صدام حضارات بين الليبرالية والإسلام أم “أصولية حرية التعبير”؟ سلمان رشدي ونقاده بعيون مثقفين غربيين
أثارت حادثة طعن الكاتب والروائي البريطاني الأميركي، سلمان رشدي، ردود فعل واسعة، وتجمع بعدها بعض من كبار وجوه الأدب الأميركي، أمثال بول أوستر وغاي تاليس، على سلم مكتبة نيويورك العامة في حي مانهاتن، لتنظيم قراءة لمقاطع من أعمال رشدي، دعما للكاتب الهندي الأصل الذي أصيب بجروح بالغة قبل أسبوعين في هجوم طعنا بالسكين.
وكان رشدي، مؤلف رواية “آيات شيطانية”، يستعد لإلقاء محاضرة يوم 12 أغسطس/آب الجاري شمالي ولاية نيويورك، حين اقتحم رجل المسرح وطعنه عدة طعنات في العنق والبطن، ونقل الكاتب في مروحية إلى مستشفى حيث تم وصله بجهاز التنفس الاصطناعي لبعض الوقت قبل أن تتحسن حالته، وأثارت الحادثة إدانة واسعة حول العالم.
ويوم 14 فبراير/شباط 1989 -وهو التاريخ الذي وصفه رشدي ساخرا بأنه “عيد الحب غير المضحك”- أصدر آية الله الخميني فتوى بإهدار دم رشدي الذي تصدر عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم على إثرها، واضطر أيضا إلى الاختباء معظم التسعينيات.
وعلى إثر الحادثة الأخيرة، اعتبر الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي أنه يجب منح جائزة نوبل في الأدب -التي سيعلن عنها أكتوبر/تشرين الأول المقبل- للكاتب سلمان رشدي الذي نقل إلى المستشفى في حالة خطرة، بعد تعرضه للطعن في الولايات المتحدة.
وكتب ليفي -في مقال نشرته صحيفة “لو جورنال دو ديمانش”- متحدثا عن رشدي “لا أستطيع تخيل أي كاتب آخر لديه الجرأة، حاليا، يستحقها أكثر منه. الحملة تبدأ الآن”.
حرية التعبير في عالم ليبرالي
وفي مقاله بموقع “ذا كونفرزيشن”، كتب الأكاديمي دانيال أوجورمان قائلا إن حادثة طعن رشدي تمت إدانتها بشكل واسع وغير مشروط، لكن بعض التعليقات حولها لجأت إلى تأطير الحادثة بطريقة مألوفة ضمن ثنائية حرية التعبير في مقابل الأصولية.
ويرى أوجورمان -الباحث في الأدب الإنجليزي بجامعة أكسفورد بروكس- أن الهجوم كان بلا شك “اعتداء على حرية التعبير”، ويستدرك “مع ذلك تحذرنا الدراسات الحديثة عن الإسلاموفوبيا من أن الرغبة المحمومة للتركيز على التطرف الإسلامي، تفسح المجال لتصور اختزالي ومبسط للعالم، حيث يتم نصب الليبرالية على النمط الغربي في مقابل ما تُسمى ’البربرية الدينية‘، خاصة الإسلامية. ويحذر الأكاديميون كذلك من أن هذا النوع من التصور للعالم يمكن أن يؤدي إلى زيادة التمييز ضد المسلمين“.
ويتابع الكاتب “رغم أن هذه الحادثة مروعة، فإنه من الضروري تجنب التصريحات المغلوطة حول صراع الحضارات، ويجب أيضًا أن نكون حذرين بشأن تبني هذا النوع من ’أصولية حرية التعبير‘ التي استغلتها شخصيات فرنسية من اليمين المتطرف مثل إريك زمور ومارين لوبان في أعقاب هجمات شارلي إبدو عام 2015″، بحسب تعبيره.
