مع أستراليا رغم اعتذار الرئيس الأميركي جو بايدن، فضلا عن إبراز اختلافه وتفرد سياسته، ويؤكد أيضا أن تصريحاته أحدثت شرخا في الاتفاق الأوروبي لأن باقي الزعماء لا يشاركونه الرأي نفسه.
وأشار بيران إلى أن “الرؤساء الأوروبيين يريدون تحقيق السيادة الأوروبية لكنها مسألة بعيدة المنال. فعلى سبيل المثال، ستشتري معظم الدول الأسلحة من خارج أوروبا، بما في ذلك ألمانيا وبولندا وإيطاليا، وهذا يعني عدم وجود صناعة دفاعية مشتركة. وحتى في الملف الأوكراني، توجد آراء مختلفة بين الدول الأعضاء، حتى لو كان هناك إجماع على أن روسيا تغزو بالفعل أوكرانيا”.
وتجدر الإشارة إلى أن وجود رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين رفقة ماكرون في بكين حمل دلالات عدة، بما في ذلك أن الزيارة لم تكن باسم فرنسا فقط وإنما باسم أوروبا كذلك، فضلا عن تقديم اقتصاد أوروبي قوي أمام الطموح الصيني المتزايد.
ويُعتقد أن الاستقبال البارد لدير لاين من قبل المسؤولين الصينيين -عكس ماكرون- يعود إلى خطابها الصارم تجاه بكين في مارس/آذار الماضي، عندما انتقدت بكين التي “تبدأ حقبة جديدة لتوسيع نفوذها وتغيير النظام الدولي”.
على خطى الجنرال ديغول
يبدو أن إيمانويل ماكرون يرغب في ارتداء معطف الجنرال ديغول، والتخلص من الملاءة الأميركية في مضيق تايوان، وهو ما يراه البعض تعثرا فوق البساط الجيوسياسي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي التي تشهد بوادر معركة حاسمة، قد تشكل موازين القوى السياسية والعسكرية في القرن الـ21.
ففي عام 1964، اعترف سلفه ديغول بالصين الشعبية. وبعد 60 عاما وفي فجر حرب باردة جديدة، يقدم أصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الخامسة هدية دبلوماسية على طبق من ذهب لبكين، مع دعوته لإعادة توحيد القارة الديمقراطية في آسيا بالقوة إذا لزم الأمر.
ويشبه أستاذ العلوم السياسية في مدرسة ليون للأعمال توماس غينولي موقف ماكرون بموقف ديغول تجاه الاتحاد السوفياتي، “فقد كان حليفا مخلصا لواشنطن وكان أول زعيم يعلن تضامنه معها خلال أزمة كوبا، لكنه واجه انتقادات لاذعة لأنه أقفل الباب في وجه حلف شمال الأطلسي وعزز علاقات سلمية واقتصادية مع أعداء أميركا، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي”.
لكن المحلل السياسي جان بيير بيران لا يعتقد أن ماكرون يرتدي عباءة ديغول، “أولا لأنه لا يمتلك الكاريزما نفسها، وثانيا لأن رئيس الجمهورية اليوم يؤكد أن مصالح أميركا لا تتناسب بالضرورة مع (مصالح) فرنسا وأوروبا”.
من جهة أخرى، يعتبر أوليفيه أن الاتحاد الأوروبي ليس مستعدا للتخلي عن هذا الاعتماد التاريخي على حلف الناتو واستبداله بأي استقلال ذاتي إستراتيجي على المستوى الدولي، “وهنا تكمن نقطة ضعف ماكرون، فالتأثير الحقيقي لفرنسا اليوم ليس بالحجم نفسه الذي كان عليه في عهد الجنرال ديغول”.
ويبقى هذا الجدل الجيوسياسي مفتوحا للنقاش، فهناك من سيعتبر أن بقاء فرنسا تحت المظلة الأميركية -باعتبارها قائد العالم الحالي- يصب في مصلحتها، في حين يرى آخرون، وأغلبيتهم من اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، أن فرنسا يجب أن تتخلص من تبعيتها لأميركا، وتبحث عن حلفاء جدد مثل روسيا والصين.
وهناك فئة ثالثة تعتقد أن على فرنسا الحفاظ على صداقتها مع واشنطن في كتلة حلف الناتو، وعلى موقفها المحايد في المناطق التي تتنازع عليها القوى الكبرى للتركيز على استقلالية أوروبا. وهذا ما يأمل ماكرون تحقيقه، وسبقه في ذلك تاريخيا ديغول وميتران أيضا.
المصلح الفرنسي والأوروبي
وقد نالت زيارة الرئيس الفرنسي إلى الصين حصتها من الانتقادات داخليا أيضا، لأنها أتت في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اجتماعية واقتصادية بسبب قانون إصلاح نظام المعاشات الذي صادق عليه المجلس الدستوري قبل أيام.
ويضم أوليفيه صوته إلى المنتقدين، قائلا إن “ماكرون يحمل أمتعته ويسافر بطائرته إلى بلد آخر متغاضيا عما يحدث ببلده لأنه يعتبر أن بعض الشؤون الخارجية أكثر أهمية من الأزمات اليومية التي تستطيع رئيسة وزرائه إليزابيث بورن التعامل معها”.
وأضاف المحلل السياسي أن “رغبة ماكرون الملحة في ارتداء قناع المصلح في فرنسا من خلال فرض قانون التقاعد على شعبه، لا يعني أنه سيكون مصلح وقائد أوروبا”.
من جانبه، يرى غينولي أن “الرئيس الفرنسي يتشبث بروح المبادرة والهجوم في الوقت نفسه منذ توليه رئاسة البلاد وبداية أزمة السترات الصفراء. وبالتالي، فإن اندلاع معركة جديدة لا توقفه في التفكير عن خوض معارك أخرى”.
ويصف ذلك بأنه “طبع إستراتيجي بالدرجة الأولى وورقة رابحة في سياسته ما دامت تعمل بشكل جيد، لكن إذا تحركت الرياح بما لا تشتهي سفنه وتوالت المعارك، فسيكون لذلك عواقب وخيمة قد لا يكون قادرا على مواجهتها”.