منذ حلقته الأولى، لفت الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” الأنظار إليه بسبب تقديمه شخصية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مباشرة، ويجسدها الفنان ياسر جلال، ليقدم لنا قصة اختيار السيسي وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي، جاذبا الأنظار بعرضه الأحداث من وجهة نظر النظام السياسي، وكاشفا مقاطع فيديو حقيقية مسجلة تعرض لأول مرة لأهم الشخصيات السياسية في تلك الفترة الزمنية.
في “الاختيار 3″، يجتمع 4 من أبرز نجوم السينما والدراما المصرية: أحمد عز، وأحمد السقا، وكريم عبد العزيز، مع ياسر جلال (في دور الرئيس)، بالإضافة إلى تجسيد شخصيات سياسية شهيرة أبرزها الرئيس الأسبق محمد مرسي (الفنان صبري فواز) وقيادات جماعة الإخوان المسلمين.
تمتزج المشاهد الدرامية بمقاطع أرشيفية مختلفة، وكأننا أمام مسلسل وثائقي يعتمد على إعادة تمثيل أحداث شهيرة، فلا يقطع ذلك التسلسل التاريخي الوثائقي سوى مشاهد ضباط الشرطة والمخابرات مع أسرهم وزوجاتهم، حتى يقترب المسلسل من المشاهد ويصدق حقا أنه “مسلسل درامي” وليس عملا وثائقيا يطرح وجهة نظر صناعه في الأحداث التاريخية التي عاصرها الجمهور قبل سنوات.
العائدون
كما يعرض أيضا في رمضان الحالي مسلسل “العائدون”، من إخراج أحمد نادر جلال وتأليف باهر دويدار، ويستمر بطله أمير كرارة (نجم الجزء الأول من الاختيار) في دور الضابط، بعد أن قدم دور الضابط أحمد المنسي في الجزء الأول من الاختيار (2020) والضابط سليم الأنصاري في مسلسل “كلبش” (2017-2019).
في “العائدون” يلاحق الضابط تنظيم الدولة الإسلامية، ونصطدم منذ الحلقات الأولى بكشف عميل المخابرات المصرية حسين داخل التنظيم، ليتم حرقه حيا عقابا له من قبل رجال التنظيم.
القوة الناعمة
تقول جريدة أخبار اليوم الرسمية إن الدراما الوطنية أصبحت أحد اهتمامات المشاهد المصري والعربي، إذ أيقن صناع الدراما أهمية هذه الأعمال التى غابت عن الشاشة لسنوات عديدة، كان يهرب فيها المنتجون من تقديم هذه النوعية من الأعمال بحجة ضعف التسويق.
لكن نجاح “الاختيار” أعاد للدراما السياسية قوتها الناعمة، وأصبحت محور بحث المنتجين والممثلين، والجمهور أيضا، وهو الحلقة الأهم في هذه المعادلة، على حد وصف أخبار اليوم.
السيسي والدراما
للعام الثالث على التوالي، تستمر السلطة في إنتاج المسلسلات “السياسية” بدعم مباشر من أجهزة الدولة لتخاطب جمهورها العريض خلال موسم شهر رمضان الأكثر متابعة.
وقبل أسابيع انتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي فيلم “الإرهاب والكباب” خلال فعاليات إطلاق المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية لأنه جعل البلد خصما، لكنه أشاد في مناسبات سابقة بفيلم “الممر” (2019) الذي يتناول حرب الاستنزاف، ومدح أداء الفنان محمد فراج قائلا إنه عبّر عن شجاعة المصري الذي لا يتخاذل أمام التحدي وبعث رسالة جيدة للغاية.
وأشاد السيسي بمسلسل “الاختيار 2” العام الماضي، وقال إن الدراما تناولت أحداثا كثيرة مرت على المصريين، وأكد أن الدراما لابد أن تقدم أكثر من ذلك، وتتناول أحداثا كثيرة بعد أن تجاوزها المصريون.
معارك الوعي والتنوير
ونشرت جريدة صوت الأمة المصرية دراسة للمركز المصري للفكر والدراسات، أكدت أن ثلاثية الاختيار أهم خطوة في الحرب المعنوية ومعارك الوعي والتنوير، وقد ذهب صناع المسلسل إلى نمط “المحاكاة الوثائقية” بدلًا من الترميز من أجل تقديم الحقيقة التاريخية كاملة وترك الحكم للجمهور، بحسب الجريدة.
وأضافت الدراسة أن مسلسل الاختيار 3 تحديدا قدم “محاكاة وثائقية استثنائية” غير مسبوقة في تاريخ الفن سواء في التلفزيون أو السينما، إذ من النادر أن تسمح الإدارة الحاكمة في أي دولة بأن يتم تجسيد “رأس السلطة” في عمل درامي، فهو خط أحمر أمام حرية الإبداع حول العالم أجمع، بحسب الدراسة، باستثناءات قليلة كانت أغلبها لصالح الدعاية السياسية وليس السرد التاريخي.
وأشارت الدراسة إلى أهمية وجود أبرز ممثلي الجيل المسيطرين على الحركة الفنية اليوم في هذه الأعمال، والاستعانة بالممثل المصري البريطاني الشاب أمير المصري الحائز مؤخرا على جائزة البافتا الأسكتلندية، وأشادت بالتحدي الذي يواجهه ياسر جلال في شخصية السيسي.