ويستخدم مصطلح “أصولية حرية التعبير” للإشارة إلى الالتزام المطلق بحرية التعبير فقط من دون إيلاء اهتمام بمفاهيم وقيم أخرى، مثل تحري الحقائق، وتحديد المصادر، والتمييز بين الوقائع والأكاذيب.
وأردف الكاتب “جادل الأكاديمي المختص بالدراسات الإعلامية، جافان تيتلي ، بأن استدعاء ’حرية التعبير‘ في الخطاب الليبرالي مؤخرا أدى في كثير من الأحيان إلى تمكين العنصرية”.
وكتب أن التركيز الكبير للغاية على مسألة “اندماج المسلمين” يتم تقديمه باعتباره معادلا “لاتخاذ موقف ضد الكنيسة الكاثوليكية في القرن الـ19، أو موقف ضد الشمولية الستالينية”، ولهذا اقترح دارسو كتابات رشدي –منذ فترة طويلة– “ضرورة دعم حرية التعبير دون اختزالها في صورة مشوهة/ كاريكاتيرية”.
ومن بين دارسي رشدي، بانكاج ميشرا، مؤلفة كتاب “المتعصبون اللطيفون.. الليبراليون والعرق والإمبراطورية” الذي ترى فيه الكاتب البريطاني من أصل هندي أحد أمثلتها وتنتقد تجاهله الفروق الدقيقة التي تكشفها الحقائق السياسية والتاريخية ورؤيته عن “لاعقلانية الإسلام”.
وتنتقد ميشرا -في مقتطف من كتابها نشرته هاف بوست الأميركية- إصرار رشدي على “العلمنة على الطريقة الفرنسية التي لا تزال صعبة التطبيق حتى في أميركا وجزء كبير من أوروبا المسيحية”، وتشير لإصراره على إلزام المسلمين بالمبادئ “العلمانية الإنسانية للعالم الحديث”، بينما وقف متشككا في شباب العالم العربي الذين تبنوا هذه المبادئ بالضبط عام 2011 خلال أحداث الربيع العربي في مصر وتونس، ومن قبل “أشرفت الأحزاب الإسلامية المنتخبة في أكبر دولة إسلامية، إندونيسيا، على الانتقال من الاستبداد العسكري إلى الديمقراطية الانتخابية”، حسب المؤلفة.
ترى المؤلفة أن تناقضات رشدي وأوصافه تجاه “الجماهير اللاعقلانية” لا يمكن أن تشرح التعقيدات الكبيرة للعالم المعاصر، بل تنتمي إلى زمن أبسط فكريا، حسب تعبيرها، حيث يمكن “الحكم على المجتمعات غير الغربية وغير المهمة سياسيا من خلال نجاحها أو فشلها في اتباع النموذج العظيم للغرب العلماني الإنساني”.
وتضيف أن “كتابة الروايات الأدبية قد تبدو كافية لجعل المرء يشعر بأنه منخرط في الجانب الصحيح من معركة أخلاقية وسياسية عالمية”، كما تقتبس من مراجعة الناقد والروائي البريطاني تيم باركس لرواية رشدي “الأرض تحت قدميها”.
“الخيانة الثقافية”
في كتابه “القوى الثقافية في السياسة العالمية”، تعرض المفكر الكيني الراحل علي الأمين مزروعي لما سماه “الخيانة الثقافية والرقابة بين عالمين” عبّر فيها عن تمزقه بين هويته الإسلامية وإيمانه بالمجتمع المنفتح.
وفي حين رفض -مدير مركز الدراسات الأفروأميركية بجامعة ميشيغن- جميع أشكال العقوبة بالإعدام في العصر الحديث وتحفظ بشدة على مسألة الرقابة والمنع، فقد رأى أن الغرب لا يفهم مفهوم خيانة شخص ما “للأمة” كما يقول المسلمون، في حين يفهمون خيانة الدولة بسهولة ويشرعون القوانين التي تعاقب عليها.
