“رسائل إلى لا أحد”.. إبراهيم عبد المجيد: عالمي ينهار وأحييه بالكتابة
لا أحد ينام في روايات إبراهيم عبد المجيد (76 عاما)، فالكتابة لها رائحة البارود، والصفحات تشعلها الحرائق، والحرب قدر كل إنسان.
يقول الروائي والقاص، الحائز على جائزتي الدولة التقديرية (2007) ونجيب محفوظ (1996) “لولا الفن والكتابة لمت قهرا، ولكي لا أصاب بالجنون أصنع عالما خاصا بي، عالم يختلط فيه الواقع بالخيال، والمتعة بالبؤس، وجعلت ليلي للفن والموسيقى والمتعة، وأما نهاري فهو للبؤس.. ولهذا اختزلته في النوم”.
وقد صدرت آخر أعمال الروائي إبراهيم عبد المجيد “رسائل إلى لا أحد” والتي يراها آخر رسائله في نعي معشوقته الإسكندرية، ولكن لا أحد يسمع له، فجعلها “رسائل إلى لا أحد” وتوقف بعد الرسالة السابعة خوفا من الموت حزنا.
أكثر من نصف قرن عاشه الروائي المصري في صحبة الرواية والقصة القصيرة، وفي كل رواية أو قصة يكتبها، مغامرة إبداعية جديدة، فلغته لم تفقد وهجها، وبراعته في تصوير الشخصيات تتجاوز كل محاولات الحداثة والتجديد، التقينا في القاهرة لنتحدث عن الإسكندرية، وكان هذا الحوار:
ماذا تمثل لك الكتابة، وكيف تعيش حياتك وأنت تكتب، وكيف عشت موتك وأنت في حجرة العمليات؟
أقول إنني لم أعش حياة واحدة، بل عشت حياتين، حياة معذبة مؤلمة، وحياة وهمية صنعتها على عيني، أهرب فيها من الواقع إلى عوالم أفضل في رواياتي وقصصي، فما حولي ينهار كل يوم، وما أكتبه يعيده إلى الحياة.
لما سافرت لسويسرا لإجراء جراحتين دقيقتين في العمود الفقري، كان شعوري أنني لن أرجع مرة أخرى، لصعوبة العمليتين ووجود ورم أثبتت التحاليل أنه حميد، لكن طالت العمليات لساعات طويلة، وبعد الجراحة انكسرت فقرة أخرى في الظهر، وجاءت البروستاتا لتزيد من وطأة المرض فشعرت بأنها النهاية.
وفي فترة النقاهة جمعت كل أبطال رواياتي في جردة حساب أخيرة أبرئ بها ذمتي مما فعلته بهم، لكني اكتشفت أن الكاتب مربوط بأقدار أبطاله، مطارد أينما ذهب، ولا خيار أمامه سوى السير في طريق لا يعرف منه رجوع.
هل هذه الكتابات هي آخر رسائلك لمعشوقتك الإسكندرية؟
عندما كتبت “لا أحد ينام في الإسكندرية” كتبت عنها في مرحلة كانت الإسكندرية مدينة العالم، وفي الستينيات والسبعينيات جاءت عليها مرحلة تدحرجت من العالمية للمحلية بسبب سياسة التأميم وسياسة القومية العربية، وفي نفس الوقت كان فيها آثار الروح العالمية، لكنها أصبحت مصرية، فكتبت رواية “طيور العنبر”، ولما مرت عليها سنوات ما بعد الانفتاح بدت على المدينة تحولات، فلا هي التي صارت عالمية ولا هي التي أصبحت مصرية، بل تحولت لمدينة “وهابية”، فكتبت عنها جزءا ثالث، وهو رواية “إسكندرية في غيمة”، والثلاثية ليست أجيالا، بل أراها رواية واحدة في أجزاء، من خلال تحولات في شكل وجوهر المدينة والمجتمع .
عندما كتبت ثلاثية الإسكندرية، هل كنت تقصد التأريخ للمجتمع الإسكندري، ورصد التقلبات العنيفة التي مرت بها مدينتك؟
انطلقت للكتابة عن الإسكندرية من رصد أثر الحروب على المدن، وكانت ذروة الألم الذي مر بالإسكندرية هي مرحلة الحرب العالمية الثانية، بما فيها معركة العلمين، والغارات التي شنتها دول المحور على الإسكندرية.
