جنود أوكرانيون يطلقون القذائف من مدفع فرنسي باتجاه أهداف روسية قرب خط النار في حدود إقليم دونباس (الفرنسية)

جنود أوكرانيون يطلقون القذائف من مدفع فرنسي باتجاه أهداف روسية قرب خط النار في حدود إقليم دونباس (الفرنسية)

واشنطن- بعد 6 أشهر من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، يزداد الغموض بشأن تطورات القتال وسيناريوهات انتهائه.

ولإلقاء الضوء على الفهم الأميركي لطبيعة توازن القوى على الأرض، وموقف واشنطن من التطورات الجارية، وسيناريوهات الأسابيع والأشهر المقبلة، أجرت الجزيرة نت حوارا مع روبرت بيرسون، أستاذ العلاقات الدولية في ويست بوينت، أشهر أكاديمية عسكرية أميركية.

 

يركز هذا الأكاديمي في أبحاثه على السياسة الخارجية والداخلية لروسيا وللجمهوريات السوفياتية السابقة، وسينشر قريبا كتابه الجديد عن “الإستراتيجية الروسية الكبرى في القرن الـ21”.

وحصل بيرسون على شهادة الدكتوراه من جامعة ييل، ودرجة الماجستير من جامعة ستانفورد، وهو زميل غير مقيم في معهد الحرب الحديثة.

وفيما يأتي نص الحوار:

روبرت بيرسون، أستاذ العلاقات الدولية في ويست بوينت المصدر وسائل التواصل
بيرسون: الصراع تحوّل إلى مرحلة الجمود ولا يستطيع أحد الطرفين تحقيق مكاسب دراماتيكية على الأرض (وسائل التواصل)
  • كيف تطور سير المعارك من بداية الحرب إلى ما نشهده الآن؟

في البداية، اعتقدت روسيا أنها تستطيع تدمير الجيش الأوكراني بسرعة وفي غضون أيام، وأن تقوم باندفاع سريع يُمكنها من احتلال كييف واستبدال حكومة عميلة لها بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا. وفيما سيطرت روسيا على مساحات كبيرة من جنوب أوكرانيا وإقليم دونباس، فشلت في وقت مبكر بتحقيق هدفها السياسي الرئيسي المتمثل في تغيير النظام الأوكراني.

في مواجهة مثل هذه الانتكاسات والدفاع الأوكراني العنيد، اضطرت روسيا إلى خوض معركة بطيئة وطاحنة ومكلفة للغاية لتوسيع احتلالها. واليوم، يقترب الصراع من حالة من الجمود، حيث لا يستطيع أي من الطرفين تحقيق مكاسب إقليمية دراماتيكية على الأرض، ومن غير المرجح أن يتغير ذلك في المستقبل المنظور.

وسيكون هناك قتال عنيف عبر خطوط التماس، بينما تحاول روسيا تعزيز سيطرتها على الأراضي المحتلة التي استولت عليها في وقت مبكر من الحرب. لكن هذا الأمر يزداد صعوبة بفضل الضربات العسكرية الأوكرانية الأخيرة خلف الخطوط الأمامية الروسية.

 

  • اعتقد الكثير من الخبراء أن الجيش الأوكراني لن يكون قادرا على الوقوف في وجه روسيا، لكنه فعل. كيف حدث ذلك؟

يبدو أن الغزو الروسي الأوّلي تم التخطيط له وتنفيذه بشكل سيئ، إذ تم بجنود غير مجهزين جيدا وبمعدات سيئة الصيانة. كما فشلت روسيا في نشر قوة كبيرة وكافية لغزو واحتلال ثاني أكبر دولة في أوروبا. ويرجع ذلك جزئيا إلى سوء تقدير القوة اللازمة، ولكن أيضا بسبب قرار موسكو تجنب التعبئة العامة والتجنيد الجماعي.

بالمقابل، كان أداء الجيش الأوكراني الذي يضم مهنيين ومتطوعين ومقاتلين محترفين أفضل مما كان متوقعا. ويرجع الفضل في ذلك جزئيا إلى الاستثمار الغربي في تدريبه وتسليحه منذ عام 2014، إضافة إلى توفير أسلحة ثقيلة ذات فعالية كبيرة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ولكن الأهم من ذلك كله مثابرة الأوكرانيين وتصميمهم على الدفاع عن ديمقراطيتهم ووطنهم بعزم كبير، وهو ما يفتقر إليه الجنود الروس.

