أعلن الشيخ الجزائري أبو جرة سلطاني، مؤخرا، عن إنجاز تفسيره للقرآن الكريم في 25 جزءًا، بعنوان “حركة القرآن المجيد: في النفس والمجتمع والتاريخ” وتكمن أهمية الجهد الفكري الجديد، برأي مختصين، في التجربة الثريّة لمؤلفه طيلة عقود، بين الوعظ والدعوة والتعليم الجامعي والعمل السياسي والبرلماني والحكومي، فضلاً على تخصّصه الأكاديمي في اللغة العربية وقرضه الشعر ومؤلفاته السابقة وكتاباته الغزيرة في عدة حقول فكرية وثقافية، مما جعله واحدا من رموز الفكر الإسلامي عبر الوطن العربي.

“الجزيرة نت” قابلت الشيخ لمعرفة معالم ودواعي الإقبال على هذا الجهد الذي استغرق منه 10 سنوات، وما يمكن أن يضيفه قياسا بما سبقه من أعمال؟

 

كما استطلعنا رؤية المؤلف تجاه تراث المفسرين القدامى والمحدثين، وعن آفاق القراءات الكونيّة المفتوحة للقرآن الكريم، في ضوء تطورات العصر العلميّة والاجتماعية، وكذا موقفه من دعاوى التنويريين بهذا الخصوص، فإلى الحوار:

  • صدرت لكم مؤخرا طبعة تجريبية في التّفسير بعنوان “حركة القرآن المجيد: في النفس والمجتمع والتاريخ” (25 جزءا) ما دواعي هذا الجهد الضّخم؟

بسم الله وبعد: أكثر ما في التّفاسير تكرار بلغة لا يفهم كثير من أبناء جيلي مراميها، فكان من دواعي هذا الجهد محاولة قراءة كلام الله بلغة تحرّر العقل من الأحكام الجاهزة ومن القوالب النّمطيّة بتحريك كلام الله في نفس الإنسان وفي المجتمع الذي يعيش فيه باستدعاء التاريخ الذي تم فيه إخراج خير أمّة. واستصحاب “تاريخ التديّن” وإعادة قراءة القرآن المجيد قراءة متحرّكة في الزّمان والمكان والإنسان.

  • هل لنا أن نعرف منهجه ومعالمه الأساسية؟

لم التزم منهجا واحدا في فهم سور القرآن الكريم لاعتقادي أنه كتاب هداية ودستور حياة ومنهج عيش، ولكل سورة “روحها” وحركتها وجوّها العام ومجال عملها. وكلام الله “وحدة إيمانية” مقسمة إلى 114 سورة؛ فما نزل قبل الهجرة عرف بالغيب ورسخ عقيدة اليوم الآخر وربط الإنسان بخالقه (جل جلاله). وما نزل بعدها جاء متمما للأخلاق مؤسسا لمجتمع مثالي على غير مثال سابق.

فالالتزام بترتيب السور في المصحف الإمام أوحى لي بـ “وحدة السورة” ضمن الوحدة الإيمانية للقرآن كله؛ بالتعرف على أسباب نزولها ومعرفة خصائصها. فكان تفسيرا دعويا بأسلوب متحرك في النفس والمجتمع والتاريخ، وبعمق اجتماعي غايته البحث عن الوسائل الكفيلة بإعادة إخراج أمة الإسلام بفهم متجدد يحاول نقل كلام الله تعالى من التاريخ إلى ضمير الإنسان بتحديد الغاية وليس بتقييد الإرادة، وببيان عمق الفجوة بين زمنية الإنسان وحيوية القرآن، أو بين المحدود والمطلق.

  • بصفتكم ممارسا للسياسة على المستويين الشعبي والرسمي، ماذا أفادتكم إدارة الشأن العام ودخول دواليب الدولة في فهم النصوص القرآنية وإنزالها على الواقع محليا ودوليّا؟

فرق بين الدارس للقرآن والممارس للشأن العام، وبين قارئ للكتب ومراقب لحركة الحياة عن كثب. فالذي لم يمارس الدعوة ولم يعرف الحكم ولم يخبر دهاليز السياسة ولم تعركه رحَى الأحداث ولم يخالط الناس.. لا يعرف كنْه حديث القرآن المجيد عن الاستبداد والطغيان وحبّ الملك والخلد.

فقد فسّرت سورة يوسف (عليه السلام) دروسا في المسجد وكتبت عنها فصولا نشرتها، ولكن بعد أن عركتني السياسة وخالطت “إخوة يوسف” واستمعت إلى بعض قرارات فرعون وخبرت نفسيات من لا يرى الحق إلا ما ينطق به لسانه، أعدت تفسيرها بأسلوب مخالف لما كنت أفهمه من آياتها قبل مروري بهذه التجارب. وهو حكم ينطبق على كل القصص القرآني وعلى كثير من الأحكام الجاهزة التي تعلمناها من فقه المتغلب ومن الأحكام السلطانية ومن مدارسة الأوراق.

  • نفهم من كلامكم أن الفهم الحركي للنصّ القرآني سيكون بارزا في عملكم، ما مبرر ذلك في السياق الإسلامي القائم؟

هذا هو المقصد الأول من هذا العمل؛ نقل الوحي من المصحف إلى حركة الحياة بموالاة الطرق على أبواب القلوب المغلقة والعقول الجاحدة بنداء الله الذي يخاطب الإنسان فردا بصفته الآدمية، يدعوه إلى عبادته وحده. ويقدم له ألف دليل على أن كلامه حق، وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.

  • في ظل وفرة التفاسير القديمة والحديثة للوحي القرآني، ما الذي يضيفه تفسيركم الجديد؟

المعاني السابقة تبرر ظهور تفسير جديد، بل توجب ظهوره؛ تفسير يستفيد صاحبه مما وصل إليه العقل البشري من اختراع يعمل على تحريكه في واقع الناس باستدعاء حي للقرآن المجيد يقنع العقل أن كلام الله هو الحياة وهو الحركة وهو الميزان.. وأنه مطالب بالتفكّر فيه كتفكّره في الكون من حوله. فجل المفسرين المحدثين عالة على السابقين من السلف، وأغلب التفاسير استنساخ ممن سبق بذريعة الاتكاء على المأثور أو خشية إعْمال الرأي في كلام الله، أو الخروج عن منهاج الذين عبّوا من المنهل الصافي قبل أن تكدره دلاء الخائضين.

فما بين أيدينا من تفاسير لم تخرج عن واحد من 5 سبل: إما سبيل التلخيص والاختصار لتخفيف عبء المطولات المستعصية عن القراءة لمن يستعجل الفهم ويقلى القراءات الدسمة. وإما محقق للمادة العلمية أو مدقق لما فيها من نصوص ونقول وآثار.. وهو عمل علمي لا غنى للأمّة عنه.

وأما صاحب اختصاص يطوع كلام الله لخدمة ما تخصص فيه فيصير تفسيره مدونة فقه أو موسوعة علم أو سفر تاريخ أو كتاب لغة وبديع وبيان وجماليات صياغة ماتعة. وإما متنطع لا يرى للسلف أي قيمة علمية فينطلق من فراغ ليفسر كلام الله برأيه فينتهي “تفسيره” إلى موت بطيء بظهور تفسير برأي مغاير ينقصه. وإما مجتهد مجدد يضيف إلى ما سبق ما تناهي إليه من علم مستشرف يوظفه لفهم كلام الله فيضيف باجتهاد منضبط ما غفل عنه السابقون أو ما لم يكن لزمانهم به حاجة.

وقد أخذت من كل هؤلاء بطرف ولكني تجانفت إلى الاتكاء على المأثور أساسا لإقامة بناء جديد على أسس قديمة من منطق أنه ليس كل قديم أصيلا وليس كل جديد دخيلا، إنما الأصيل ما طابق الحق والدخيل ما اتبع الأهواء، فكانت الخلاصة التي انتهيت إليها أن القرآن كلام متجدد ولكل جيل عطاؤه من الفهم وحظه من فتوح الله على العارفين.