وفي نفس الوقت لم أعاصر أحداث الحرب العالمية، فأنا من مواليد 1946، لكن عشت حربا أخرى عام 1956، حيث شنت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل حربها على مصر، وجاء الجنود وتمركزوا بالصواريخ المضادة للطائرات على السطوح بالقرب من بيتنا، ورأيت الطائرات وهي تسقط، في تلك الليالي، حيث كانت تطفَأ الأنوار توقعا للغارات، ويتجمع الناس في البيت أو في الشارع، وبمناسبة الحرب، يحكون لنا عن الحرب العالمية الثانية، وبدأت فكرة الكتابة عن الحرب تراودني منذ ذلك الوقت.
وفي صيف 1990 قادتني الصدفة لزيارة مقابر ضحايا الحرب العالمية في العلمين، تفقدت خلالها المقابر وأنا أقرأ أسماء الجنود والضباط، ورجعت للسيارة، فجلست وبكيت، فقالت لي زوجتي “افتكرت أبوك؟” قلت لها “نعم”.
وفي تلك الساعة قلت “سأكتب رواية عن الحرب العالمية الثانية”.
ومرت 6 سنوات، وأنا أذهب لدار الكتب أتفقد صحف الحرب العالمية الثانية، أجهز للكتابة عن الحرب، فأعرف في أي وقت تقع الغارات؟ ومن هي الدول المتحاربة، وسير المعارك، وعدد الضحايا، وماذا يشغل الناس؟ وما يلبسونه من أزياء وخطوط الموضة، وأخبار الفن، والإذاعة، وماذا كانت تبث من برامج.
وكانت جريدة الأهرام من أكثر الجرائد التي اعتمدت عليها، كانت الصفحة الأولى كالآتي: 200 دبابة تم تدميرها للمحور، سقوط 50 طائرة للحلفاء، ووسط الصفحة استسلام جنود أميركيين، وفي الأسفل صورة للممثلة والفنانة العالمية “هيدي لامار” بالبكيني (ولدت في النمسا، وحصلت على الجنسية الأميركية ودخلت مجال التمثيل لتصبح أبرز نجمات الأفلام في الأربعينيات). وفي اليمين إعلان عن مقوي جنسي، وفي اليسار إعلان عن ويسكي وخمرة.
كانت الصفحة منوعة جدا، فألهمتني شكل الرواية، التي كتبتها به، وهو أن أعمل خبرا عن الحرب، وخبرا عن الحياة المدنية، أرسم الحياة بكل جوانبها.
وذهبت بها للأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير روايات الهلال، وبعد أقل من أسبوع اتصل بي وقال “لا أحد ينام في الإسكندرية”، ستنشر الشهر القادم، وكانت حديث الجميع، وتتابعت طبعاتها في أكثر من دار نشر، حتى تعدت طبعاتها المليون نسخة.
وبعد 1952 أصبحت الإسكندرية مدينة مصرية محلية، فانتبهت وكتبت “طيور العنبر” عن خروج الأجانب من الإسكندرية بعد حرب 1956، وأيضا قبل التأميم سنة 1960، وهو ما يسمى التمصير، حين قامت الدولة بشراء 51% من قيمة الشركات الأجنبية، لكي يكون لها اليد العليا في البورصة.
وبورصة الإسكندرية في منطقة المنشية، كانت هي البورصة الثانية في العالم بعد بورصة نيويورك، وتم هدمها بعد حريق مظاهرات 1977 ولم يعد لها وجود، أما بورصة مينا البصل فكانت بورصة القطن، وكانت هي البورصة الأولى في العالم.
وما زلت أذكر وأنا طفل صغير، كيف كان منظر السماسرة وهم يجلسون على الأرصفة، يشترون ويبيعون العملات لكل بلاد العالم، كانت الإسكندرية وقتها مدينة عالمية بمعنى الكلمة، وفيها كانت فروع لجميع ماركات العالم الإنجليزية والفرنسية والأميركية، وكانت كل الجاليات في العالم ممثلة في الإسكندرية، أشهرهم الجالية اليونانية والأرمنية، حتى إن اليونانيين كانوا يرون الإسكندرية مدينتهم المفضلة.
وكان موضوع “طيور العنبر” عن قصص الحب والخروج من الإسكندرية وحكايات الحزن الكثيرة، مثلا قصة “كاتينا” وهي تودع الإسكندرية، وتأخذ من كل شيء في الإسكندرية تذكارا، وتأخذ زجاجة فيها رمل من تراب الإسكندرية، وتذهب لوداع تمثال محمد علي، وتبكي، ويبكي المصريون معها، وكانت كلها قصص حب عن المصريين.