واعتبر الأكاديمي -بجامعة بينغهامتون في نيويورك- أن القرآن في حد ذاته عمل فني وهو أكثر كتاب مقروء بلغته الأصلية في تاريخ البشرية وقد أساء إليه رشدي حين سماه “الآيات الشيطانية”، معتبرا تهمة التجديف التي اتهم بها رشدي لا تتعلق بقوله إن القرآن من تأليف النبي (فهذا ما يقوله غير المسلمين عموما)، وإنما تتعلق أكثر بتلميحه أن القرآن من تأليف الشيطان، وأيضا مضيه قدما بالسخرية من أحكامه واختلاق أشياء ليست فيه.
ويقول مزروعي إن الجدل الدائر حول سلمان رشدي ينطوي على مسألة أخرى من التضارب بين الثقافات، ألا وهي التشهير. في الغرب يميل قانون القذف والتشهير إلى التركيز على الفرد، لا طائفة أو فئة من الناس، ومع ذلك فإن الكتاب الغربيين لا يمكن أن يسيروا في مسيرة داعمة لكاتب يصور السيدة مريم العذراء على أنها “مومس” أو يعتبر العشاء الأخير “حفلة جنسية جماعية”، وهذا يمكن أن يكون المكافئ الحقيقي لتجديف رواية الآيات الشيطانية وخوضه في أعراض زوجات النبي (صلى الله علية وسلم).
ويقول الكاتب إن ثمة ازدواجية غربية في التعامل مع حقوق التعبير؛ فهو شخصيا قد تعرض للمنع والرقابة في الولايات المتحدة، ففي الحلقة الثالثة بعنوان “آلهة جديدة” من المسلسل التلفزيوني -الذي أنتجه الأكاديمي الراحل لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” (BBC) بعنوان “الأفارقة: تراث ثلاثي”- تم حذف جزء من كلامه في النسخة التي عرضت بالولايات المتحدة، بينما عرض الجزء نفسه في دول أخرى أوروبية.
ويناقش الكاتب مسؤولية الأدب عن إثارة الفوضى، ويقول إنه تسبب في عنف واضطرابات في شبه القارة التي ولد فيها رشدي، حيث قضى 20 شخصا نحبهم نتيجة احتجاجات عنيفة لم يكترث لها الروائي، لافا إلى أن مثقفين هنود حذروا رشدي والناشر -الذي طبع روايته- من طبيعة عمله التفجيرية، وحذر كوشوانت سنغ مستشار دار بنغوين من أن الكتاب قد يؤدي لاضطرابات في الهند التي تعرف العديد من أحداث الشغب على خلفية دينية وقومية.
ويقول المؤلف إن المنع الذي فرضته الحكومة الهندية على الكتاب وجد دعما من مثقفين هنود كثر -بينهم هندوس وسيخ ومسيحيون ومسلمون- وكتب بعض المثقفين البارزين رسالة جماعية نشرتها صحيفة “ذا تايمز أوف إنديا” عام 1988، وجاء فيها “لا نود أن نصنع هند قمعية، بل على العكس، نحاول -بأقصى ما في وسعنا- أن نبني هند حرة يمكننا جميعا أن نتنفس فيها بحرية، ولكن لنصنع هذا علينا الحفاظ على الهند الموجودة”.
ويرى مزروعي أن جدل رواية “آيات شيطانية” ليس قضية “فن من أجل الفن”، لكن كاتبها وضع غضب المسلمين من إهانتهم في مرتبة أدنى من دغدغة القراء الغربيين، ولا يمكن إصلاح أي ثقافة عبر إهانتها، وإذ يجد الغربيون صعوبة في استيعاب غضب المتظاهرين المسلمين من الرواية، يجد المسلمون صعوبة في استيعاب ما يرونه “خيانة ثقافية” من الكاتب في مقابل مبلغ كبير من المال.