“29 صوتا للسيدة أودري أزولاي، 29 صوتا للسيد حمد الكواري” هكذا أعلنت نتائج التصويت لانتخاب المدير العام لليونسكو يوم الجمعة 13 أكتوبر/تشرين الأول 2017 من أعلى منبر اليونسكو على لسان رئيس المكتب التنفيذي الذي يجمع 58 دولة من أعضاء المكتب المخولين بالتصويت حسب لوائح المنظمة الدولية، كانت نتيجة التعامل منتظرة حتى وإن كانت وسائل الإعلام العالمية والملاحظون قد توقعوا فوز المرشح القطري.

لكن سرعان ما سمعت خشخشة الميكرفون مجددا فالتفت الجميع صوب الصوت الذي بدا مضطربا ومبحبوحا.. فجأة، حل صمت ثقيل بين الحاضرين وصدح صوت رئيس المكتب التنفيذي من جديد ليعلن أنه وقع خطأ في احتساب الأصوات، فبعد التثبت تبين له أن النتيجة 30 صوتا لأزولاي مقابل 28 للكواري، عندئذ غطت صيحات الفرح لمساندي المرشحة الفرنسية على ما تناثر في القاعة من ضجيج، فلم يفكر أي منهم في مساءلة الرئيس عما حدث، وهكذا بقي هذا اللغز حبيس تلك الغمغمات إلى اليوم، ومن الغرائب أيضا حجب حيثيات ونتائج التصويت النهائي على موقع المنظمة الدولية على الإنترنت كما جرت العادة في الدورات الأربع السابقة.

وصدر حديثا عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر كتاب “جسور لا أسوار: مقاربة جديدة لعلاقة الشمال بالجنوب” لمؤلفه الدكتور الكواري، كاشفا عن كواليس تجربته في اليونسكو وخفايا العلاقات الحضارية بين دول الشمال ودول الجنوب، وما أنتجته تلك العلاقة من نظرة متعالية ومركزية من قبل دول الشمال أضرت بالاستقرار والسلام في العالم، في تنكر صارخ لفضل الحضارات الإنسانية الأخرى على الغرب ومنها الحضارة العربية الإسلامية.

وينطلق الكتاب من تجربة شخصية واستقراء تاريخي للمؤلف، رئيس مكتبة قطر الوطنية، وهو الذي تمرس بالعمل الدبلوماسي والثقافي لعقود، ساعيا لتذكير أبناء هذا الجيل من العرب بحضارتهم التي غيبت بسبب صراعاتهم وتجاهل دورهم في بناء الحضارة الإنسانية، وداعيا إلى بناء الجسور بدل مد الأسوار في ضوء مقاربة جديدة للعلاقات بين الشمال والجنوب.

 

ويقول المؤلف إنه لم يرد لكتابه أن يكون عملية تصفية حساب “ولكن شرف الكتابة أن تكون كشفا لما يحدث، ومكاشفة مع القارئ الباحث عن الحقيقة”. وعلاوة على ذلك “فتجربتي الشخصية تقدم شهادة للتاريخ، توثق بالبراهين والشهادات ما وقفنا عليه من حملة مغرضة وممنهجة لا تحمل العرفان لبلدان الجنوب، فلم تدخر تلك الحملة جهدا لإعاقة انطلاقة جديدة لليونسكو على يد مدير عام عربي عزم على إصلاح منظمة دولية بلغت من الكبر عتيا، وحان وقت بعث روح جديدة في أروقتها، وعاهد مسانديه على أن يعمل على إعادة التوازن لصالح بلدان الجنوب وإقامة علاقة ثقة ومصداقية بين مختلف المكونات الاجتماعية والثقافية لهذا الكيان المرموق”.

ويتابع “أهدرت الفرصة بينما تخيم على العالم سحابة من الارتياب واهتزاز الثقة بين الحضارات الغربية والشرقية، وعاد شبح صدام الحضارات يخيف شعوب الجنوب من جديد. ولاح لكل الذين آمنوا بالقيم المثلى لليونسكو بأن حصن تلك القيم بات قابلا للسقوط، مثلما سيطرة القناعة بأن المركزية الغربية ما زالت جاثمة على الخطاب والممارسة لدول الشمال”.

د. حمد الكواري
المؤلف الدكتور حمد الكواري يقدم في كتابه الجديد شهادة للتاريخ عن السعي لبعث روح جديدة في أروقة اليونسكو (الجزيرة)

دور المثقف

يبدأ المؤلف، توطئة الكتاب، بالتأكيد على أنه من الصعب في هذا السياق الحضاري الذي نعيشه أن يبقى المثقف بدون موقف، ففضيلة وجوده في مجتمعه التزامه بقضايا الإنسان، وسعيه مع سائر الفاعلين الاجتماعيين إلى بناء الوعي بتحديات المرحلة التاريخية التي تمر بها حضارتنا العربية الإسلامية، وهي مرحلة موسومة بالارتباك والأزمات، ومحكومة بالصراعات والتوتر في العلاقات الدولية بين الشمال والجنوب.