موضوعي في الرواية كان عن التسامح، التسامح الذي اختفى من المدينة من السبعينيات مع سياسة الوهابية والساداتية والسلفية، فكتبت الجزء الثالث، وكانت “الإسكندرية في غيمة” وهذا ما رأيته بعيني، وكنت أنا الولد “كروان” في الرواية .
كيف تسيطر على شخصياتك، وتتحكم فيها؟ وكثيرا ما تكرر “الشخصية تركبني” فهل معنى ذلك أن الشخصية هي التي تقودك وتوجهك؟
في الكتابة الأولى أقف عاجزا أمام شخصياتي، وكثيرا ما بكيت وأنا أحكم على شخصياتي بالموت والقتل، وأيضا كثيرا ما ضحكت، بل يحدث شيء أكبر من هذا، بعد أن أكتب الرواية أنزل أبحث عن الشخصيات في الشوارع، فعندما أكتب شخصيات مع الصدق الفني تؤثر فيّ جدا، لدرجة أنه إذا حدث لبعضها شيء أو مات أو قال جملة مؤلمة أتألم كثيرا، ومن الممكن أن أبكي أحيانا، فكل شخصية أكتبها تحفر طريقها وتجعلني أسير فيها ومنصاعا لها، لدرجة أني عندما أنتهى من كتابة الرواية أظل أبحث عن أبطالها في الشوارع فلا أجدهم، ثم أكتشف أنها من تأليفي.
هل هناك رواية عربية حديثة؟ وما ملامحها برأيك؟
الرواية العربية في تصاعد مستمر، ونفاجَأ بطفرات روائية في كثير من أبناء الجيل الجديد، وهناك رواية عربية حديثة، وأصوات أدبية واعدة، ولكن ملامحها تحتاج بعض الوقت للحديث عنها، وهناك تجديد في الموضوعات العربية، مثل المناخ والهجرة والحروب، ونرى هذا واضحا بشكل كبير جدا في الرواية السورية والرواية العراقية وأيضا اليمنية، والأحداث الأخيرة التي مرت بها هذه البلاد غيرت شكل الكتابة، والرواية السعودية والمغربية أيضا تركت أثرا كبيرا من خلال روائيين يعدون بالعشرات لهم كتابات تعبر عن واقعهم من خلال أشكال الرواية الجديدة وموضوعاتها المختلفة والمتعددة.
وهل الواقع العربي يشجع على الكتابة حاليا؟
الواقع العربي لا يشجع على شيء، لأنه واقع ملبد بالممنوعات، ولأن العالم قرية صغيرة، لم تعد الكتابة صعبة، لكن النشر هو الأصعب، من قبل كان الكتاب السعوديون وغيرهم من بلاد عربية كثيرة صعب أن ينشروا في بلادهم، الآن الأوضاع تغيرت ولو قليلا، وأصبح من الممكن أن تدخل الكتب وتخرج بدون صعوبة، والواقع بمرارته يساعد على الكتابة، لكن أنظمة الحكم كثيرا ما تكون ضد الكتابة وضد الأمل، والكارثة أن تقوم بمنع الكتب والروايات ودون أن تدري تساعد على شهرتها وذيوعها أكثر وأكثر فتنشر في بلاد أخرى، وعلى وسائل التواصل المختلفة، وتوزع مجانا أحيانا.
ما رأيك في الجوائز الأدبية الحالية؟
الجوائز لم يعد لها القيمة الأدبية التي كانت لها في الماضي، حيث كان الفوز في حد ذاته هو الجائزة، بعيدا عن القيمة المادية للجائزة، الآن الصورة انعكست، وأصبحت قيمة الجائزة في المبلغ المالي الذي يمنح للكاتب فقط، ولم يعد لها أهمية في شهرة وانتشار الكاتب، لأنها كثرت في أعدادها، حتى جائزة البوكر بما يدور حولها من لغط لم تعد شيئا مهما للأدب بشكل عام.
ماذا أنتجت خلال فترة المرض؟
خلال الفترة الأخيرة وقبل انتشار كورونا وأنا حبيس المرض كتبت ثلاثية “الهروب من الذاكرة” وهي عن السجن والسجناء بعد أن يخرجوا، ومحاولة الهروب من ذاكرة السجن، فيكتشفوا أن الواقع خارج السجن لا يختلف عن داخله، حتى أصبحت الدنيا كلها في سجن.