الدوحة- توقّع خبراء اقتصاد محلّيون في قطر أن تنجح الدوحة، ودول الخليج عامة، في كبح جماح التضخم الذي سجّل معدلات غير مسبوقة في العالم بأسره، وذلك نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة وتأثر سلاسل الإمداد.
ولفت الخبراء إلى أن دول الخليج تمتلك ميزة مهمة في مواجهة التضخم، وهي الفوائض المالية الناجمة عن عائدات النفط والغاز.
وتتفق توقعاتهم مع تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، بأن دول مجلس التعاون الخليجي ستستمر في نجاحها باحتواء التضخم الذي قد يتجاوز معدل 10% بمنطقة الشرق الأوسط العام الجاري، ولكنه من المتوقع أيضا أن يتراجع تدريجيا مع استقرار أسعار السلع الأولية.
تصاعد أسعار الطاقة
وقال أستاذ المالية المشارك بكلية الإدارة والاقتصاد في جامعة قطر رامي زيتون للجزيرة نت، إن معدلات التضخم وصلت لمستويات مرتفعة خلال العام الماضي في جميع دول العالم، ولكنها ما تزال أقل بكثير في دول الخليج العربي مقارنة بدول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ويرجع زيتون ارتفاع مستويات التضخم في دول الخليج لعدة أمور؛ منها تصاعد أسعار الطاقة التي تعتبر المحرّك الرئيس لارتفاع تكاليف الغذاء، بالإضافة إلى تأثّر مصادر الغذاء التي يتم الحصول عليها من أوكرانيا، لافتا إلى أن معدل التضخم بدول الخليج يتراوح ما بين أقل من 2% إلى ما يقارب 6% بمتوسط 4%، وهو معدل أقل بكثير من الدول الأوروبية وبريطانيا والولايات المتحدة.
ويعتبر التضخم في دولة قطر مرتفعا مقارنة بالدول الخليجية الأخرى، وفق زيتون. ولكنه بدأ في الانحسار حيث كان في سبتمبر/أيلول الماضي 6% بينما تراجع إلى 5.9%، ومن المتوقع أن يواصل انخفاضه خلال الفترة المقبلة.
ويوضح أستاذ المالية أنه من المهم أن ننظر إلى التضخم من زاوية أخرى وهي ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ حيث نجده في قطر من أقل المعدلات على مستوى الخليج العربي بمعدل 1.6%، فيما يصل هذا المعدل في دول أخرى بالخليج إلى 4.6%.
وتابع “رغم ارتفاع التضخم في أسعار المواد الغذائية بدول الخليج فإنه يعتبر منخفضا للغاية مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة حيث يصل في بريطانيا إلى 17% وفي الولايات المتحدة إلى 10.5% وذلك لأول مرة منذ 40 عاما”.
عوامل كبح التضخم
وحول عوامل نجاح دول الخليج في مواجهة التضخم، يشير زيتون إلى ارتفاع أسعار موارد الطاقة من النفط والغاز الذي أدى لتحقيق فوائض نقدية كبيرة تم استغلالها من قبل هذه الدول لكبح جماح التضخم، فضلا عن عوامل أخرى مثل وضع سقوف للزيادة في أسعار البترول، مما أسهم في تقليل تأثير التضخم على سكان هذه الدول.
وهذا إلى جانب عوامل أخرى تشمل قيام دول الخليج بزيادة الإنفاق، وكذلك زيادة الدعم الحكومي من خلال البرامج الاجتماعية، مما أسهم في تقليل تأثير التضخم على السكان. بالإضافة إلى تنوع مصادر استيراد المواد الغذائية التي أتاحت لهذه الدول الحصول عليها بأسعار أقل بدل استيرادها من دول تضررت بارتفاع الأسعار العالمية.
وحول التوقعات لمستويات التضخم خلال العام الجاري، قال زيتون إنه وفقا لتقارير صندوق النقد الدولي فإن التضخم سينخفض ولكن الانخفاض لن يكون بشكل كبير على مستوى العالم.
ولكن بالنسبة لدول الخليج، فمن المتوقع أن ينخفض بشكل واضح خاصة في دولة قطر بحيث لا يتجاوز 3.3% خلال الأشهر المقبلة. أما دول الخليج الأخرى فستنخفض المعدلات أيضا بنسب متفاوتة، فيما يتوقع أن تظل معدلات التضخم مرتفعة في بريطانيا وأوروبا نظرا لارتباطها بمصادر الطاقة الروسية.
الدعم الحكومي للرواتب
من جهته، يعتقد الخبير الاقتصادي عبد العزيز الحمادي أن التضخم في دولة قطر، ورغم ارتفاعه بشكل واضح، فإن تداعياته على السكان ليست خطيرة مقارنة بالكثير من دول العالم، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة؛ حيث تعتبر قطر من بين أكبر الدول في العالم إنتاجا وتصديرا لها.