سياسي صريح
وكتب الناقد محمود عبد الشكور أن “الاختيار” في جزئه الثالث عمل كبير، تصنيفه سياسي صريح، ولكنه أيضا يؤسس لطريقة جديدة تماما في المعالجة الفنية لهذه النوعية الدرامية الصعبة، لا شبيه لها وغير مسبوقة، لا في السينما ولا في التلفزيون.
ويضيف عبد الشكور -على صفحته على فيسبوك- أنه “لا مثيل للطريقة التي يمتزج بها التسجيلي والروائي، ولا مثيل لتضفير الصراع في دائرة السلطة بالتوتر والقلق في أوساط الناس، أو للطريقة التي تمتزج بها تفاصيل الأزمات السياسية التي عايشناها مع هموم الأبطال الأمنيين الثلاثة، وحياتهم الخاصة، أما رسم الأجواء العامة التي كنا شهودا عليها، بل كنا مشاركين فيها كمواطنين وصحفيين، فهو قوي ومذهل، وكذلك التجسيد الفذ للشخصيات الحقيقية”.
معركة فكرية
ورأى الإعلامي جمال الشاعر أن مصر بحاجة لمزيد من الإنتاج في “الدراما الوطنية”، لأن الدراما هي الذراع الطولى للتأثير في الناس، مشيرا إلى أن المجلس الأعلى للإعلام لا بد أن يكون له دور في وضع إستراتيجية متكاملة للدراما المصرية.
وأضاف الشاعر “نحن أمام معركة فكرية في حاجة إلى مزيد من الإنتاج في هذا الاتجاه، والصورة بشكل عام توضح أن هناك إنتاجًا دراميا متنوعا يعيدنا إلى طموحاتنا في الدراما المصرية ودورها في الحفاظ على الهوية وصناعة الوعي”.
عزوف الجماهير
في المقابل، انتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي تجسيد شخصيات لا تزال على مقاعدها، وأن ما يحدث في “الاختيار” وغيره هو تأكيد لمقولة أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، فما بالك إذا كان المنتصر لا يزال في منصبه.
ويرى هاني بشر في مقال له بالجزيرة نت أن مسلسل “الاختيار 3” يعتمد على المشاهد المسربة لرفع إيقاع الحلقات، إذ إن القصة الأصلية أكل عليها الدهر وشرب خلال 10 سنوات مضت، كما أن اللغة الخطابية المباشرة في كثير من هذه المسلسلات والتي تنحو في أحيان كثيرة نحو الاستقطاب ونزع الإنسانية عن الطرف الآخر في السيناريو والحوار، تتناقض مع البناء الدرامي الذي يعتمد على التعقيد وتشابك النزعات الإنسانية في الشخصيات.
وتنبأ بشر بأنه إذا استمر هذا النوع من الدراما على هذا المنوال، فسيحدث عزوف جماهيري، وقد بدأ بالفعل بدرجة ما مع الشرائح الشبابية التي اتجهت نحو مسلسلات المنصات الأجنبية مثل “نتفليكس” (Netflix) وغيرها أو المسلسلات التركية.
بين الواقع والخيال
خلال العقود الماضية، ارتبط الجمهور بالأعمال الدرامية الوطنية لأسباب كثيرة، ليس من بينها الدعاية المباشرة للأنظمة السياسية، وتناولها بشكل درامي يستمد قصته بالأساس “من ملفات المخابرات المصرية” (كما يظهر على تترات المسلسل)، ودون أن يعرف المشاهد الحد الفاصل بين الواقع والخيال، فيتابع العمل الدرامي كأي عمل آخر، يتعلق بشخصياته دون أن يستمع إلى حوارات طويلة شديدة المباشرة عن “الوطن” و”أعداء الوطن”، كأنه في نشرة دعائية أو برنامج تلفزيوني لأحد مذيعي السلطة.
ثم إن الأعمال الشهيرة التي حققت نجاحا شهيرا، تعمّد صناعها تغيير أسماء أبطالها تاركين للجمهور الفرصة للبحث وراء القصة الواقعية وأبطالها، فعلى سبيل المثال فإن “رأفت الهجان” (محمود عبد العزيز) هو بالأساس “رفعت الجمال”، وجمعة الشوان (عادل إمام) في مسلسل “دموع في عيون وقحة” هو “أحمد الهوان”.
والقصة قد تتشابه أو تختلف مع تفاصيل حياتهما الحقيقية، مما يجعل منها مسلسلات درامية يمتزج فيها الواقع بالخيال، ويرى فيها المشاهد قصة إنسانية ممتعة يتعلق بها ويتعاطف مع شخصياتها ويتأثر بقضيتهم الوطنية.
الإثارة والتشويق
الفارق أيضا أن هذه المسلسلات الدرامية الشهيرة تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فالقضية عربية لا خلاف عليها، والعدو فيها واضح لا لبس فيه، ويحكي قصة صراع بين أجهزة المخابرات المصرية والمخابرات المعادية في أوقات عصيبة من تاريخ الوطن.
كما قدمت هذه المسلسلات الشهيرة قصصا لا يعرف الجمهور تفاصيلها، وبالتالي لا تفتقد عناصر الإثارة والتشويق وترقب الأحداث، فينتظرها الجمهور بشغف على عكس “الاختيار” في جزئه الأخير بالذات، الذي يعرف المشاهدون تطورات أحداثه عن ظهر قلب، لكنهم يترقبون وجهة نظر صناعه في هذه الأحداث، وما قد تكشف عنه الحلقات من “تسريبات” أو “مفاجآت جديدة”، كما يصفها صنّاعه.