ويتابع المؤلف، وزير الدولة برتبة نائب رئيس الوزراء “عملت طوال حياتي على الجمع بين الموقف النظري والممارسة العملية، فلا يكون المثقف مجرد صانع للأفكار فحسب، بل ينبغي أن ينخرط في مجالات الفعل حتى لا تظل أفكاره حبيسة التجريد وغير قابلة للتنفيذ في الواقع، لأن أصل الفكرة أن تجد طريقها إلى نفع الناس وتبديل أحوالهم نحو الأفضل”.

 

ويتابع “كنت مولعا بالطريق الأدبي، الذي سلكه أمين معلوف، وهو يمزج بين الأدبي والتاريخي، ويبث الأسئلة بين طيات رواياته حول العلاقة بين الذات والآخر في مدار الأسئلة الحضارية” وذلك حين تناول الأديب اللبناني “الرواية الحقيقية” أو “الأخرى” من الصراع بين العرب والفرنجة، في عمله “الحروب الصليبية كما رآها العرب” حيث استدعى شهادات الإخباريين العرب لتكون مصدره الأساسي في بناء الرواية، ولفت المؤلف النظر إلى أن المؤرخين العرب لم يتحدثوا عن حروب صليبية وإنما “غزوات وحروب إفرنجية” مما يعني أن الغطاء الديني لتلك الحروب لم ينشأ من الجانب العربي الذي لم يكن ينظر إليها كحرب دينية.

وإضافة لذلك، لم يبحث معلوف عن “إدانة الآخر” بقدر ما بحث عن الإنصاف التاريخي الذي يعيد من جديد ترتيب العلاقة بين الغرب والشرق، ويشير المؤلف -في السياق- لظاهرة اختفاء الرؤية في المسميات حيث تصير اللغة موطنا للمواقف من الآخر، وتضع الغشاوة على الشعوب التي تستسلم لتلك المسميات باعتبارها حقائق، وليست هي غير تعبير عن وجهة نظر الخطاب الغربي الذي لم يبارح نزعة التفوق.

ويمزج المؤلف بين تجربته الدبلوماسية وأفكاره، قائلا إنه رأى في صورة أطياف زملائه في أروقة مجلس الأمن بين أبراج مانهاتن “ثمرة سوء الفهم التاريخي بيننا وبين الغرب، وهو سوء فهم شمل الغرب بحضارات وثقافات أخرى أيضا. ورأيت في تعثر خطاهم النتيجة الحتمية لذلك، فقد صاروا يواجهون الخواء والفراغ عاجزين عن ابتكار حلول لدوامة المشاكل المتلاحقة في علاقات الأمم ببعضها بعد أن عقدوا العزم على إحلال السلام بين البشر”.

ويردف محللا تأثيرات السياسي على الثقافي، فيقول “كانوا للأسف الشديد على شاكلة البهلوان الذي يسير على خيط فوق الهاوية من دون أن تمتد تحته شبكة تحميه في صورة الوقوع، أو أي وسيلة تساعده على تحقيق توازنه الذي يحفظ حياته” ويكمل “تساءلت طويلا، هل كان هذا المشهد وليد تفاقم وضع العلاقات الدولية، أم أنه نتاج لعقود -وربما قرون- لسوء الفهم بين الحضارات؟ ألا يعود ذلك إلى إهمال الحضارة الغالبة لأصوات الحضارات الأخرى؟ وهل أن الحضارة نفسها في تعريفاتها المتداولة تصنفنا متحضرين أم تضعنا في خانة البرابرة؟ وكيف لمثل هذا التصنيف أن يساهم في تحقيق السلم العالمي”.

 

“إنني على ثقة من أن الوضع الراهن هو سليل أفكار متغلغلة في الفكر الغربي أساسا، فرغم نزعة الخطاب الثقافي الغربي ومؤسساته الداعية إلى المساواة بين الأمم، فإن الأزمات المتلاحقة للحوار العالمي تجعلني أستعيد تلك العوائق التي ظلت تكبل لاوعي الخطابات البراقة التي ترفع عاليا الأعراف الدولية، وتعجز عن إبداء حل لأبسط خلاف دولي” هكذا يسرد المؤلف الوزير جوانب خفية من كوامن أسباب الأزمات والخلافات بين الشمال والجنوب.