فالدين واحد (عقيدة) هو الإسلام وما عداه فأهواء نفس وأفكار إنسان. والكون يتجدد كل لحظة ونهايته إلى تفكك وزوال، ولا يبقى سوى وجه الله. وأن حركة الدنيا زرع حصاده يوم التغابن.

 
  • كيف تنظرون إلى تراث المفسرين في ضوء تجربتكم القرآنية الخاصة؟ وهل ما يزال برأيكم صالحا للتفاعل مع الواقع؟

جهد المفسرين جميعا هو محاولة  لفهم كلام الله بلغة زمانهم وبما تناهى إلى عقل كل مفسر من علم، والعملية أشبه بشبكة الإنارة، والمفسرون مصابيح يستمدون نورهم من “مولد الضوء” فلا أحد يجزم أن فهمه للقرآن المجيد هو النسخة النهائية لمدونة الوحي، إنما هو تراكم معرفة لا يخرج عن الجهد البشري الذي يضيف كل مجتهد جديدا لمن سبقوه، ولو كان الأمر غير هذا لفسر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) القرآن وأراح البشرية من عناء البحث، ولكنه لم يفعل لعلمه أن القرآن كتاب حياة، والحياة ضرورة متجددة يحدث فيها للناس من الأقضيّة بمقدار ما يُحدثون لأنفسهم من حركة.

فتراث المفسرين ليس دينا وليس قرآنا وإنما هو جهد بشري يؤخذ منه ويرد بقدر حاجة البشرية إلى ما سبق إليه العقل، فتركه والاستغناء عنه تنطع وشطط، والقول بأنه دين أو هو تفسير للدين تضييق وإلزام الناس بما لم يلزمهم الله به، والتوسط هو القسطاس المستقيم من منطلق أن العقل هبة الله والوحي كلام الله، فإذا صح المنقول وصرح المعقول تطابق التنزيل والتأويل.

  • بعض “التّنويريّين” يريدون التأسيس لتفسير قرآني بالقطيعة مع التراث، هل ترون ذلك ممكنا؟

هذا غير ممكن البتة لـ 3 أسباب لا يحب “التنويريون” سماعها ولا التسليم بصحتها، أولها: أن الذين عاصروا نزول الوحي أولى من غيرهم بفهمه لأنهم يعرفون أسباب نزوله وزمان نزول كل آية أو سورة ومكانها ولم تنزلت؟ وما هي مقاصدها الكبرى؟ وثانيها: أن اللغة التي نزل بها الوحي لم تعد مستعملة اليوم، فلسان القرآن المجيد عربي مبين، ولسان كثير من التنويريّين صحفي هجين، أو هو أكاديمي جاف.

وثالثها: أن القرآن كتاب هداية ومنهج حياة، والهداية يقين بالغيب، ومنهج الحياة معايشة وليس “موسوعة معارف” فإبليس كان عالما بفقه السجود وعارفا أن بعد الموت بعثا وحسابا وجنة ونارا، ولكنه فسق عن أمر ربه بظن أن النار أفضل من الطين.

فما يسميه التنويريون تراثا ليس كله تاريخا وثقافة وفنونا و”فولكلورا” وإن كان فيه شيء من هذا فإن أغلبه جهد فكري كان في زمانه نورًا على طريق الهداية عرف به غير المسلمين عظمة هذا الدين، وعلى من كان مستنيرا تقديم ما عنده من إضافة دون تطاول على من سبق، وليوقن أنه بعد ألف عام سيظهر “تنويريون جدد” ينقضون ما أسس له أسلافهم بالقطيعة معهم ويصدق عليهم قوله تعالى “كلما دخلت أمة لعنت أختها”.