  • تتمتع روسيا بمميزات ضخمة من حيث الموارد البشرية والطبيعية والترسانة العسكرية مقارنة بأوكرانيا، هل لا يزال هذا هو الوضع بعد 6 أشهر من القتال؟

إجمالا، تمتلك روسيا قاعدة مادية وسكانية أكبر تمكّنها من مواصلة حربها ضد أوكرانيا. لكنهم استخدموا معظم أسلحتهم الدقيقة والمتقدمة مما يجعلهم يلجؤون الآن إلى مخزون قديم من القنابل والصواريخ والمدفعية وذات إمكانيات أقل مما تم تدميره من أسلحة متطورة.

ومع استمرار روسيا في استهلاك ذخائرها ومعداتها العسكرية، فإن العقوبات الغربية على التقنيات المتعلقة بالصناعات العسكرية ستجعل من الصعب على روسيا تجديد ترساناتها. كما تشعر روسيا بالقلق إزاء عدم الاستقرار السياسي الداخلي الذي يمكن أن ينشأ إذا دعت إلى التعبئة العامة والتجنيد الجماعي. لذا، يبدو أن الكرملين يمارس ضبط النفس على قوته البشرية العسكرية أيضا.

من ناحية أخرى، من الواضح أن أوكرانيا تعتمد على الأسلحة الثقيلة الغربية لمواصلة قتالها. وبوسعهم ذلك طالما استمرت هذه الأسلحة في التدفق، الأمر الذي يضعهم في موقف محفوف بالمخاطر إذا وضع الغرب حدا لدعمه.

أنا مقتنع بأن الأوكرانيين سيقاتلون بالعصي والحجارة إذا كانت هذه هي الفكرة الأخيرة التي يدافعون بها عن أنفسهم من الغزاة الروس، لكنهم حاليا أقل اكتفاء ذاتيا بكثير من روسيا عندما يتعلق الأمر بالموارد المادية والاقتصادية والعسكرية.

Russia-Ukraine war
آثار القصف الروسي على أوكرانيا (الأناضول)
  • هل تتوقع استمرار هذه الحرب شهورا أو سنوات؟

أتصور أن هذه الحرب ستستمر لعدة سنوات.. ولا أشك في ذلك.

  • ما أهم العواقب الإستراتيجية الرئيسية للحرب الروسية على أوكرانيا؟

لقد عزلت روسيا نفسها عن الغرب إلى درجة لم يسبق لها مثيل منذ الفترة التي أعقبت الثورة البلشفية. في الوقت ذاته اقتربت أكثر من الصين، مما أدى إلى تسريع الاتجاه الذي كان موجودا لسنوات عديدة بالفعل ويتعلق بالتقرب من الصين. ومع ذلك، فإن صراعات روسيا وأوجه القصور الإستراتيجية في أوكرانيا أقنعت الصينيين بأن روسيا قوة من الدرجة الثانية ومن الواضح أنها الشريك الأصغر في العلاقة.

وفي حين سيستمر البلدان في إقامة شراكة دون تحالف، فمن الواضح أن بكين في مقعد القيادة وقد تكون أقل احتراما لرغبات موسكو في المستقبل. وبعبارة أخرى، أظهرت هذه الحرب للعالم بوضوح أن العقود المقبلة ستتميز بنظام دولي ثنائي القطب من المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، مع لعب روسيا دورا ثانويا.

 

  • هل كان قرار الحرب على أوكرانيا خطأ في التقدير من جانب الرئيس الروسي بوتين، ولماذا؟

كان قرار بوتين “بالغزو” خطأ غير عادي في التقدير لأنه فشل في تحقيق -بل وقوّض- تقريبا كل هدف إستراتيجي رئيسي سعى إلى تحقيقه لأكثر من 20 عاما في السلطة.

إن نفوذ روسيا في الدول المجاورة وعلى الصعيد العالمي في أدنى مستوياته في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وقد قوّضت الحرب تنمية روسيا الاقتصادية المستقبلية بشدة بسبب تكلفتها المرتفعة، والعقوبات الناجمة عنها. بينما لم تترك الحرب حلف الناتو إلا أكثر قوة واتحادا، وزاد عدد الدول الساعية للانضمام إليه. في الوقت ذاته، لم تكسب روسيا شيئا ذا قيمة إستراتيجية، ولكنها تدفع تكلفة هائلة دون نهاية في الأفق، وهو خطأ كبير في الواقع.

جندي أوكراني يتفقد راجمة صواريخ من نوع “هيمارس” وهي أحد الأسلحة التي دعمت بها الولايات المتحدة بلاده (غيتي)
  • هل ستستمر أوروبا والولايات المتحدة في دعم أوكرانيا، ولماذا؟

في الوقت الحالي، هناك تأييد قوي من الحزبين في الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا، ولكن هناك بعض الأصوات في الجناح الانعزالي للحزب الجمهوري تتساءل عما إذا كان ينبغي لنا أن نتحمل تكلفة الدفاع عن أوكرانيا، خاصة وأنهم يعتقدون أن أوروبا لا بد وأن تتحمل المزيد من العبء.

وعلى الرغم من أنه رأي أقلية، فإن الحزب الجمهوري إذا ما حصل على أغلبية مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات التجديد النصفي المقبلة في الخريف، فقد يكتسب هؤلاء الأفراد الانعزاليون المزيد من النفوذ في الكونغرس، وهو ما قد يؤدي لإبطاء أو وقف المساعدات الأميركية لأوكرانيا.

وسيأتي الاختبار الحقيقي لأوروبا هذا الشتاء في الوقت الذي تكافح فيه للتعامل مع نقص الطاقة بسبب انقطاع وتقليل الغاز والنفط الروسيين. وقد يكون هذا الألم الاقتصادي كافيا لإجبار الحكومات الأوروبية على التراجع عن بعض العقوبات وغيرها من القيود، خشية عزلها في الانتخابات التالية.

أما لماذا يستمر الغرب في دعم أوكرانيا، فالأمر بسيط للغاية؛ إذ إن النظام الدولي القائم في الغرب والذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وتعزز بعد انهيار الشيوعية يخدم مصالحنا الوطنية. وإن غزو روسيا واحتلالها وضمها للأراضي الأوكرانية يهدد هذا النظام والاستقرار الذي يوفره.

باختصار، نحن بعد هذا “العدوان السافر” في عالم أفضل حالا من آخر يمكن لروسيا أن تنتهك فيه سيادة جيرانها دون عواقب. وهكذا عندما ندافع عن أوكرانيا، فإننا ندافع عن النظام الدولي وسيادة الدول المستقلة.

  • وما السيناريوهات التي تتوقعها للأشهر والسنوات القليلة المقبلة من هذه الحرب؟

على الرغم من صعوبة التنبؤ بالمستقبل دائما، أعتقد أن الجمود المطول والعنيف هو السيناريو الأكثر ترجيحا. وسيتم تبادل القليل من الأراضي، على الرغم من أن كلا الجانبين سيشنان هجمات مكلفة. وسيحتدم القتال على طول خطوط التماس، وفي حين أن القوات الخاصة الأوكرانية ستشن هجمات جريئة ومقلقة على نحو متزايد في المناطق التي تحتلها روسيا، وربما أبعد من ذلك داخل الأراضي الروسية نفسها.

وإذا حدث ذلك، فمن المرجح أن تشن روسيا ضربات عقابية مدمرة على نحو متزايد على المراكز السكانية الرئيسية ردا على ذلك. ومن المرجح أيضا أن تتعرض المدن في وسط وغرب أوكرانيا -ناهيك عن كييف- لهجمات متزايدة انتقاما لهجمات أوكرانية ناجحة.

 

  • كيف ومتى تنتهي هذه الحرب؟

بالنسبة لي، لا توجد نهاية في الأفق. لذلك من المستحيل أن نقول كيف ستنتهي الحرب، الموضوع يتوقف على الفترة التي تقاتل فيها روسيا وأوكرانيا، وعلى العديد من المتغيرات التي لا يمكن التنبؤ بها في الوقت الحالي. لكنني لا أرى أيا من الجانبين مهتما بتسوية دبلوماسية في الوقت الحالي، وبالتالي فإن الحرب ستستعر وتستمر.

  • وما الدروس الأولية لأولئك الذين يحاولون فهم طبيعة الحروب الحالية والمستقبلية؟

على الرغم من أننا غالبا ما نتحدث عن “أشكال جديدة” من الحروب، فإن مبدأ قديما جدا لا يزال قائما هو أن الحروب يتم كسبها أو خسارتها بسبب “الخدمات اللوجستية”، وإذا لم يكن هناك شيء آخر، فقد ذكرتنا هذه الحرب بتلك الحقيقة.

المصدر : الجزيرة

About Post Author