تلسكوب القطب الجنوبي المتطور يستكشف الماضي السحيق للكون
الصورة التي يلتقطها تلسكوب القطب الجنوبي (SPT) الموجود في محطة أبحاث أموندسن سكوت في القطب الجنوبي، ليست كما يتخيلها كثيرون منا عندما ينظرون إلى السماء، فبدلا من النجوم والكواكب تبدو صور تلسكوب القطب الجنوبي أشبه بلوحة ذات بقع ملونة، فهو يلتقط البيانات المتعلقة بأصل الكون وتطوره على مدى مليارات السنين.
مقالات ذات صلة
رؤية أقدم ضوء في الكون
منذ أن بدأ تلسكوب القطب الجنوبي العمل عام 2007، ساعد الباحثين على اكتشاف أكثر من ألف مجموعة من المجرات العملاقة، وغيّر فهمنا للفترة التي تشكلت فيها النجوم الأولى، فضلا عن اكتشافات أخرى.
وتلسكوب القطب الجنوبي مشروع تعاوني لمسح الكون من موقع معزول في القارة القطبية الجنوبية، تعاونت فيه أكثر من 20 جامعة ومنشأة بحثية تابعة لوزارة الطاقة الأميركية (DOE)، بما في ذلك مختبر أرغون الوطني (Argonne National Laboratory)؛ يهدف إلى الكشف عن رؤى حول بدايات الكون.
ويذكر التقرير المنشور على موقع مختبر أرغون الوطني في 5 يوليو/تموز الجاري، أن التلسكوب الذي يبلغ طوله أكثر من 10 أمتار يستخدم كواشف تم تطويرها وصنعها في مختبر أرغون لدراسة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB)، والذي يتكون من ضوء نتج عندما كان عمر الكون حوالي 380 ألف سنة، وكان عبارة عن بلازما شديدة الحرارة، وكان الوهج الذي ينتجه ينتقل عبر الفضاء لحوالي 14 مليار سنة.
تقول ليندساي بليم عالمة الفيزياء في مختبر أرغون التي تجمع البيانات من التلسكوب “إن النظر إلى إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، ورسم كوننا المبكر وربطه بالمشاهدات التي نراها اليوم، يشكل أحد الركائز الأساسية لنموذجنا الكوني”.
سماء خالية من “التشويش”
القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) هي واحدة من أفضل الأماكن في العالم للكشف عن هذه الإشارة الخافتة، لأنها في الأساس صحراء متجمدة جافة جدا، وقد أوضحت بليم أن الرطوبة يمكن أن تخلق “تشويشا” في منظر السماء عند استخدام التلسكوب، مما يجعل الصورة أقل وضوحا.
ويمكن للعلماء جمع بيانات التلسكوب ودراستها من مختبر أرغون في إلينوي أو من أي مكان آخر تم إعداده للوصول إلى البيانات عن بُعد، ولكن في بعض الأحيان تتطلب الصيانة والتحديثات -مثل كاميرا الجيل الثالث التي تم تثبيتها عام 2017- السفر إلى ذاك المرفق في وسط الصحراء المتجمدة.
وقد زاد تطوير عام 2017 عدد كواشف كاميرا التلسكوب من 1600 إلى 16 ألف كاشف، والتي تبدو حال تجميعها معا كقرص عسل يبلغ عرضه أكثر من 43 سم.
ويتم حفظ الكواشف في برودة أكبر من أبرد ليالي أنتاركتيكا، فوق الصفر المطلق، أو سالب 273 درجة مئوية. ودرجة البرودة هذه بالإضافة إلى حساسية المواد الفائقة التوصيل، تساعده على تسجيل الضوء الخافت جدا من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.
واستفاد الباحثون من مركز المواد النانوية التابع لأرغون -وهو مرفق تابع لمكتب العلوم بوزارة الطاقة- لتصنيع الكواشف، حيث تتيح معدات المنشأة التحكم في المواد فائقة التوصيل ومعالجتها باستمرار.
