لم تكن مدينة بغداد العراقية، عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الدنيا فحسب، بل سبق لأرضها ضمن حدودها الإدارية اليوم، أن كانت عاصمة لـ4 إمبراطوريات عظمى حكمت العالم القديم.
عكركوف (دور كوريكالزو)
تعد مدينة (دور كوريكالزو) أو ما تعرف بـ(عكركوف) واحدة من أقدم العواصم الإمبراطورية التي انطلقت من أرض بغداد، وتقع قرب التقاء نهري دجلة وديالى غرب مركز بغداد، وتأسست من قبل ملك الكيشيين (كوريكالزو الأول) في القرن الـ14 قبل الميلاد.
ويقول الباحث المهتم بالآثار والأنثروبولوجيا حميد صبار الفهداوي، إن زقورة عكركوف هي من المواقع الأثرية المهمة في العراق، والتي شيدت قبل الميلاد وتقع على بُعد 15 كيلومترا غرب بغداد، وكانت تمثل عاصمة إمبراطورية الكيشيين.
ويبين في حديثه للجزيرة نت، أن تلك العاصمة حكمت 4 قرون، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الملك الكيشي، وتعتبر زقورة كيش من أكبر الأبراج الأثرية الموجودة في يومنا هذا، ويبلغ ارتفاعها 57 مترا.
ويوضح أن (كوريكالزو) هو الملك الـ17 للسلالة البابلية، حيث ورث الحكم عن أبيه (كادشمان هاربي الأول) وحكم في فترة 1375 ق.م، وقام ببناء مدينة عكركوف والتي عرفت في النصوص الأثرية بـ(دور كوريكالزو) نسبة له، كما أنه قام ببناء زقورة عكركوف في نفس المدينة.
ويعرف الفهداوي الكيشيين بأنهم سلالة قديمة حكمت العراق من بابل بعد انهيار دولة بابل الأولى خلال 1531 ق.م.
المدائن (سلوقيا)
تقع سلوقيا في المدائن على بُعد 40 كيلومترا (جنوب شرق بغداد)، وبناها مؤسس الأسرة الحاكمة للدولة السلوقية الإغريقية، (سلوقس الأول نيكاتور) أحد قادة جيش الإسكندر في مدينة سلوقيا سنة 312 ق.م، وحكمت الأسرة منطقة غرب آسيا خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وامتدت من تراقيا (في أوروبا) غربا وحتى الهند شرقا، وكان للسلوقيين ور كبير في تفاعل الحضارتين الإغريقية والشرقية.
ويشير أستاذ تاريخ العراق القديم الدكتور زياد المحمدي، إلى أن الملك سلوقس تمكن بعد الاستقرار أن ينشئ عددا كبيرا من المدن السلوقية أو المدن اليونانية في بلاد آسيا، وكان من بين هذه المدن مدينة سلوقيا على نهر دجلة، حيث استقر هو بمنطقة أنطاكيا في سوريا.
وقد أوعز بعد أن وسّع حدود دولته إلى تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين، قسم برئاسته وهي الغربية وكان مركزها أنطاكيا، والقسم الثاني وهي الشرقية وعاصمتها سلوقيا وجعل ابنه أنطوكيوس قائدا عليها.
ويرى أن اختيار سلوقيا لم يكن اعتباطيا، بل لكونها موقع بابل القديم، وكانت حلقة وصل للطرق التجارية ما بين مناطق الغرب، والمناطق الشرقية لذلك ازدهرت كمحطة تجارية.
وينوه المحمدي إلى أن سلوقس وعلى الرغم من أنه قائد عسكري، لكن عرف بأنه رجل سياسي محنك، وتمكن من القضاء على معظم خصومه، وحاول أن يبرز مدينة سلوقيا ويكسوها بكساء الطابع الشرقي والغربي، ولا سيما أنه اتبع السياسة التي يعتمد عليها إسكندر المقدوني في دمج الغرب والشرق، وهي ما تعرف باسم الحضارة الهلنستية.
وأما عن أبرز آثار العاصمة السلوقية، فقد تمثلت بالحي السكني والموقع التجاري والمعابد التي ضمت المدينة، إضافة إلى القصر الملكي، لكن معالمها لم تكن واضحة، بسبب تأسيس دولة لاحقة فوق أطلالها.
طيسفون (سلمان باك)
كانت مدينة طيسفون -عاصمة الساسانيين والفرثيين- قد بنيت على ضفة نهر دجلة الشرقية، وبالتحديد قرب منطقة سلمان باك والتي تقع جنوب شرق بغداد، ومن أهم آثارها الشاخصة (طاق كسرى).