  • ما موقفكم العلمي والفكري من منهج “الجذر اللّغوي” لدعاة التنوير، والمستند حصريا إلى القواميس العربية في تفسير القرآن وفهم أحكامه؟

إتقان اللغة التي نزل بها القرآن المجيد وسيلة لا حيدة عنها لفهم معانيه، لكن القرآن نزل بلسان أوسع من اللغة، فلا يكفي تتبّع “الجذر اللغوي” لفهم المجاز، وهو كثير في كتاب الله تعالى، فالعمى مثلا عمى بصيرة وليس بصرا، والاستهزاء والمكر والنسيان.. إذا نسبت لله (جل جلاله) حُملت على المُشاكلة والمجاز وليس على حقيقة ما يدل عليه أصل الكلمة أو أصل نشأتها أو جذرها.

فالتفسير اللغوي لكلام الله هو شرح لألفاظه يشبه ترجمته إلى لغة غير العربيّة، فيقال: هذه معاني القرآن بالفرنسيّة أو الإنجليزيّة أو الرّوسية أو الصّينية.. إلخ ولا يقال: هذه ترجمة كلام الله (جل جلاله). فألفاظ القرآن ليست جذورًا معجميّة صرفيّة أو صوتيّة أو إعرابيّة داخلة في أبنيّة الكلمات، إنما هو حياة وحركة ونور وشفاء لما في الصّدور. وفهمه أوسع من أن يُحصر في تدقيق أصل الكلمة لأنّه معاينة تتعانق وتتعاشق وتتجاذب حتّى أنه يستحيل استبدال لفظة بمرادفتها.

 
  • تنادي رموز من تيار الحداثة الإسلامية بتحرير النص القرآني من سلطة الفقهاء والأصوليين لصالح المفكرين وفلاسفة العقلانية وحتى التاريخ، هل ترون ذلك مبررا؟

القرآن بحر زخار، ومن المفسرين سابح بشاطئه وغائص في أغواره ومتزحلق على صفحته وغارق في أمواجه. والنص حر ليس لفقيه عليه سلطان ولا هو رهينة لأصولي ولا حبيس لمؤرخ أو لغوي أو عالم موسوعي. والادعاء بتحريره من سلطة هؤلاء هي دعوة لاحتلاله من دعاة تحريره، وإلا فما الداعي لاحتكاره من سلطان معاند؟

أما مخاطر هذه الدعوة فكثيرة أظهرها خطران :

ـ خطر قطع صلة الأمة بالمأثور، وهو المدخل الرئيس لفهم كلام الله.

ـ خطر فتح باب المحدثات في الفكر والفهم والخطاب.

والقرآن براء من الغلو في الدين قراءة وفهما وتفسيرا وممارسة ، وهو ما حذر الله (جل جلاله) منه أهل الكتاب.

  • في ضوء تطوّرات العصر وتحولاته الجذرية هل تؤيدون دعوات التفاسير المفتوحة للقرآن الكريم على القيم الكونية؟ وما ضوابطها المانعة من الزلل؟

الله (جل جلاله) رب العالمين وليس رب المسلمين فحسب؛ وخطابه للثقلين، والإسلام دعوة عالمية، ومن خصائصه الواقعية، فلا يكون تفسيره إلا حاملا لقيم إنسانية كالحرية والهجرة وكرامة الإنسان والتعايش والمواطنة.. وما تضيق به أخوة الدم والعقيدة تتسع له “الأخوة الإنسانية” ما لم يفسدها عدوان يقوض أركانها أو طغيان يهدم بنيانها.

أما أهم ضوابط ما تسميه “التفسير المفتوح ” فثلاثة:

ـ إتقان اللغة التي نزل بها الوحي.

ـ الاطلاع على آراء السابقين وتأمل ما فيها من جهد وصواب.

ـ اجتناب الغلو والاعتداد بالرأي والمجاملة على حساب الحق.

وما يأتي بعد هذا فاجتهاد بشري محكوم بما تتحمله النصوص بغير شطط ولا تفلت. وهو ما حاولنا الدندنة حوله بربط منطوق الوحي بمفهوم العصر لإعادة إحياء الدين في النفوس والعقول بما تم به الإحياء أول مرة، بلغة سهلة وبلسان عالمي منفتح على العصر.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *