بعد تولّي الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن السلطة ستتغير بعض عناصر السياسة الأميركية تجاه روسيا على الفور. لن يسعى رئيس الولايات المتحدة بعد الآن ليكون صديقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على غرار ما فعله الرئيس السابق دونالد ترامب. لن يتردد بايدن في انتقاد سلوكيات بوتين العدوانية، خصوصا تلك الموجهة ضد الولايات المتحدة. كما أن إدارة بايدن ستُعيد دمج المعايير الليبرالية والقيم الديمقراطية مرة أخرى في سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا، ولذلك فإن بوتين عليه أن يتوقع المزيد من النقد للاستبداد الروسي، والمزيد من الدعم لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى أن خطاب الولايات المتحدة عن حلفائها عبر الأطلنطي سيتغير بصورة ملحوظة، إذ ستنتهي حقبة توبيخ “الناتو”.
تعتبر هذه خطوات متوقعة وسهلة، لكن المهمة الأصعب تكمن في تكوين إستراتيجية جديدة متماسكة تجاه روسيا من شأنها الموازنة بين احتواء موسكو والشراكة معها في حدود ضيقة للحفاظ على المصالح المشتركة. ومن أجل الوصول إلى ذلك، ستحتاج إدارة بايدن إلى صرف الأساطير والمفاهيم الخاطئة التي أعاقت التحليل الأميركي حول موسكو لسنوات، واستبدال ذلك بتقييم دقيق لنوع التهديدات التي يُشكِّلها بوتين بالفعل، والطريقة الفعالة التي يمكن للولايات المتحدة أن تُواجهه بها.
يُخيِّم ضباب المفاهيم الخاطئة على التفكير الأميركي فيما يخص روسيا، فمثلا يفترض كثير من المحللين خطأ أن روسيا قوة متدهورة. ففي الشهر الماضي سخر السيناتور ميت رومني، وهو جمهوري من ولاية يوتاه، من أن “روسيا عبارة عن محطة بترول تتصرف كأنها دولة”، مضيفا أن موسكو كانت “تحاول النهوض في لحظة أفول وتدهور”. لكن عفا الزمن على مثل هذه التحليلات. لا يمارس بوتين السلطة بالطريقة نفسها التي مارسها أسلافه السوفييت في السبعينيات من القرن الماضي، أو تلك التي يمارسها الرئيس الصيني شي جينبينغ اليوم، لكن روسيا اليوم هي على النقيض من الدولة الضعيفة والمتداعية التي كانت عليها في التسعينيات، إذ إنها نهضت من جديد، على الرغم من الاتجاهات الديموغرافية السلبية وتراجع إصلاحات السوق، لتكون واحدة من أقوى دول العالم وقوة لا يستهان بها عسكريا وسيبرانيا واقتصاديا وفكريا.
تظل روسيا قوة عسكرية هائلة، وإحدى القوتين العظميين النوويتين الوحيدتين في العالم، إذ استثمر بوتين بقوة في رفع القدرات النووية، على خلاف ما فعلته الولايات المتحدة. كما أنه كرّس موارد واسعة لتحديث القوات العسكرية الروسية التقليدية. وعلى الرغم من أن القوات المسلحة التابعة للكرملين ليس لها امتداد أو تأثير عالمي، فإنها تفرض تهديدا كبيرا على أوروبا، بل إنها تتفوق على “الناتو” في بعض الجوانب، بما فيها عدد الدبابات، وصواريخ كروز، وأعداد الجنود على الحدود بين روسيا والناتو. كما استثمر بوتين استثمارا كبيرا في أسلحة الفضاء، والاستخبارات، والإمكانيات السيبرانية، التي لم تعلم عنها أميركا إلا بالتجربة الصعبة حينما كشفت حملة الاختراق الروسي الشهر الماضي. في المقابل فإن تحالفات موسكو الرسمية أقل (وأضعف) من تحالف واشنطن، لكن علاقتها مع الصين، بما فيها العلاقات العسكرية المتعمقة، تشهد أوج مراحلها. ومن ناحية القدرة العسكرية الشاملة، فإن روسيا من المرجح أنها ثالث أقوى دولة في العالم.
ومن الناحية الاقتصادية فإن روسيا متأخرة كثيرا عن الولايات المتحدة والصين، لكنها ليست حالة ميؤوس منها كما يتصورها الأميركيون. فلديها اقتصاد يقع في المركز الحادي عشر على قائمة أكبر الاقتصادات في العالم، وفي المركز السادس من حيث تعادل القوة الشرائية، فالناتج المحلي الإجمالي الروسي أكبر من نظيره الصيني من حيث نصيب الفرد. ويبسط بوتين سيطرته على نسبة من الموارد الاقتصادية للدولة أكبر بكثير من تلك التي يسيطر عليها القادة الديمقراطيون في الاقتصادات الأكبر، ويعود الفضل في ذلك إلى إعادة تأميم بوتين للممتلكات، والتدخلات الحكومية الأخرى في الاقتصاد. وبالتأكيد فإن بوتين لديه موارد اقتصادية تحت تصرفه تكفي لسعيه نحو أجندة عدوانية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
علاوة على ذلك، يمتلك بوتين قوة أيديولوجية معقولة، إذ إنه استثمر بقوة في أدوات القوة الناعمة، بما فيها محطات تلفزيونية وراديو ومنصات تواصل اجتماعي (التي أصبحت روسيا بارعة في تنفيذ عمليات تضليل معلوماتي سرية من خلالها) تتنوع بين تلك المملوكة للدولة وبين أخرى مقربة من الكرملين. فشبكة “روسيا اليوم”، التي تزعم أنها القناة الإخبارية الأعلى مشاهدة على يوتيوب، لديها ميزانية سنوية تُقدَّر بـ 300 مليون دولار. كما شجّع نظام بوتين على تدشين عدد هائل من المنظمات شبه الحكومية، بما في ذلك: وكالة أبحاث الإنترنت سيئة السمعة، وجماعة فاغنر العسكرية الخاصة، ومؤسسة حماية القيم الوطنية، والوكالة الدولية للتنمية السيادية، ورابطة البحث الحر والتعاون الدولي. وبكل أذرع التأثير هذه لا يمكن اعتبار بوتين رئيسا لقوة متداعية أو متدهورة، فمثل هذه التحليلات تبعث أملا كاذبا.
وعلاوة على السلطة، فإن بوتين لديه هدف، إذ تُحرِّكه بشدة مجموعة من الأفكار التقليدية اللا ليبرالية المناهضة للديمقراطية والمعادية للغرب. غالبا ما يتصور المحللون الأميركيون أن بوتين “قائد تبادلي”، كنت سمعت هذا المصطلح مرارا أثناء خدمتي في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وهذا حكم خاطئ. فبوتين، مثله مثل قادة العالم كله، سيسعى نحو اتفاقات ذات منفعة متبادلة مع الدول الأخرى عندما يعتقد أنها تُعزِّز ما يراه على أنه مصلحة روسيا الوطنية، لكنه أيضا قائد أيديولوجي، فكثير من قراراته داخليا وخارجيا تتحكم فيها رغبته في تعزيز نظرته العالمية المناهضة للغرب.
بدأ بوتين حياته السياسية انتهازيا، يعمل لدى قادة مؤيدين للغرب مثل عمدة سان بطرسبرغ أناتولي سوبتشاك، والرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن. وكلما ترقّى بوتين في المناصب، كان ينجذب نحو القيم غير الليبرالية، والقومية، والتقليدية. فخلال عقده الأول في السلطة، ركّز بوتين على تعزيز هذه القيم داخل روسيا عن طريق قمع الممارسات الديمقراطية والأفكار الليبرالية، والسيطرة الأكبر على إعلام الدولة، وإعادة كتابة مناهج التاريخ المدرسية، وإصدار قوانين معادية لحقوق مجتمع الحقوق الجنسية، وتوثيق العلاقات بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وفي عقده الثاني في السلطة، أولى بوتين انتباها أكبر وموارد أكثر للترويج لقيمه غير الليبرالية خارجيا. وفي نهاية المطاف، لماذا قد يستثمر بوتين مئات الملايين من الدولارات في توسيع النطاق العالمي الذي تصل إليه شبكة “روسيا اليوم” إن كان مجرد قائد تبادلي واقعي؟
حاول بوتين متعمدا تنصيب نفسه قائدا للعالم المحافظ غير الليبرالي، وهو الدور الذي يعتبره معارضة لليبرالية الدولية التي تُمثِّلها الولايات المتحدة. ومن أجل تحرير أوروبا من السيطرة الإمبريالية للناتو، يناصر بوتين السيادة. وللدفاع عن الاستبداد، ينتقد بوتين الولايات المتحدة لدعمها ما يُعرف بالثورات الملونة سواء في صربيا أو جورجيا أو أوكرانيا أو الشرق الأوسط خلال الربيع العربي. ومن أجل مواجهة ما وصفه بالانحلال الليبرالي الغربي، ينشر بوتين تعريفه الخاص للمسيحية وقيم الأسرة المحافظة التي يؤكد أنها محورية بالنسبة للهوية الروسية وللحركات المحافظة المتنامية في أرجاء العالم. وعلى الرغم من أن بوتين أقل ديماغوجية من الشعبويين الآخرين، فإنه يتبنّى جزءا من خطابهم ومنهجهم، مُقسِّما كل المجتمعات بما فيها المجتمع الروسي إلى شعب “حقيقي” ونخبة مستغِلَّة، ناهيك بأن بوتين نفسه يرتبط بعمق بالنخبة الاقتصادية الروسية الحاكمة.
تنتصر “البوتينية” بصورة رئيسية في أوروبا، لكن أيضا في الولايات المتحدة ودول أخرى. أشار بوتين منذ عدة سنوات إلى “اكتساب ما يُعرف بالقيم المحافظة أهمية جديدة”، مستشهدا على ذلك بالنجاح السياسي لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، والسياسية الفرنسية ماري لوبان. وربما قد يُضيف بوتين اليوم إلى قائمة حلفائه الأيديولوجيين رئيس وزراء جمهورية التشيك أندريه بابيس، وقائد مشروع البريكست البريطاني نايجل فاراج، ونائب رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو سالفيني، ورئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش، وقائد “حزب من أجل الحرية” الهولندي خيرت فيلدرز. ويوجد في كل دول أوروبا تقريبا، والولايات المتحدة أيضا، حزب أو حركة سياسية تميل نحو البوتينية اللا ليبرالية أكثر من الليبرالية الغربية. ولطالما قلّل المسؤولون الأميركيون من أهمية هذا البُعد الأيديولوجي في المنافسة الروسية-الأميركية.
علاوة على ذلك، فإن صُنّاع السياسة الأميركيين يُقلِّلون من تقديرهم للسلوك الخطر الذي يمكن للقائد الروسي أن يسلكه ويتحمل عواقبه، ويفترضون غالبا أنه سيتصرف على نحو متوقع تجاه التهديدات والاستفزازات. لكن بوتين يتخذ مسلكا عدوانيا حتى عندما تكون التكاليف أعلى بكثير من المنافع، مثل: ضم القرم، والتدخل في حروب أهلية بالشرق الأوسط، وسرقة وثائق ونشرها في محاولة للتأثير في نتائج الانتخابات الأميركية 2016، ومحاولة اغتيال عميل الاستخبارات الروسية السابق سيرغي سكريبال في المملكة المتحدة.
إن بوتين قائد إصلاحي تجديدي أكثر بكثير من نظيره الصيني، فهو يرى أنه في حالة حرب مع الولايات المتحدة، وحلفائها، والمؤسسات متعددة الأطراف التي دشّنتها واشنطن. لم يعد بوتين يرغب في التعاون مع الغرب أو حتى يرغب في مكانة مقدرة في النظام الليبرالي العالمي، وبدلا من ذلك فإنه يسعى لتدمير هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
بوتين ليس حديث العهد بالحكم، وصار على ما هو عليه بعد عقدين من الزمان في السلطة، ومن غير المُحتمل أن يغير رأيه فجأة بشأن دولة يراها تهديدا أو أن يتبنى أي جهود من جانب إدارة بايدن لإطلاق أجندة ثنائية إيجابية من جديد. يجب على بايدن وفريقه القبول بأن بوتين لن يوقف هجومه على الديمقراطية والليبرالية والمؤسسات متعددة الجنسيات في المستقبل القريب، وبالتالي يتعيّن عليه الوقوف الند للند ضد بوتين واحتواؤه طويلا.
من المؤسف أن ما أوصى به جورج كينان، الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي، على صفحات المجلة نفسها (فورين أفيرز)، منذ 57 عاما تقريبا، ما زال ملائما للوضع الحالي: “يجب أن يكون العنصر الأساسي في أي سياسة أميركية تجاه الاتحاد السوفيتي هو طول المدى والصبر إنّما الحزم واحتواء الميول التوسعية الروسية بحذر”. يجب على صناع السياسة الأميركيين ألا يصوروا احتواء روسيا أو أيام المجد التي واجهوا فيها تهديد الاتحاد السوفيتي من منظور رومانسي، فالاختلافات بين الحرب الباردة وحقبة “السلام الساخن” الحالية كثيرة، وبعض هذه الاختلافات يجعل موسكو أقل تهديدا وبعضها يجعلها العكس من ذلك. لكن على بايدن وفريقه للأمن القومي عزل التصورات التي عفا عليها الزمن بشأن التهديد الروسي، وتكوين سياسة جديدة لاحتواء تأثير الكرملين الاقتصادي والعسكري والسياسي. يمكن لواشنطن العمل لمواجهة مشروع بوتين الأيديولوجي حتى أثناء العمل مع الحكومة الروسية في مساحات ضيقة من المصلحة المشتركة، وتعميق العلاقات مع المجتمع الروسي على اتساعه.
يجب أن يبدأ الاحتواء من الداخل الأميركي. يوضح الاختراق الروسي الأخير للحكومة الأميركية وقطاع الشبكات الإلكترونية الخاص أن الولايات المتحدة لم تستثمر بما يكفي للدفاع عن نفسها في مواجهة هجمات موسكو على شبكات الولايات المتحدة الرقمية. يجب على إدارة بايدن العمل مع الكونغرس لتكريس المزيد من الموارد لاحتواء التهديدات السيبرانية الروسية، خصوصا تلك الموجهة ضد البنية التحتية الحساسة مثل نظام الولايات المتحدة المصرفي، والشبكة الكهربائية، والقوات المسلحة، وأنظمة السلاح النووي. ويجب عليها أن تتحلى بمسؤولية أكبر لتعزيز الأمن الإلكتروني للأميركيين كافة. يتوقع المواطنون الأميركيون صد القوات المسلحة أو ردعها لأي هجمات جسدية من خصوم الولايات المتحدة، فلماذا لا يجب عليهم فعل الأمر ذاته في العالم الافتراضي؟
تحتاج حكومة الولايات المتحدة من أجل حماية شبكات المواطنين وشبكات القطاع الخاص إلى الكف عن الاعتماد على المنتجات التجارية والفاعلين الخاصين فيما يتعلق بأنظمة الدفاع الإلكترونية، والاستعانة بالمزيد من التكنولوجيا والخبرات الضرورية الموجودة في الداخل. فعلى الأقل، تحتاج إدارة بايدن إلى زيادة عدد العاملين في وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية وميزانيتها. كما اقترح خبير الأمن الإلكتروني أليكس ستاموس اقتراحا ذكيا بأن تدشن الإدارة فضاء إلكترونيا موازيا للمجلس الوطني لسلامة النقل، الذي يمكنه تتبع الهجمات والوصاية بطرق لتجنبها.
يجب أيضا أن يتضمن الاحتواء عنصرا اقتصاديا. يستخدم بوتين شركات وأموال روسية لتعزيز مصالحه في السياسة الخارجية، وبالتالي يجب على الولايات المتحدة والدول الغربية وضع إستراتيجية للحد من قوة موسكو الاقتصادية، وتحديدا عن طريق المطالبة بشفافية أكبر فيما يتعلق بالنشاطات المالية الروسية في الولايات المتحدة ودول أوروبا وآسيا. كما يجب أن تستفيد إدارة بايدن من التشريع الجديد بحظر الشركات الوهمية المجهولة من أجل كشف الاستثمارات الروسية المتخفية في قطاع الأعمال والعقارات الأميركي، والعمل مع الحلفاء الأوروبيين، لا سيما المملكة المتحدة، لمواجهة نشاط غسيل الأموال الروسي في كل الديمقراطيات المتقدمة. كما يجب حظر المشروعات الاقتصادية الروسية في الغرب التي لها أهداف جيوسياسية واضحة، مثل تدشين خط الغاز “نورد ستريم 2”.
في الوقت ذاته، يجب على إدارة بايدن إجبار مجتمع الاستخبارات الأميركي على رفع السرية عن المزيد من المعلومات حول أصول بوتين ونشاطاته وأعوانه. أظهر التفصيل الدقيق للنشاطات الروسية غير القانونية، الموثقة في تقرير المحامي الخاص روبرت مولر حول التدخل الروسي في انتخابات 2016، الإمكانيات الهائلة (وغير المستغلة) للمجتمع الاستخباراتي الأميركي. وبينما تحمي إدارة بايدن الأساليب والموارد، يجب عليها أيضا السعي إلى رفع السرية عن المزيد من المعلومات حول التحويلات المالية الروسية وغسيل الأموال في الولايات المتحدة والعالم.
من أجل أن تحتوي إدارة بايدن نفوذ بوتين الأيديولوجي داخل الولايات المتحدة، يجب عليها وضع تشريعات ومبادئ أوضح تطالب روسيا بمزيد من الشفافية بشأن جهودها للتأثير في الرأي العام الأميركي، سواء عن طريق وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي أو المؤسسات أو العمل الخيري أو المنظمات غير الحكومية. لم يُحرَز سوى القليل من التقدُّم في هذا الصدد، إذ اتخذت شركات مواقع التواصل الاجتماعي الأميركية سلسلة من الخطوات الاستباقية لتقليل المعلومات المضللة وزيادة الشفافية. لكن ما زالت الأعراف والقوانين التي من شأنها كشف عمليات التأثير الروسي والدفاع عن السيادة الأميركية وسيادة الحلفاء غير متطورة كفاية.
وأخيرا، يجب أن يتضمن الاحتواء داخليا جهودا لمواجهة التدخُّل الروسي في الانتخابات الأميركية مستقبلا. صيغت عشرات الإصلاحات الانتخابية والأمن السيبراني، الكبيرة منها والصغيرة، لكنها لم تُصدر بوصفها قوانين حتى الآن. يجب أن تعمل إدارة بايدن مع الكونغرس لإصدار هذه الإصلاحات وتنفيذها، والبداية بقانون “الدفاع عن الانتخابات ضد المتصيدين من أنظمة العدو” (DETER Act) (قانون الردع)، وهو القانون الذي سيتسبّب في فرض عقوبات اقتصادية ضد الأنظمة التي يثبت تدخُّلها في الانتخابات الأميركية.
يبدأ الاحتواء في الخارج بالردع. منذ ضم بوتين شبه جزيرة القرم وتدخله في شرق أوكرانيا في 2014، تعهّد أعضاء حلف “الناتو” بزيادة إنفاقاتهم الدفاعية إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ورفعوا عدد القوات المتمركزة في كلٍّ من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، وخصّصوا المزيد من الموارد لمواجهة العمليات الاستخباراتية الإلكترونية والمعلومات المضللة. كما بادرت الولايات المتحدة بإطلاق مشروع بتكلفة مليارية لرفع وجودها العسكري في أوروبا، وساعدت في تعزيز جهود تأهُّب الناتو، ما مكَّن الحلف من تمركز 300 ألف جندي و30 سفينة بحرية مقاتلة و30 سرب جوي في الدول الأعضاء الواقعة في أقصى الشرق خلال مدة 30 يوما.
هذه المبادرات جيدة لكنها ليست بالكافية. يحتاج الناتو إلى قوات برية تقليدية ذات قدرات أكبر لصد أي هجوم روسي، لا سيما في مناطق الحلف الضعيفة في جناحه الجنوبي. كما يجب على الحلف تحسين النقل العسكري بين الدول، ومعالجة الانقسامات السياسية العميقة بين الدول الأعضاء خصوصا بين المجر وتركيا والحلفاء الآخرين. كما يحتاج الناتو إلى إعادة تأكيد التزامه بالقيم الديمقراطية، إذ يجب عليه وضع الحد الأدنى من معايير الحوكمة التي يجب على الدول الأعضاء استيفاؤها أو أن تواجه خطر تعليق عضويتها.
تتطلّب هذه التحسينات قيادة أميركية متجددة للحلف. يجب على بايدن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة أصبحت ملتزمة مرة أخرى بالدفاع عن حلفائها في الناتو، والعمل مع القادة الحلفاء لتعزيز التأهب العسكري. كما يجب عليه الاستمرار في تشجيع أعضاء الناتو للوفاء بوعد رفع الإنفاق، وأيضا تكريس المزيد من الموارد المجمعة للحلف من أجل تحسين النقل العسكري وقدرات وسائل النقل. كما يتعيّن على إدارة بايدن الدفع لتحديث إستراتيجية الناتو البحرية: إذ يحتاج الحلف إلى أنظمة أسلحة جديدة، بما فيها فرقاطات مزودة بتكنولوجيا مضادة للغواصات، وغواصات نووية وأخرى تقليدية، وطائرات دوريات.
علاوة على ذلك، ومع إعادة تأكيد الولايات المتحدة التزاماتها تجاه الحلف، يجب على بايدن التشديد على أن التحالف هو بالأساس تحالف دفاعي لم يهاجم روسيا من قبل وسيكون من الجنون إذا ما فعل ذلك في أي وقت. وبالفعل، فإن أفضل طريقة للحفاظ على السلام في أوروبا هي تأكيد إدراك بوتين للعواقب الوخيمة المترتبة على العداء العسكري ضد أيٍّ من أعضاء الناتو.
بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على إدارة بايدن مواجهة العدوان الروسي ضد الشركاء من خارج حلف الناتو. ولا توجد ساحة للقتال من أجل احتواء بوتين أهم من أوكرانيا. فإن أفضل طريقة لمواجهة عدوان موسكو الأيديولوجي والعسكري في أوروبا تتمثّل في بناء أوكرانيا لتكون دولة آمنة ومزدهرة، حتى مع بقاء بعض مناطق البلاد تحت الاحتلال الروسي. ستُلهم أوكرانيا الديمقراطية الناجحة الاحتمالات الديمقراطية الجديدة في الداخل الروسي وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة الأخرى، تماما مثلما ستخدم أوكرانيا الفاشلة ديمقراطيا واقتصاديا سردية بوتين حول انعدام جدوى الثورات المُموَّلة زعما من الولايات المتحدة. وبالتالي على إدارة بايدن زيادة دعم الولايات المتحدة العسكري والسياسي والاقتصادي لأوكرانيا لمساعدة جهودها الإصلاحية المتعثرة في النجاح.
قد أضرّ ترامب كثيرا بالعلاقات الأميركية الأوكرانية. قدّمت إدارته بالفعل مساعدات للجيش الأوكراني، وزوّدت التدريب العسكري والمساعدات الأميركية لكييف. لكن كما عرف العالم خلال جلسات الاستماع لعزل ترامب (في المرة الأولى) فإنه قوّض هذه العملية بمحاولته تعزيز المساعدة الأميركية لدفع جهود إعادة انتخابه في 2020. فخلال سنوات ترامب انجرفت أجندة الإصلاح الاقتصادي والسياسي الأوكرانية، وتنامى التأثير السياسي لتكتلات الشركات الكبرى. وفي العهد الجديد لبايدن يجب على الهيئات الأميركية، المتمثلة في الوكالات الفيدرالية والكونغرس والشركات والمنظمات غير الحكومية، الاشتراك بصورة أعمق مع الحكومة والمجتمع الأوكراني للمساعدة في الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية.
وفي الوقت نفسه، يجب على إدارة بايدن الإبقاء على، إن لم يكن تعميق، النظام الحالي من العقوبات الاقتصادية بحق موسكو. كان الرئيس السابق باراك أوباما يعمل بصورة وثيقة مع الحلفاء والشركاء لتطبيق مجموعة من العقوبات المتماسكة التي لم تشهد روسيا مثلها من قبل عقابا لها على ضم شبه جزيرة القرم والتدخُّل العسكري في أوكرانيا. وما دام بوتين مستمرا في احتلال منطقة القرم، يجب أن يستمر تصعيد العقوبات. وعلى الأقل، فإنه على فريق بايدن الإبقاء على العقوبات الموجودة حاليا بالفعل، في ظل تنامي التخاذل في أوروبا. وأي رفع للعقوبات قبل تراجع بوتين عن سلوكه في أوكرانيا سيبعث بإشارة سيئة للغاية.
ويجب على إدارة بايدن أيضا السعي إلى دعم الدول الأخرى على الحدود مع روسيا، إذ تستحق كلٌّ من أرمينيا وجورجيا ومولدوفا وأوزباكستان الارتقاء بمستوى العلاقات الدبلوماسية معها. وعلى بايدن أن يلتقي بزعيمة المعارضة في بيلاروسيا سفياتلانا تسيخانوسكايا، ليبعث رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لن تُصلح العلاقات مع الرئيس أليكساندر لوكاشينكو، كما فعلت مرات سابقة في الماضي. ظهرت ليتوانيا باعتبارها مدافعة شرسة عن الحرية في المنطقة في السنوات الأخيرة، لذلك يجب على بايدن تكريم فيلنيوس بتعيين سفير أميركي رفيع المستوى هناك لديه سجل حافل في تعزيز حقوق الإنسان.
صرّح بوتين أن الليبرالية عفا عليها الزمن، ويجب على إدارة بايدن إثبات خطأ بوتين، أولا وقبل كل شيء عن طريق استعادة أميركا للديمقراطية في الداخل. وفي الوقت نفسه يجب على الرئيس الجديد الوفاء بالوعد الذي أطلقه في حملته الانتخابية بإعلاء قيم الولايات المتحدة في إدارتها للسياسة الخارجية، وإظهار الاحترام لروسيا على وجه الخصوص، عن طريق التنديد بالسلوكيات المناهضة للديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، ولكن أيضا عن طريق إتباع هذه الكلمات بالأفعال. كما يتعيّن على إدارة بايدن فرض عقوبات على هؤلاء الذين سمَّموا قائد المعارضة الروسي أليكسي نافالني العام الماضي (وألقوا القبض عليه حاليا عقب عودته إلى روسيا)، وفعل الأمر ذاته مع هؤلاء المستمرّين في الإساءة إلى المتظاهرين السلميين في بيلاروسيا. ويجب على بايدن فرض عقوبات ليس فقط على هؤلاء الذين يرتكبون هذه الانتهاكات في حقوق الإنسان، ولكن أيضا على الفاعلين الاقتصاديين الذين يدعمون مثل هذه الأفعال الإجرامية. إن تفعيل قانون “ماغنتسكي” الذي يقضي بفرض عقوبات على عدد قليل من العسكريين ذوي الرتب المنخفضة أو القضاة هو تماما ما يتوقعه كلٌّ من بوتين ولوكاشينكو، ولذلك يجب على بايدن فعل ما هو غير متوقَّع، وفرض عقوبات على أصحاب السلطة الحقيقية.
علاوة على ذلك، يجب على إدارة بايدن إعادة هيكلة حكومة الولايات المتحدة لتعزيز قيم الديمقراطية بصورة فعالة، إذ يجب عليها ضم مكاتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، التابعين لوزارة الخارجية، إلى مكتب الدبلوماسية العامة والشؤون العامة، وذلك من أجل مواءمة أفضل بين القيم الأميركية والاتصالات الإستراتيجية. ويجب تكليف وكيل الوزارة الذي سيكون مسؤولا عن هذا الملف بكشف المعلومات المضللة المناهضة لأميركا، بما فيها تلك الصادرة عن روسيا، وردعها وإبطاء انتشارها.
ستحتاج أيضا إدارة بايدن إلى إصلاح الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، التي استطاعت خلال إدارة ترامب وقف أضرار جسيمة. ويجب أن تعمل واشنطن لمواجهة المعلومات المضللة عن طريق صحافة حقيقية بأيدي صحافيين موثوقين في كلٍّ من روسيا وأوكرانيا والدول الأخرى في المنطقة. ومن أجل تحقيق ذلك يجب فصل “راديو أوروبا الحرة” و”راديو الحرية” عن الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، وإنشاء منظمة مستقلة، يبقى تمويلها مهمة الكونغرس لكن بمجلس إدارة خاص بها، وحاجز حماية أقوى يفصلها عن الحكومة الفيدرالية. ستحتاج واشنطن إلى وضع برامج وآليات جديدة من أجل دعم الصحافة المستقلة وجهود مكافحة الفساد في روسيا والمنطقة المجاورة، إذ إن التمويل الأميركي المباشر لوسائل الإعلام الروسية سيصمها. وبدلا من ذلك يجب أن تُركِّز الولايات المتحدة على توفير فرص تدريب قصيرة المدى، وبرامج زمالة لمدة عام في الجامعات الأميركية والأوروبية، وبرامج تدريب داخلي في مؤسسات الإعلام الغربية، إذ إن التعليم والتدفق الحر للمعلومات هما أكثر الأسلحة فعالية لدى الولايات المتحدة لمحاربة الدعاية الروسية.
