لا أحد يعلم -حتى الآن- الأسباب المنطقية أو الحقيقية لذلك النجاح الغامض الذي حققه ومازال يحققه فيلم “سجن شاوشانك” Shawshank Redemption رغم فشله الذريع بداية طرحه عام 1994.
فقد سجل الفيلم نجاحا يشبه الهوس في مرحلة ما قبل البث عبر الإنترنت، حيث احتلت نسخة منه أرفف “دي في دي” DVD في معظم البيوت الأميركية، ومن ثم تسلل الأعوام الأخيرة ليحتل الرقم واحد في قائمة أفضل 250 فيلما في تاريخ السينما على قائمة موقع السينما الأشهر في العالم “آي إم دي بي” (IMDB).
ولا تكمن المفارقة في عدم الاستجابة الفورية للعمل من قبل الجمهور فقط، ولكنها تمتد إلى تلك الهالة الأسطورية التي تبدو على وجه كل متابع للأفلام حين يذكر هذا الفيلم بالتحديد، في حين يشير بشكل ما إلى علاقة شخصية نجح الفيلم في بنائها مع كل مشاهد على حدة، وهو ما أشار إليه الناقد الأميركي الراحل “روجر إيبرت” حين أكد أنه رغم جماعية المشاهدة السينمائية فإن تذوق الفيلم من قبل كل مشاهد مسألة فريدة من نوعها لدى كل فرد على حدة.
لا يحمل الفيلم اسم “سجن شاوشانك” وإنما “خلاص وفداء شاوشانك” طبقا لترجمة مصطلح “Redemption” والذي يستخدم في الأدب والنقد بشكل عام للتعبير عن فكرة الخلاص أو الفداء و”Redemption Narrative” هو سردية تعويضية تشير إلى “تحدي أو فشل متعلق بالخير أدى إلى نمو شخصي”.
الاسم في هذا السياق يعني ما هو أكثر من مجرد فكرة السجن، إنه يعني أن ثمة سردية تتعلق بالاثنين معا التحدي والفشل وأن ثمة خيرا في البطل قد يكون هو “الأمل”. لكن الجزء الآخر من الاسم وهو “شاوشانك” لن يكون أيضا مجرد مسمى لسجن وإنما لحياة كاملة نولد فيها فنقابل بكتاب التعليمات الذي يمنح لنا من قبل مأمور السجن كما حدث مع “أندي” حين قال المأمور: ما يعنيني هنا هو شيئان النظام والكتاب المقدس.
والنظام هنا يعني الدولة وقوانينها، والكتاب المقدس يشير -بالطبع- إلى الدين، ولم يكن المأمور الذي يمثل الأب أو السلطة المجتمعية يستشير “أندي” وإنما يخيفه مؤكدا أن النظام والكتاب سوف يفرضان عليه بقوة “التخويف”.
الفيلم مأخوذ عن قصة للكاتب الشهير ستيفن كنغ بعنوان “ريتا هيوارث وسجن شاوشانك” وتدور أحداثه حول “أندي” (قام بدوره تيم روبنز) المدان في قتل زوجته الخائنة وعشيقها، والذي ينقل إلى سجن شاوشانك، وهناك يلتقي مجموعة السجناء وبينهم “ريد” (قام بدوره مورغان فريمان) الذي قضى 20 عاما ويتم النظر في إطلاق سراحه وفي كل مرة يتم الرفض.
يراهن السجناء بعضهم أن السجين الجديد سوف ينهار، لكنهم يخسرون الرهان، فرغم الهشاشة التي تبدو على “أندي” فإن ثمة عزيمة تكمن داخله، وتظهر هذه العزيمة بالتدريج مع التقدم زمنيا في أحداث الفيلم.
تنشأ صداقة بين “ريد” الذي يعمل بجلب احتياجات السجناء من الخارج مهما كانت نادرة، وبين “أندي” الذي يطلب منه مطرقة صغيرة لنحت الحجارة وصورة كبيرة للممثلة الأميركية ريتا هيوارث ليعلقها في زنزانته.
وبهذه المطرقة الصغيرة يبدأ في حفر الطريق إلى حريته، ويستطيع الشخص المحكوم عليه بالسجن 50 عاما أن يتم مشروعه للحرية بعد 19 عاما، لكن مشروع “أندي” للحرية لا يغير مصيره فقط، وإنما يغير مصير صديقه “ريد” الذي كان يملك القدرة على جلب كل شيء من خارج السجن، وهو ما منحه إياه “أندي” واستطاع من خلاله أن يقنع لجنة إطلاق السراح، ويغير “أندي” أيضا مصير مأمور السجن المختلس بالإبلاغ عنه قبل أن يذهب إلى حيث ينتظره حلمه.