ويتمثل أحد أهداف البحث في مشاهدات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي في استكشاف نظرية تُعرف باسم الاتساع الكوني، وهي أن الكون المبكر قد مرّ بتوسع هائل وسريع بشكل لا يمكن تصوره، وهي النظرية التي ترتبط بأنماط معينة من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.
أدوات شديدة الحساسية
يقول كلارنس تشانغ، الفيزيائي في أرغون الذي طور كاشفات فائقة التوصيل لتلسكوب القطب الجنوبي، “هذه الأنماط صعبة القياس، فالإشارات خافتة للغاية، وهو ما يتطلب بناء أدوات حساسة بشكل لا يصدق”، وقد بدأ تلسكوب القطب الجنوبي مسحا مدته 6 سنوات بالكاميرا الجديدة عام 2018.
وتقول إيمي بندر، عالمة الفيزياء في أرغون التي ساعدت في تركيب كاميرا الجيل الثالث “إنها تستمر في العمل، وتجمع البيانات من أجلنا. ونحن نراقب نفس القطعة من السماء كل يوم، وطوال اليوم. وكلما أطلنا النظر، أمكننا اكتشاف الإشارات الخافتة بشكل أفضل”.
وعندما ينتهي تشغيل تلسكوب القطب الجنوبي عام 2024، سيكون العلماء مشغولين ليس فقط بتحليل البيانات الناتجة ولكن أيضا بالعمل على تحديثات أخرى للتلسكوب.
إن قدرة أرغون على إنتاج كواشف تلسكوبات فائقة الحساسية ستكون أيضا مهمة للتجربة الجديدة والطموحة “سي إم بي-إس4” (CMB-S4)، وهي التجربة التي ستتم بتعاون أرغون مع عشرات المؤسسات في جميع أنحاء العالم، و21 تلسكوبا في القطب الجنوبي وفي صحراء أتاكاما التشيلية، حيث سيقومون بمسح السماء لمدة 7 سنوات بدءا من نهاية العقد الحالي.
كما سيتم زيادة عدد الكواشف المستخدمة إلى 500 ألف، وسيتم تصنيع بعضها في أرغون.
معالجة كميات كبيرة من المعلومات
تعتبر عمليات المحاكاة التي تعمل في حواسيب عالية الأداء في منشأة قيادة أرغون للحوسبة -وهي أيضا منشأة تابعة لمكتب العلوم بوزارة الطاقة- أساسية في فك تشفير المشاهدات من تلسكوب القطب الجنوبي.
ويستخدم العلماء هذه القوة الحاسوبية لربط النظريات حول كيفية تفاعل المادة والقوى في الكون. فمجموعة المجرات في خط رؤية التلسكوب -على سبيل المثال- سوف تشوه ضوء الخلفية من المجرات الأخرى وإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، في حين يجب قياس هذا التأثير وربطه بالتنبؤات النظرية.
ومع تحديث تلسكوب القطب الجنوبي ومشروع “سي إم بي-إس4” القادم، سيواصل العلماء إنتاج المزيد من بيانات الرصد.
وأشار جي دي إمبرسون عالم الحوسبة في مختبر أرغون، إلى أن موارد الحوسبة في أرغون تواكب التطور.
ويقول إمبرسون “بينما يبني العلماء أدوات من الجيل التالي، نريد أن نكون قادرين على دفع حوسبة الجيل التالي لمواكبة ذلك”.
كل من الحوسبة وأجهزة الكشف المتقدمة التي يتم تطويرها في مختبر أرغون تخدم استكشاف تلسكوب القطب الجنوبي للكون، لكنها أيضا ذات صلة بمجموعة من التقنيات الأخرى الموجودة هنا على الأرض، مثل فحص الرعاية الصحية والأمن.
وتقول بندر “لا توجد شركة تصنع معدات مثل هذه اليوم، لذا فنحن نقود التطوير لدفع التكنولوجيا لأجل ذلك. ومن يدري ما الأبواب التي قد تُفتح في المجالات أخرى؟”.