يجب على إدارة بايدن تشجيع منصات التواصل الاجتماعي الأميركية ليكون لها دور في تقليل التركيز على المحتوى الذي يدعمه الكرملين أو على الأقل توفير المزيد من المعلومات عنه. كما يجب تعديل الخوارزميات المستخدمة في تصنيف المحتوى وتنظيمه في كلٍّ من “يوتيوب”، و”غوغل”، و”محرك البحث بينغ”، لتخفيض المعلومات التي تنشرها روسيا عبر قنواتها الدعائية. فعندما يظهر مثل هذا المحتوى في نتائج البحث، يجب على الشركات إقرانه بمحتوى مماثل من مؤسسات إخبارية أكثر موثوقية، أي إنه في كل مرة يظهر مقال أو فيديو لشبكة “روسيا اليوم”، يجب أن يظهر بجانبه تماما تقرير من شبكة “بي بي سي”. ويجب على إدارة بايدن العمل مع الديمقراطيات الأخرى حول العالم لوضع مجموعة مشتركة من القوانين والبروتوكولات لتنظيم الإعلام الذي تتحكم فيه الحكومة الروسية.
حتى في أثناء عمل واشنطن لاحتواء التأثير الروسي في الداخل والخارج، يجب أن تسعى لإشراك الكرملين في عدد قليل من المسائل ذات المصلحة المشتركة، في تشابه كبير لما كانت تفعله أثناء الحرب الباردة. فيجب على إدارة بايدن العمل مع بوتين على الفور لتمديد معاهدة ستارت لمدة خمس سنوات أخرى (اتفق الجانبان على تمديد المعاهدة بالفعل بعد نشر هذا المقال بأيام)، فهذه المعاهدة لا تمنع سباق التسلح غير المُجدي بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، لكنها أيضا تضع تدابير فحص وتدقيق من شأنها تقديم معلومات قيمة حول أسلحة روسيا النووية ومدى حداثتها. إن محددات المعاهدة مفيدة للولايات المتحدة على وجه الخصوص، نظرا لأن موسكو استثمرت بقوة في تطوير الأسلحة النووية في حين لم تفعل واشنطن المثل. عرض ترامب تضمين الصين في هذه المحادثات، ولا يجب على إدارة بايدن المُضي قُدما في هذه الفكرة. وبدلا من ذلك يجب على إدارته أولا السعي إلى تمديد ثنائي لمعاهدة “ستارت الجديدة” مع روسيا لخمس سنوات، ثم بعدها الانطلاق في محادثات مع الصين وروسيا وربما فرنسا والمملكة المتحدة حول معاهدة متعددة الأطراف مستقبلا، من شأنها وضع حدٍّ لتمركز الأسلحة النووية. وبكلمات أخرى فإن هذه الجهود يجب أن تكون متسلسلة وليس مرتبطة ببعضها.
بعد تمديد معاهدة “ستارت الجديدة” يجب على إدارة بايدن المحاولة لفتح حوار موسَّع مع موسكو حول القيود الممكنة على الأسلحة النووية غير الإستراتيجية، والأسلحة الأسرع من الصوت، وأنظمة التسليم الجديدة، وأسلحة الفضاء. غالبا ما سيرفض بوتين عرض إدارة بايدن لإجراء مثل هذه المحادثات، لكن على العالم أن يعرف أن موسكو هي مَن رفضتها وليست واشنطن. وفي مسار تفاوضي منفصل، يجب على خبراء الأمن الإلكتروني الأميركيين والروس المحاولة للوصول إلى اتفاق على الأصول التي يمكن استهدافها بصورة شرعية وتلك التي لا يمكن استهدافها، فمثلا يجب أن تكون أنظمة السلاح النووي والبنية التحتية خارج حدود القراصنة الروس والأميركان على حدٍّ سواء. مرة أخرى، لا يجب أن يكون أي طرف متوهما بشأن التقدُّم المحتمل على هذا الصعيد، لكن إدارة بايدن لن تخسر شيئا إذا ما عرضت إجراء المحادثات.
كما يجب على الولايات المتحدة السعي إلى العمل مع روسيا في عدد من القضايا الدولية المشتركة، مثل الجوائح، والتغير المناخي، ومنع الانتشار النووي، عن طريق المنظمات متعددة الأطراف، واحتواء سلوكها المُسيء في الوقت ذاته في منظمات أخرى متعددة الأطراف، بما في ذلك وأهمها “الإنتربول”.
وبصورة أعم، فعلى المسؤولين في إدارة بايدن السعي إلى التواصل بانتظام مع النظراء الروس من أجل خفض خطر سوء التفاهم. على الرغم من تقدير ترامب الشخصي لبوتين فإن الدبلوماسية الواقعية بين واشنطن وموسكو شهدت تدهورا على مدار السنوات الأربع الماضية، فنادرا ما أُجريت المحادثات رفيعة المستوى. فمثلا بعد أزمة الصواريخ الكوبية، وضعت الولايات المتحدة وقادة الاتحاد السوفيتي عددا من آليات إدارة الأزمات والوقاية منها لتجنُّب التصعيد غير المرغوب فيه وتقليل المفاهيم الخاطئة. ولهذا، ولمدة أربعة عقود ماضية، تجنَّب العالم أسوأ أشكال النزاع من الحرب التقليدية الشاملة أو الحرب النووية. يجب أن يكون الحد الأدنى من هذه الأهداف على قائمة مهام إدارة بايدن الجديدة، إذ ستستمر واشنطن وموسكو في الاختلاف والتنافس والاشتباك على خلفية كثير من القضايا مهما كان كم المحادثات التي يجرونها، لكن سوء التفاهم لا يجب أن يكون أبدا سببا للنزاع.