“فداء شاوشانك” فيلم عن الأمل والعزيمة، وعن القدرة على العطاء وكيف تمنح الشخص قوة إضافية، فرغم صعوبة العيش داخل السجن، الذي يهيمن عليه اللون الرمادي حتى أنه يصعب تمييز لون السجين عن لون الحجارة، يصعب تمييز الليل من النهار نظرا لخفوت الإضاءة في السجن، فإن ثمة ألوانا زاهية تولد من رحم الحلم بالحرية في بوستر ريتا هيوارث، وفي الوعي الذي يجدده ويغرسه “أندي” في صديقه “ريد” الذي يقوم بدور “الراوي” في العمل وهو اختيار ذكي وموفق من قبل صناع العمل على اعتبار أن شخصية “أندي” ليست كما تبدو عليه من هشاشة وضعف، وبالتالي كان الراوي دائما يكمل الأقواس الناقصة في الشخصية.
يبدو النجاح البطيء الذي حققه الفيلم متسقا مع ذلك الإيقاع البطيء في داخله، والذي يعد واحدا من عوامل تلك الروعة في البناء، وإلا كيف يمكن أن يشعر المشاهد بثقل الزمن وفراغه من المعنى في سجن يأكل الأعمار.
ولعل السبب الثاني في النجاح البطيء يعود إلى ذلك البناء غير التقليدي، فالبطل الحقيقي طبقا لدراما النص هو “ريد” وهو الذي يقود التحولات، بينما الراوي الذي يواجه الجمهور بصوته وصورته هو “ريد” وقد بدا الأمر وكأن هناك صراعا داخل البناء نفسه بين اثنين من الشخصيات يبدو كل منهما بطلا في قصته الخاصة.
بدأ “أندي” وكأنه اكتشاف للسجين “ريد” الذي اعتاد على حياة السجن ولم يعد يهتم كثيرا بالخروج، لكنه -أي أندي- يتحول فيما بعد إلى “كشاف إضاءة” كي يكتشف “ريد” نفسه ويتلقى منه جرعات الأمل والتمرد على حياة “شاوشانك” القائمة على الخوف والتحول إلى نسخة من الملايين الذين يعيشون حياتهم طبقا للتعليمات دون أدنى محاولة للمقاومة أو السيطرة على مصيرهم.
وها هو في أحد مشاهد الفيلم يحذره “إنك تتحدث عن شئ خطير جدا.. أنت تقصد الأمل”.. نعم هذا الأمل الذي يعد خطا أحمر في شاوشانك، فهو يعني وجود حياة ورغبة في مستقبل يفترض أن يكون بيد حراس السجن لا المسجونين.
كان الأمل يتجلى هناك في زنزانة “أندي” حيث مطرقة صغيرة وبوستر لممثلة ترمز للجمال والحيوية يغطي أثر حفرة ينحتها “أندي” طوال 19 عاما، بينما يواجه شواذ السجن، ثم الحراس، وأخيرا يحتل مكانه في مكتبة السجن ويقرر المثابرة على طلب دعم لمكتبة السجن لسنوات حتى يستسلم المسؤولون لإلحاحه فتصبح المكتبة نموذجا، في حين أطلق سراح السجين السابق (برنكس) الذي كان مسؤولا عن المكتبة لكن الحياة خارج السجن تقضي عليه لأنه كان قد استسلم لقيم “شاوشانك” حيث الطاعة والخوف واليأس.
“أندي” الذي ثقب جدار اليأس بمطرقة لم يكن يتعامل مع ذلك الوقت البطيء دون خطط، لذلك اكتسب الزمن لديه معنى مختلفا عن غيره.
فقد نجح في الفوز بامتياز لزملائه (3 زجاجات مشروب لكل سجين) مقابل مساعدة أحد الحراس في الخلاص من ضريبة التركات، لأن “أندي” كان محاسبا قبل دخوله السجن، وهو أيضا ابن الحياة الذي استطاع أن يقدم مجازا مدهشا للأمل عندما صوره كما لو كان موسيقى لا يستطيع أحد أن ينتزعها من رأس الشخص.