ولفت الحمادي، في حديث للجزيرة نت، إلى أن استمرار الحرب الأوكرانية الروسية لا يبشر بتراجع التضخم في الكثير من دول العالم مما يضع شعوبها تحت وطأة الارتفاع الكبير في أسعار جميع المنتجات والأغذية، باستثناء دول الخليج التي تعتبر الأقل تأثرا خاصة نتيجة الدعم الحكومي للرواتب مما ينعكس بالطبع على مستوى المعيشة والقدرة على مواجهة الغلاء.
وأوضح الحمادي أن ارتفاع أسعار الطاقة انعكست بشكل واضح على الموازنة العامة لدولة قطر التي شهدت فائضا ماليا يقدر بما يقرب من 30 مليار ريال، وهو ما يوضّح إلى أي مدى استفادت هذه الدولة من ارتفاع أسعار الطاقة.
ولكن البعض، كما يقول الخبير الاقتصادي، يتخوف من إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاس ذلك على استمرار تصاعد معدلات التضخم وارتفاع الأسعار حول العالم لأنه بالتأكيد سينعكس على مستوى معيشة الفرد، إذ يتم استيراد المنتجات الغذائية ومتطلبات الإنتاج بأسعار مرتفعة وبالتالي سيتحمل السكان فاتورة هذا الارتفاع.
التضخم عدو التنمية
وفي السياق ذاته، يتوقع الخبير الاقتصادي والأكاديمي عبد الرحيم الهور للجزيرة نت، أن يشهد العام الجاري تراجعا في معدل التضخم بدولة قطر وفي دول الخليج الست، وذلك وفقا لمؤشرات مؤسسات اقتصادية عالمية.
وأرجع الهور السبب في ذلك إلى تعزيز قطر قدرتها على مواجهة ظاهرة ارتفاع الأسعار العالمية في جميع المنتجات من خلال استغلال مواردها الطبيعية المتمثلة في مصادر الطاقة وخاصة قطاع الغاز الذي تحتل فيه الصدارة العالمية في الإنتاج والتصدير.
ولفت إلى أن منطقة الخليج تتأثر بحساسية مفرطة تجاه التضخم بكل أنواعه، سواء على صعيد المستورد بحكم الارتباط بالدولار، أو العقاري بحكم زيادة عرض النقد وارتفاع تكاليف الإنتاج والدخل، أو الطبيعي المرتبط بالقيمة الزمنية الطبيعية للنقد.
وبحسب الخبير الاقتصادي، فإن التضخم بشكله الشمولي هو أكبر أعداء التنمية الاقتصادية للدول، “ويجب أن نعلم أن أثر التضخم يختلف من دولة إلى أخرى باختلاف الهيكل المالي التشغيلي والإقراض داخل هذه الدولة، وعليه فإن ما ينطبق على الولايات المتحدة من خطط مالية وتنموية لمعالجة التضخم، قطعا لا ينطبق على باقي الدول، فالهيكل المالي في الولايات المتحدة يعتمد على الإقراض المنظم المطلق من حيث شروط الإقراض وأسعار الفائدة، للسيطرة على الاقتصاد والتنمية”.
وأوضح أن الأمر يختلف في منطقة الخليج حيث يعتمد الاقتصاد والتنمية على الإنفاق الحكومي المتسلسل، والاقتصاد المشترك، ولا يستطيع الاقتصاد الخاص التحرك منفردا، نظرا للارتباط بالإنفاق الحكومي والمشترك.
ويوضح الهور أن الإجراءات العلاجية التي تقوم بها الولايات المتحدة من رفع الفائدة، قد تكون مفيدة في موطنها ولكن ليس بالضرورة مفيدة في قطر على سبيل المثال.
ولفت إلى تأثير التضخم السعري العقاري على رفع تكاليف الإنتاج، فسعر أي خدمة أو سلعة يعتمد بشكل كبير على تكلفة سكن الموظف وإيجار مقر العمل والذي ينعكس على رفع الأسعار بشكل شمولي. وبالتالي، تحقيق التضخم السلبي بمعناه الصريح وهو تراجع القيمة الشرائية للعملة (تآكل قيمة النقد) وهو الأمر الذي يضر بشكل كبير باقتصاد الدولة والأفراد.
ونتيجة لذلك، تضطر الدولة مع تراجع قيمة عملتها داخل حدودها إلى زيادة حجم الإنفاق لتغطية العجز، وهذا يحتاج إلى الاقتراض بعدة أشكال، أهمها سندات الخزينة والتي تحمل عوائد تلتزم الدولة بسدادها بالإضافة إلى قيمة السندات، كما يقول الهور.
ومع استمرار حالة التضخم الداخلي والتضخم المستورد، يقول الهور إن الدولة تحارب على عدة جبهات خارج إطار مفهوم التنمية الاقتصادية، بمعنى أن التحدي يتحوّل من التنمية الاقتصادية المعتمدة على المشاريع والتشغيل والإنتاج ورفع كل مكونات الناتج المحلي إلى معركة مع “عدو سرطاني” يأكل مكونات التنمية بصمت، وهو التضخم بكل أنواعه، من مستورد بأسعار الفائدة، وعقاري برفع تكاليف الإنتاج، أو حتى التضخم النظامي بحكم القيمة الزمنية للنقد، وبالتالي لا بد من أخذ إجراءات سريعة وعملية وفاعلة في هذا الصدد.