من أجل الاستمرار في أجندته المهووسة بمناهضة أميركا أغلق بوتين “هيئة السلام“، وألغى البرنامج الطلابي قديم العهد لتبادل “قادة المستقبل” بين المدارس الثانوية، ولاحق المؤسسات الأميركية والمنظمات غير الحكومية التي تعمل في روسيا، وذلك بسبب خوفه من التواصل الثقافي. يجب على إدارة بايدن إيجاد طرق جديدة لتنمية هذه الروابط حتى مع اعتراضات بوتين، فإن صقل الروابط مع المجتمع الروسي واستدامتها، على المدى الطويل، ستقوّض دعاية بوتين المناهضة لأميركا، وكذلك ستقوّض الصور النمطية الأميركية عن الروس.
يجب على الإدارة الجديدة تسهيل سفر الروس إلى الولايات المتحدة والدراسة فيها (وحث الحلفاء الأوروبيين على فعل الأمر نفسه)، فكلما أُصدرت التأشيرات الأميركية كان ذلك أفضل. يجب تشجيع الطلاب الجامعيين الروس على الذهاب إلى الولايات المتحدة وربما حتى يجب إعفاؤهم من شرط تأشيرة الدخول إلى البلاد، كما تستطيع وكالات مكافحة التجسس تولي اللازم واليقظة لاعتراض الجواسيس. يجب على إدارة بايدن إزالة العوائق أمام الروس الموهوبين للهجرة إلى الولايات المتحدة، وتشجيع شركات القطاع الخاص الروسي الشرعية على السعي نحو الاستثمارات والشراكات الأميركية. يكمن الهدف من تبنّي مثل هذا التواصل في إظهار الفوائد الاقتصادية للأسواق والتكامل الغربي وتكلفة ملكية الدولة والسلوك التجاري لهؤلاء الزائرين.
يتعيّن على إدارة بايدن تشجيع الدبلوماسيين الأميركيين كافة داخل روسيا للانخراط بنشاط في الدبلوماسية العامة، ويجب أن يصبح كل موظفي الخدمة الخارجية والكثير من الموظفين العاملين في وزارات ووكالات أخرى في موسكو أعضاء شرفيين في قسم الشؤون العامة. كما يجب على بايدن إلغاء قرار ترامب بإغلاق القنصليات الأميركية في كلٍّ من يكاترينبورغ وفلاديفوستوك، ويزود، بدلا من ذلك، هذه المراكز المهمة للقوة الناعمة الأميركية بالطاقم والموارد الضرورية لتفعيلها.
والأهم من ذلك يجب على إدارة بايدن -بالإضافة إلى المسؤولين المنتخبين والمعلِّقين والصحافيين- التوقف عن شيطنة الشعب الروسي، ويجب أن يبذل بايدن وفريقه جهدهم للتفريق بين روسيا والروس، أي بين بوتين والشعب الروسي. فمثلا، يجب على الإدارة إيضاح أن العقوبات الأميركية صُمِّمت لمعاقبة منتهكي حقوق الإنسان، ولتغيير سلوك بوتين العدواني في السياسة الخارجية، وليس للضرر بالشعب الروسي، ناهيك بإثارة مسألة تغيير النظام. على الأميركيين أن يتذكَّروا جيدا أن بوتين هو مَن ضم القرم وليس الروس، وأن بوتين هو مَن تدخَّل في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016 وليس الروس. فليس كل روسي يعمل في الولايات المتحدة يحاول سرقة ملكية فكرية أميركية، وليس كل طالب روسي في الولايات المتحدة هو جاسوس (الأغلبية العظمى منهم ليسوا كذلك)، وليس كل حساب تويتر روسي ينتقد السياسة الأميركية هو روبوت يتحكم فيه الكرملين. إن خيارات بوتين هي ما سرّعت من الصراع القائم بين واشنطن وموسكو، وليس التاريخ أو الثقافة الروسية. إن “رهاب” كل ما هو روسي والصور النمطية عن ميول روسيا الفطرية نحو الإمبريالية والديكتاتورية لا تخدم سوى مصالح بوتين.
دفع بوتين ونظامه الاستبدادي روسيا نحو النزاع مع الغرب الليبرالي الديمقراطي ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، لكن بوتين لن يحكم روسيا للأبد. يوما ما سيفتح التغيير في القيادة، وربما في نظام الحكم الروسي، احتمالية وجود علاقات أفضل بين واشنطن وموسكو. يمكن لإدارة بايدن البدء في التحضير لذلك اليوم، مهما كان بعيدا، عن طريق احتواء بوتين في الداخل والخارج، والاشتراك مع نظامه بحذر كلما أُتيحت الفرصة، ومخاطبة الشعب الروسي مباشرة.
—————————————————————————————–