القاهرةـ على مدار أكثر من أسبوع، بات اسم واحد من أشهر دعاة مصر الراحلين، الشيخ محمد متولي الشعراوي، الأكثر إثارة للجدل عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وسط اتهامات متبادلة واستدعاء معارك فكرية وتاريخية، وتساؤلات عن الأسباب والتوقيت، وعلاقة كل ذلك بالأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي يعاني منها المصريون.
وتجلى ذلك مؤخرا في جدل جرى بشأن الإعلان عن أمسية مسرحية عن الشعراوي (1911- 1998) ضمن سلسلة أمسيات تتناول رموز مصر عبر التاريخ، وهو ما فجر موجة رفض من إعلاميين وكتاب وصفوا الداعية المحبوب من أغلب المصريين بأنه كان يتبنى بعض الآراء “الظلامية والرجعية”.
كما كشف الجدل -برأي مراقبين- نوعا من التناقض في مواقف مثقفين ودعاة تنوير تجاه قضية حرية التعبير والإبداع.
وكان مقرراً أن تُعرض الأمسية في رمضان المقبل، ليجسد شخصية الشعراوي الممثل كمال أبورية الذي اضطر لإعلان اعتذاره عن العمل بعد الضجة المثارة، في حين اعتبرت وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني أن الشعراوي بالفعل “عليه تحفظات كثيرة” مؤكدة أنه لابد من أن يكون للشخصيات المختارة “أثر إيجابي تنويري لمكافحة الفكر المتطرف”. كما تقدمت البرلمانية فريدة الشوباشي بطلب إحاطة للوزيرة بشأن الأمسية المسرحية.
انتقاد الشعراوي
في هذا السياق، قال الطبيب خالد منتصر إنه يتوافق مع مبادئه بحرية التعبير والإبداع، ويوافق على عرض المسرحية شريطة “عرض مشاهد تتضمن سجود الشعراوي شكراً لله على هزيمة مصر” عام 1967 بحسب وصفه.
وفي حديثه للجزيرة نت، ألمح منتصر ـوهو من أشد المنتقدين لمواقف شخصيات ومؤسسات دينيةـ إلى أن مشهدا مثل هذا “كفيل بأن يصدم متفرجاً مات والده أو شقيقه في الحرب، ثم يجد من يسجد لله شكرا على هذه الفجيعة”.
تلك الواقعة التي تحدث عنها منتصر كانت هي الأبرز التي استخدمها منتقدو الشعراوي الذي قال إنه استقبل الهزيمة والنصر خلال الحرب مع إسرائيل بالسجود لله، فعند النصر كانت سجدة شكر، وعند الهزيمة كانت سجدة حمد أن النصر لم يكن في عهد الشيوعية التي سيطرت على البلاد.
وإزاء حملة الهجوم، اضطر مدير المسرح القومي إيهاب فهمي للتوضيح على صفحته الشخصية بفيسبوك بأن أمسية الشعراوي كانت ستعرض لليلة واحدة في رمضان، وطلبت لجنة القراءة ـبرئاسة الممثلة سميحة أيوب والتي حضر لها الشعراوي من قبل عرض مسرحيتها “دماء على أستار الكعبة” وأشاد بهاـ إعادة الصياغة دراميا.
التنويري والمستنور
من جانبه، يؤكد الروائي أشرف الخمايسي أن معظم مدعي التنوير أو من يسميهم “المستنورين” هم “مستبدون بخطورة المتطرفين دينيا” لأنهم “سبب مباشر في استمرار معركة قد تؤدي إلى مقتلة”.
وفي حديثه للجزيرة نت، عد المتحدث أن “من غباء خطاب هؤلاء وضع الشعراوي في نفس سلة المتطرفين الإسلاميين، مع أن الرجل لا يفعل سوى طرح أفكار عقائدية يؤمن بها، تتسق مع طبيعة الشعوب المحبة للدين والمعتزة به، مهما بدت منفلتة”.
ولأن للشعراوي حضوراً وتأثيراً خاصين، علاوة على طريقة تعبير مميز، مع قدرة عظيمة على توصيل الفهم المعتدل للإسلام، بوصف الخمايسي، فقد كسب وحده من أرض المعركة ما لم يستطع خصومه كسبه، لأن الفارق بين الإخلاص في طبيعة الخطابين متفاوتة بشدة.
وأضاف “لدى الشعراوي إيمان حقيقي بدينه، ولدى الطرف الآخر انبطاح حقيقي لأفكار خارجية، فطبيعي أن يعتبروه عدوهم الأول والأخير، حد الفزع من تشخيصه فنيا على المسرح”.
ويفرق الخمايسي بين “التنويري” وبين ما يسميه “المستنور” فيعتبر الأول مثقفاً جادا محباً للآخر وراغباً بالتقارب وتشارك مساحة إنسانية ما معه وساعياً لإضاءةٍ تسبب هدايته لمفهوم أفضل برسالة إنسانية، في حين أن “المستنور” مدع التنوير.
ويؤكد صاحب رواية “منافي الرب” الشهيرة أن التنوير في بلادنا العربية “عملية قتالية تستهدف نفي الآخر، ولا مانع من قتله وتهديد أسرته” معتبرا أن التنويري العربي المعاصر (المستنور) نسخة بيضاء لصورة الإرهابي المتطرف دينيا السوداء.
وأعرب عن اعتقاده بأن ذلك سببه سياسة مستبدة أنتجت المتطرف الديني والمتطرف الفكري، ليساهم تطرف الخطابين المتشابهين في استفحال العداء بينهما، فلم يعد التنوير في يد المستنورين أداة للتثقيف، وإنما أداة مكايدة ونفي للخصوم، وهكذا فقد التنوير خصلة التسامح، وأداة الإنصاف.
سبب العداء
بدوره، قال أستاذ العلوم السياسية معتز بالله عبد الفتاح إن سبب ارتفاع نبرة احتجاج البعض ضد مسرحية للشيخ الشعراوي تحديداً، لأنه من وجهة نظر هؤلاء “أضر بقضيتهم التنويرية لأنه بسط ورسخ الفهم التقليدي الذي يحاربونه، لذا فإن عمل مسرحية عنه يرفع من شأن الرجل وترسخ فهمه التقليدي أكثر وأكثر”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف عبد الفتاح أن للشعراوي عطاء ممتدا لسنوات طويلة في تفسير وتبسيط ما صعب فهمه من آيات القرآن مستصحبا معه فهم متميز للغة العربية وقواعدها وأحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) واجتهادات الصحابة والتابعين، وكان إبداعه في تبسيط الفهم التقليدي والتفسير الموروث، لذلك لم يكن مجددا في المحتوى، ولم يجتهد لتقديم رؤية تقدمية أو تنويرية بما يرضي العلمانيين”.
وأكد المتحدث -وهو أيضا مذيع وكاتب مقرب من السلطة- أنه لا يعرف شخصيا إرهابيا مثلا استند لأي مقولة أو تفسير قال به الشيخ الشعراوي.
ومن جانبه رأى الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للإعلام قطب العربي أن دعاة التنوير أصحاب رؤية أحادية يؤيدون ما يوافق رؤاهم الفكرية فقط، فمن وافق فكرهم دعموه، ومن خالفه اعتبروه ظلاميا متحجرا ليس من حقه التعبير عن رأيه.
وأكد العربي -في حديثه للجزيرة نت- أن هؤلاء يعتبرون الشيخ الشعراوي وغيره من الدعاة أصحاب التأثير الواسع خطراً على تصوراتهم وعلى ما يريدون صبغ المجتمع به من تغريب وتخريب.
إلهاء
من زاوية أخرى، اعتبر الكاتب الصحفي أنور الهواري أن الموضوع كله “محاولة مصطنعة لتشتيت انتباه الناس عن المحنة الاقتصادية غير المسبوقة” أكثر من كونها معركة حقيقية بين دعاة تنوير وخصومهم، مؤكداً أن الناس من كل الطبقات ومن مؤيدي النظام قبل معارضيه تنطوي نفوسهم على طاقة احتجاج وسخط مخيفة للنظام الذي يبحث الآن عن منافذ لتصريفها بعيداً عن التركيز على فشله.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال الهواري إن الدولة “تلعب بورقة الدين بلا رحمة ولا ضمير، وهي في الحقيقة تلعب بالشعب نفسه ومصالحه ووعيه وحاضره ومستقبله، لعبة خلط أوراق وتشتيت انتباه مستقرة ومستمرة، بدأت بقرار من الدولة بعد هزيمة 1967، كإجراء لامتصاص فائض الصدمة والإحباط وما ترتب عليهما من تفكك وتحلل قيمي، ثم استمرت اللعبة”.
وبدوره، يقول الروائي والباحث في الاجتماع السياسي عمار علي حسن إنه “يشم رائحة كريهة، يتحول فيها الشيخ الشعراوي إلى عصفورة، حسب التعبير المصري، أي سبب للهو والسهو، عن المشكلات الصعبة التي يمر بها الشعب، وهذه عملية مكشوفة جدا، ففي النهاية لا شيء يمكن أن يُلهي الجائع عن خواء بطنه، ولا شيء يمكن أن يُلهي العاري عن ريح باردة”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول حسن إن الشيخ الشعراوي كان شخصية مؤثرة جدا، وتأثيره لا يزال مستمرا، ووجوده كان يحجب أصواتا متطرفة ومتنطعة وشديدة المحافظة والتقليدية، سمعناها بعد رحيله، ودفع المجتمع كله ثمنا باهظا لهذا.
وبوصفه روائيا، قال حسن إن شخصية الشعراوي مغرية لأي عمل فني، فكل أديب من حقه أن يتناول هذه الشخصية الإشكالية، وعلينا ألا نناقش في هذا الحق الأصيل، إنما النقاش ينصب على المضمون، وما إذا كان ما كُتب عن الشعراوي عملا فنيا من عدمه، مثلما حدث مع المسلسل الشهير “إمام الدعاة” الذي جسد فيه الممثل حسن يوسف شخصية الشعراوي ولم نشاهد تلك الاعتراضات وقتها.
وحذر الروائي المصري من أن هذه الحملة ستنتهي إلى اتساع آخر للفجوة بين بعض المثقفين وروح الناس وشعورهم وإدراكهم، لاسيما في ظل اقتناع العامة بأن الدين بات مستهدفا الآن، مضيفا أن هذا يزيد من صعوبة مهمة المثقفين الذين يقومون بتنوير حقيقي ينبني في جزء أصيل منه على إصلاح ديني أو على الأقل تجديد.
وتابع أن هذا أمر بعيد تماما عما يهدف إليه الباحثون عن شهرة وذيوع فارغ من خلال الاشتباك مع الشيخ الشعراوي أو غيره، أو من يعملون لحساب تصورات باتت مفضوحة، تتماهى مع مشروع تبنته جهات في الغرب انتقل من محاربة التطرف إلى محاربة الإسلام نفسه، أو حتى تصورات محلية ضيقة تريد أن تلقي في أسماع الناس كل يوم قضية تشغلهم بها بعيدا عن المشكلات الاقتصادية والسياسية.
ضابط مريد
ولم يقتصر الدفاع عن الشعراوي على الأزهر فقط، بل شهدت مواقع التواصل غضبا واسعا من محبي الداعية الراحل، مثل محمد بدر (ضابط سابق بالقوات المسلحة وأحد مقاتلي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973) الذي كان رافق الشعراوي لنحو 20 سنة.
في حديثه للجزيرة نت، يقول بدر “الموضوع أبعد من كل الهجوم على الشعراوي، بل هو هجوم على الدين والعقيدة، فهم هؤلاء الأشخاص الذين لا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة لا يتركون مناسبة للطعن في الاسلام إلا واهتبلوها”.
وتابع “أتحدث من خلال الإستراتيجيات كمقاتل في الحرب، في علوم المستقبليات، أن القرآن يتكلم بالتلميح إلا في الصراع مع الصهيونية العالمية، وإذا بحثت وراء كل من يهاجمون الشيخ ستجد له علاقات غير واضحة مع جهات أجنبية، ومن قبل طالب بيغين رئيس وزراء إسرائيل بوقف إذاعة حلقات خواطر الشيخ الشعراوي لأنها تهدد السلام بين مصر وإسرائيل” بحسب تعبيره.
وحتى عندما يتهموه بأنه ضد الفن لا يعرفون أن الشعراوي كان شاعرا، بل كان بكامل فكره مع الفن النظيف الرقيق الذي يعلي من قيمة الانسان، وكان بكامل فكره ضد الفن المبتذل الذي يٌرَّخص من إنسانية الإنسان، بحسب المتحدث.
وتساءل الضابط المتقاعد “لعلي أوجه لهؤلاء سؤالا: تدعون أنكم ليبراليون وأحرار وتدافعون عن الفن، فأين الحرية في مطالباتكم بمنع مسرحية أو سهرة عن الشيخ الذي يجله الجميع بلا استثناء بمن فيهم كبار رجال الدولة؟”.
واختتم بسؤال “أين السيدة فريدة الشوباشي التي تم تعيينها في البرلمان ومكافأتها التي تأخذها من دم وقوت الشعب، أين هي من مشاكل الناس، أليس من الأجدى لها أن تقدم استجوابا لوزير التموين عن حالة الأسعار التي تلهب ظهور الأغنياء قبل الفقراء، بدلا من أن تشغل نفسها بالظهور الاعلامي المفرط في محاولة وقف سهرة أو مسرحية عن الشيخ الشعراوي؟”.