ويقول أستاذ التاريخ القديم الدكتور أحمد حسين الجميلي، إن مدينة طيسفون أو طاق كسرى بناها الفرثيون (الأرشاقيون) الفرس، ثم سماها العرب المسلمون المدائن؛ لأنها مكونة من عدة مدن متجاورة.
ويبين الجميلي للجزيرة نت، أن الفرثيين حكموا بعد السلوقيين حيث سيطروا على العراق في حدود 140 ق.م، وشيدوا طيسفون عاصمة جديدة لهم مقابل سلوقيا في الضفة الشرقية من نهر دجلة.
ويؤكد الجميلي الأهمية التاريخية لمدينة طيسفون، والتي كانت تتمتع بوفرة المياه والأرض الخصبة وكثافة النخيل، كما تتميز بموقعها الإستراتيجي المؤدي إلى جنوب العراق ومياه الخليج العربي.
وينوه إلى أن منطقة طيسفون، مساحتها الزمنية والجغرافية تمتد إلى ما يقارب من 3 آلاف سنة، وكانت تحظى بأهمية سياسية وإستراتيجية، حيث اتخذت مركزا تنطلق منه العمليات العسكرية، وأضحت عاصمة شتوية للساسانيين.
دار السلام
اختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور موقع بغداد على رقعة مرتفعة من الأرض على الجانب الغربي من نهر دجلة، وبدأ العمل في بنائها سنة 145هـ/ بين عامي 762 -763م، وانتهى العمل بها في سنة 149هـ/ بين عامي 766 -767م، كما يبين أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور عثمان عبد العزيز صالح.
وفي حديثه للجزيرة نت، يشير المحمدي إلى أهمية موقعها العسكري، إذ نادى الخليفة المنصور صاحب بغداد ليسأله عن موقعها القديم، فقال له: “أنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج للعبور، وأنت قريب من البر والبحر والجبل”.
ويضيف صالح أن موقع بغداد له أهمية من الناحية الاقتصادية، فهو يقع على ملتقى الطرق التجارية البرية والمائية، إضافة إلى الأراضي الزراعية المحيطة به.
ويشير إلى أن العاصمة بغداد تحولت إلى مركز ثقافي وتجاري وفكري خلال حكم العباسيين، كما ضمت عددا من المؤسسات الأكاديمية العلمية مثل بيت الحكمة وغيره، واشتهرت المدينة عالميا وأصبحت وجهة لطلاب العلم.
واستمر حكم الدولة العباسية -بحسب صالح- لأكثر من 5 قرون، عاشت خلالها الدولة العباسية فترة من الازدهار في مختلف نواحي الحياة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وسمي العصر العباسي بالعصر الذهبي للإسلام، وبقيت بغداد عاصمة الإمبراطورية العباسية التي حكمت بلاد مصر وبلاد الشام والمغرب الإسلامي وبلاد الهند، وبلاد فارس، وغيرها من البلاد.
رمزية بغداد
بدوره، يرى الباحث في تاريخ العراق الدكتور جمال هاشم الذويب، أن اختيار المنصور لموقع مدينة بغداد كان دقيقا وصائبا، لأن هذه المدينة الكبرى ظلت قبلة العالم لمئات السنين وحتى الوقت الحالي.
ويلفت إلى أن بغداد استهدفت من قبل دول كبرى كانت بالمنطقة، والتي حرصت على الاستيلاء على بغداد لأنها كانت رمزا كبيرا في تلك الفترة.
ويعرب الذويب في حديثه للجزيرة نت عن أسفه، لأن بغداد لم تعد بتلك الأهمية والقوة، خاصة بعد الغزو الأميركي عام 2003، إذ ضعفت بغداد مثلما ضعف العراق بشكل عام.
من جانبه، شدد الدكتور عثمان صالح على ضرورة إعداد رؤية إستراتيجية جديدة لإعادة بناء بغداد وتأهيلها ضمن المتغيرات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت عليها مؤخرا.
وأضاف أن بغداد يمكن أن تعود لها بهجتها في حال التخطيط السليم لها عبر تهيئة الخدمات والنهوض بواقعها من جديد، على أن يتبنى أصحاب القرار في البلد حملة وطنية كبرى لبيان عظمة تاريخ هذه المدينة منذ تأسيسها، لتبقى في ذاكرة الناس وخاصة جيل الشباب منهم.