 

الصحراء والرؤية الطليقة للحضارة

ومن ضيق أروقة المنظمات الدولية لرحابة البدايات، يبدأ المؤلف أول فصول الكتاب بقوله “إنني حقا ابن الصحراء، فكلما عادت بي الذاكرة إلى طفولتي وصباي، أشعر بانتمائي الأصيل إلى ذلك الفضاء الرحب حين أحس بتلك الحرية المطلقة وهي تسري في عروقي بينما تلفني الرياح الرملية في صحراء العرب. رياح لا يعرف أي كان اتجاهاتها عندما تعانق كثبان الرمال فتهبها ذلك المنظر المتناسق والبديع الذي يعجز عن تشكيله أكبر فناني العالم.. تلك الكثبان تمتد من دون نهاية إلى تتواشج مع أمواج البحر الدافئ في خور العديد”.

ويتابع “من المفارقات العجيبة لعالمنا، الذي فقد البوصلة، أن امتداد التمدن والتحضر في ربوع العالم رافقته ثورة رقمية أزالت الحدود، بينما يصر البعض على إنكار الآخر المختلف واحتقاره وإبعاده عن مراكز القرار ومصادر الثروة وأسباب الكرامة الإنسانية، وكأن عملية ترسيم الحدود ما زالت مستمرة باستمرار العقلية الاستعمارية التي ظن البشر أفولها”.

وينقل عن مؤلف “الأمير الصغير” الطيار والكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900-1944) قوله “إن بني البشر يرفعون الكثير من الجدران ولا يمدون ما يكفي من الجسور”.

 

ويتساءل المؤلف: هل تكون اليونسكو منارة تضئ الطريق وسط زوابع العالم، ويقول “استبطنت في وجداني مبدأ السعي إلى السلم، وجعلت من إعلان اليونسكو أحد المبادئ الأساسية في حياتي: نعم، عملت دبلوماسيا على امتداد عقود للصلح بين الأمم في أروقة مجلس الأمن، وللتفاهم والتحاور والتبادل المفيد للطرفين وأنا سفير لبلادي في مختلف عواصم العالم وممثل لها لدى اليونسكو والأمم المتحدة. بل إنني سرت على الدرب نفسه عندما توليت وزارة الثقافة والفنون والتراث، لذلك اتسمت احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربية عام 2010 بانفتاحها على كل ثقافات العالم وقبول الآخر المختلف وبناء جسور بين المثقفين القادمين من كل الآفاق والمشارب”.

التوازن والحوار

وفي الفصل الثاني للكتاب بعنوان “سعيا لإعادة التوازن بين الشمال والجنوب” يشرح المؤلف بالتفصيل الفجوة بين البلدان الغنية والنامية، مشيرا لاستئثار بلدان الشمال بجل المناصب في المنظمات الدولية، وينتقد “سراب التنوع” مشيرا لتجربته في السعي لاستعادة الحوار وزياراته الميدانية لبلدان الجنوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وجزر الكاريبي بغية الاستماع إلى مشاكلها الهيكلية.

وفي الفصل الثالث، يحلل الخطابات الثقافية السائدة، معتبرا أن العصر الاستعماري انتهى لكن الاستشراق ما زال مبثوثا في حياتنا وفي طريقة تفكير الغرب بالشرق، ورغم ذلك يجتهد لإنصاف الاستشراق مع تخليصه من عقدة التمركز الأوروبي ومرجعية النموذج المعرفي والحضاري الواحد، منوها بتاريخ الحضارة العربية وإسهامها في تطوير نظام حكم الدول، وإسهام العرب والمسلمين في العلوم، وإضافات العرب في الإنسانيات والآداب.

 

وفي الفصل الرابع “القوة الناعمة” يشرح الكاتب الوزير ثوابت الدبلوماسية الثقافة ووسائلها، ويناقش رهانات الرياضة، ودبلوماسية الهدايا ووظائفها، وشواهدها التاريخية القديمة مثل نموذج الخليفة هارون الرشيد والإمبراطور شارلمان، ويتناول تجربة معهد العالم العربي في باريس كجسر ثقافي بين المشرق والمغرب العربيين من ناحية، والغرب من ناحية أخرى.

 

وفي الفصل اللاحق بعنوان “حضارة الحوار الثقافي” يناقش الدكتور الكواري موضوعات الترجمة، حوار المجالس، رعاية أصحاب كبار الأمراء والوزراء لمجالس الحوار الفكري. ويختم مؤلفه بالتأكيد على الحوار وتقبل الآخر والتفاهم الإنساني كرسالة عربية، ويذكر بأن موارد هائلة تهدر بشراء الأسلحة عوضا عن بناء المدارس والمكتبات والمستشفيات، وأن محو الأمية ومقاومة المجاعة مرتبطان، وينهي في الخاتمة برسالة متفائلة مؤكدا أن الخير جبلة في بني آدم وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام إن “الخلق كلهم عيال الله، وأحب خلقه إليه أنفعهم إلى عياله”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *