شيخ أدباء النوبة إبراهيم شعراوي في حوار غير منشور: النوبية لغة الموسيقى وهكذا وضعتها على الخارطة العالمية
بلاد السحر والخيال لا تنجب الرجال فحسب وإنما النيل والرمال والحكايات والأساطير ولغة الشفرة التي كانت لغة السر في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
إنها بلاد النوبة ولغتها الساحرة، التي تحدث عنها الشاعر الكبير “شيخ أدباء النوبة” إبراهيم بن عبد الرحمن بن شعراوي بن حسين جاسر بن أحمد كاشف المعروف بإبراهيم شعراوي، المولود بقرية “الجنينة والشباك” بالنوبة القديمة بمحافظة أسوان، في 25 يوليو/تموز 1928.
رحل شعراوي في 29 يناير/كانون الثاني 2016، وتنشر الجزيرة نت هذا الحوار الذي لم ينشر من قبل مع الشاعر الذي يمثل الشجرة العتيدة “للتراث النوبي”، ويعد “الأب الروحي لأدب النوبة”.
وإضافة لكونه عميد الأدب النوبي، فهو “الجامع الكبير” للتراث النوبي من شعر وقصص وفلكلور وحكايات وأساطير، جمعها بلغتها الشفاهية النوبية الأم، ثم ترجمها شعرا عربيا فصيحا، وأدبا إنسانيا صحيحا.
وهو حفيد الراوية النوبية الشهيرة “زينب كوتود” التي تفردت بحكايات الجدات، التي أضاف بها إبراهيم شعراوي إلى ذلك الأدب الإنساني أهم إضافاته الفريدة.
حفظ إبراهيم شعراوي القرآن بكتاب القرية، وانتقل مع فرع الأسرة إلى منطقة عابدين بالقاهرة، وانتقل من مدرسة راتب باشا الابتدائية، إلى مدرسة عابدين الخيرية، إلى كلية التجارة بجامعة القاهرة، وكان مجموعه يؤهله لكلية الهندسة، إلى أن اعتقل لعدة سنوات لانتمائه في بداياته إلى الفكر الشيوعي.
ثم التحق بأحد الأعمال الإدارية بوزارة التربية والتعليم، وانخرط في عالم الأدب وثقافة الأطفال منذ بواكير حياته منذ أسس مع أسماء كبار مثل سهير القلماوي وعبد التواب يوسف جمعية ثقافة الطفل في بداية الستينيات من القرن الـ20.
ثم سافر إلى سلطنة عمان حيث أمضى بها 20 عاما من 1974 إلى 1994، وأصدر بها معظم إبداعاته، ولقي فيها التقدير اللائق أدبيا وإبداعيا، وأصدر أكثر من 10 دواوين خاصة بشعر الأطفال، وعدة دواوين شعرية عامة أهمها “أبطال الكلمة” و”أغاني الزاحفين” و”أغاني المعركة” و”ماذا يقول أبوك عني”، وأكثر من 10 قصة ومسرحية نثرية وشعرية للأطفال، وعدة دراسات رفيعة المستوى حول النوبة وآدابها.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1987، ونوط الامتياز من الدرجة الأولى عام 1962، كما كرمه الرؤساء المصريون عبد الناصر والسادات ومبارك.
وفي بيته العامر بمنطقة عابدين (وهو المنزل الذي سكن به الشاعر الغنائي السوداني الشهير السر أحمد قدور) وبصحبة ابنه الروحي الأديب الشاعر النوبي “محيي الدين صالح”، التقيناه (في يوليو/تموز 2015) وحاورناه قبل وفاته في لقاء الود والمكاشفة وحوار المرح والمنازلة.
ما أهم الدراسات التي تناولت أدبكم النوبي أو العربي أو المترجم؟
هناك عدة دراسات نوعية وأكاديمية، أهمها دراسة الناقد الكبير مصطفى عبد اللطيف السحرتي حول روايتي “راضية”، وكذلك هناك دراسة حول هذه الرواية للدكتور عز الدين إسماعيل، ودراسة عن ديوان “أغاني المعركة” للناقد محمد مفيد الشوباشي، ودراسة عن ديوان “سرب البلشون” الصادر عام 1966، للدكتور كيلاني حسن سند، ودراسة أخرى للأديب محيي الدين صالح، وقد شاركت في هذا الديوان مع إخواني زكي مراد ومحمد خليل قاسم، وعبد الدايم طه، ومحمود شندي، وكان الجزء الخاص بي يمثل ديوانا مستقلا بعنوان “مذكرات نوبي صغير”، يفيض بالدموع على الوطن الضائع.
كما أن هناك عدة دراسات حول أدب وثقافة الأطفال للأدباء الكبار محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد التواب يوسف، ومحمود خليل، وأحمد زلط، ومحمود قاسم، كما نوقشت رسالة دكتوراه بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع أسيوط للدكتور الريدي عبد الحفيظ في مارس/آذار عام 2009م تحت إشراف الأستاذ الدكتور زهران جبر بعنوان “الاتجاه الإسلامي” في أدب إبراهيم شعراوي والدراسة التي أعدها محيي الدين صالح “إبراهيم شعراوي متصوفا”، كما أن هناك عدة دراسات أعدها أبناء النوبة الأدباء محيي الدين صالح، وحجاج أدول، وحسن نور، وإدريس علي، ومحمد سليمان حدكاب، وجمعية النوبي الثقافي.
والأهم من ذلك كله أنني استطعت -وبكل إصرار- أن أضع الأدب النوبي على خارطة الأدب العالمي المعاصر، وقدمت عدة دراسات أصبحت مصدرا أساسيا لتناول هذا الأدب خاصة الدراسة الرائدة “الخرافة والأسطورة في بلاد النوبة”، التي أصبحت مصدرا أساسيا لكل دارس وباحث بشأن أدب وثقافة النوبة وفنونها وتراثها.
هل يحمل الإنسان النوبي خصوصية معينة ضمن شخصية الإنسان المصري المحمّل بمستخلص التاريخ والدين والجغرافيا والحضارة؟
الإنسان النوبي بطبيعته إنسان مسالم، يميل ميلا فطريا إلى تفسير الأحداث وقراءة الناس من حوله، بما يساعده على أن يصنع لنفسه عالما آمنا، وإطارا مطمئنا، تتكامل فيه الأفكار ولا تتقاتل.
فبلاد النوبة هي بلاد الوصل الحضاري، في بناء هذا الوجود الإنساني بامتداد التاريخ، فالإنسان النوبي يحمل كل خصائص الشمال والجنوب والنيل والصحراء إلى جانب خصائصه التراثية الخاصة .
ابن الثقافة الإسلامية، وشاعر القيم، وسفير بلاد النوبة، كيف اتجه إلى الفكر الشيوعي في بداياته الأدبية؟
الفكرة الشيوعية بالنسبة لجيلنا كانت فكرة براقة، وأخاذة، بالذات لمن نبت في مثل بيئتي التي يدور الصراع فيها بين المالك والمحروم، فمن في مصر لم يكن يعرف عم عثمان البواب، أو الخادم النوبي.
وغير العارفين باللغة النوبية لا يعرفون المخزون المحزن لدى أهل النوبة من المظالم وصراع الهوية الذي يحمله النوبيون في تراثهم ويرثونه جيلا بعد جيل، كما أن الفكر اليساري كان هو الجو العام المسيطر على الثقافة المصرية حينئذ.
ولكني لم أتورط أبدا في أي خلل بشأن رؤيتي الإسلامية أو عقيدتي أو إيماني وتوحيدي، أو حبي البالغ للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم تكن الفكرة الشيوعية بالنسبة لي سوى أحد جوانب العدالة والمساواة وتعظيم قيمة العمل.
في بعض كتاباتك العلمية حاولت إسقاط الفكر الشيوعي على البيئة النوبية؟
كل شيء هنا في الربوع النوبية جماعي ومشترك. وهنا أعذب لغة في العالم، لغة كل حروفها موسيقى، فهي لغة تغني وتعزف، قبل أن تحكى وتنطق.
وهنا بلاد التكافل والتعاون، وهنا أكبر أسرة منذ عرفت الحياة طريقها على هذه الأرض، أسرة عدد أفرادها يقارب 5 ملايين نسمة، تسكن حجرة واسعة، جدارها الشمالي هو الشلال الأول، وجدارها الجنوبي عند الشلال الرابع، فالنيل هو صانع النوبة، وملون وجدان النوبيين، وقد انعكس النيل بشكل هائل على أهل النوبة وجودا وثقافة وتراثا وإبداعا.
بلادي هي بلاد الإيمان والإيقاع والفنون الشعبية والشمس المشرقة، وهي بلاد تحتضن النيل بما يقارب 140 كيلومترا في بلاد مسكونة بالسحر والخيال والحكايات والأساطير من قرى “دابود” و”دهميت” وأميركاب” و”كلابشة ” و”أبو هور” و”قرشة” و”البركة” و”السيالة” و”المضيق” و”وادي العرب” و”شاترمة” و”المالكي” و”السنقاري” إلى “خشم القرية” و”أبو حنظل” و”قسطل” و”أدندان”.
وأحمد الله أنني واحد ممن جعلوا من جمع التراث النوبي والحكايات الشعبية النوبية قضية أساسية، ذات بعد وعمق ثقافي عالمي لا تقل أهمية عما قام به “الأخوان جريم” في جمع الحكايات الشعبية الألمانية، وهو ما خلدهما في التراث الإنساني العالمي، وهي المدونة، ذات المجلدات الثلاث والمعروفة باسم (The kinder-und Hausmarchen)، وقد طبعت ببرلين ما بين عامي 1812 و1822، وكانت مصدرا رئيسا في دراسة الفلكلور والهوية.
فالتراث يساوي الهوية، وأذكر أن أساتذة التراث والفلكلور الكبار من أمثال أحمد رشدي صالح والدكتور عبد الحميد يونس والشاعر الكبير فوزي العنتيل، وتوفيق حنا، قد طلبوا مني بشدة أن أضاعف جهودي في إنقاذ وجمع التراث النوبي، خاصة بعد الخوف الشديد من الهجرة الجماعية النوبية بسبب تغطية (طوفان) السد العالي لمساحات واسعة من الأراضي النوبية.
واعتقد أنني قمت بذلك الجهد الوطني والإنساني قدر الطاقة، في حماية التراث النوبي من التلاشي والضياع.
هذه هي بيئتي وهذا هو بيتي الكبير الذي تكونت فيه ذاتي وصفاتي.
ولكن هذا لا يعني أبدا أن جماعية الحركة والإنسان والمجتمع تعني يساريته أو شيوعيته أو ماركسيته. إنما ذلك يؤصل رؤيتي التي أشرت إليها سابقا، في أن الفكرة الشيوعية لي، لم تكن سوى سياق اجتماعي واقتصادي، لتحقيق العدالة، في بيئة ومجتمع يفتقد إلى أدنى مبادئ العدالة والمساواة وفي مثل هذا المجتمع المهيض كنت أقول:
كـل شيء في بلادي يتغنى حين يهمــــــــــــــس
ينطق الليل الذي كان بغير الهمس أخـــــــــرس
ولا يمكن أبدا لإنسان كهذا الذي تراه أو بيئة كهذه التي أوضحتها أن تكون حاضنة أو راعية للفكر الشيوعي، الذي يقوم أول ما يقوم على إنكار الألوهية ورفض الدين، وإلغاء المطلق، وتحويل الإنسان إلى ترس دوار في ماكينة الوطن، ولكني معجب في السياق اليساري بإنسانية “تولوستوي” وثورية “بوشكين” وغيرهم من الأدباء والشعراء الروس، كما أنني معجب كذلك بمئات المبدعين من أنحاء العالم ممن قرأت لهم أو ترجمت عنهم أدبا أو فكرا أو تراثا ذا مضمون وقيم، ورسالة صحيحة وصالحة لبناء الإنسان وتحقيق إنسانيته في هذه الحياة.
لكنك رغم اعتقالك في بدايات حياتك على ذمة قضايا الشيوعيين تصر على إسلاميتك، بل وإسلامية بلاد النوبة، وتؤكد ذلك بإسلامية إبداعاتك كلها
ظلت بلاد النوبة فترة من الزمن تقاوم العرب ولا تقاوم الإسلام، ثم عقدت معاهدة بين عبد الله بن أبي السرح وملك النوبة، وبحسن الجوار والحوار أهدى ملك النوبة لعبد الله بن أبي السرح منبرا للصلاة، وبعث معه نجارا يسمى “فيكتور” وظل هذا المنبر موجودا بمسجد عمرو بن العاص إلى عهد زاد قرّة بن شريك، وباختلاط الدماء وشيوع الإسلام في مصر، أصبحت النوبة -وهي كذلك إلى اليوم- مسلمة 100%.
وأنا واحد ممن يفاخرون بنوبيتهم وإسلامهم في كل آن. ولي في ذلك مئات القصائد، ومنها تلك القصيدة الشهيرة “يا حبيبي يا نبي” التي أقول منها:
أمض في الصحراء يا حادي المطىْ
إن بـــي شـوقا إلى أرض النبي
أنــــا نـوبــيٌّ وفي نوبيتـي
شفة الزنـج، وأنـف الحبـــشي
يــا رســـول الله قــد علمتني
أن في الأجنـاس لا فضــل علـيّ
أنــت لـي فجــرٌ ربيـعـيٌّ إذا
عشش الليل هنــا في مقلتـــيّ
أنا من طـين، وذو التيجـان والـ
قصر من طـين، ومنــه كـل حيّ
وفقيــر، هـل تـرى يفضلنــــي
في طريق الفــوز والخـلد غنيّ؟
مسلــم، قلبي وروحـي ويـدي
وضميري، مسلم في كــل شي
مســلم أحــلم أن تقبلنـــي
في رعايــاك، وأن تحنــو عليّ
يا يدا تمتـد من خـلف الدجـى
خـذ بكفـي، يا حبيبـي يا نبي
فهل يمكن أن يعقل عاقل، أن يقول هذا الكلام شيوعي أو ماركسي، فالشيوعيون يرون في الإسلام -رسولا ورسالة- عدوهم الأول والأخير.
ولعلك الآن قد أثرت شجوني عن ذكرياتي يوم استقبلنا العلامة الشيخ نديم الجسر صاحب “قصة الإيمان” بندوة العلامة الشيخ الدكتور “محمد بن فتح الله بدران” أستاذ التفسير المعروف، وتسابقنا نحن شعراء وخطباء وأدباء الندوة البدرانية في الترحيب بالشيخ نديم الجسر المفتي اللبناني الأشهر، وكان مما قلت تلك الليلة:
أنا بالحب هنا جئت أحيـي
يا نديمي بين كاسات النبيّ
أيها الجسر الذي نعبره
نحو فيض الله والنور الزكـيّ
جئت تحكي “قصة الإيمان” هيا
في جلال الدين نمضي بالرويّ
وكان ذلك في 26 ذو القعدة لعام 1383هـ الموافق للتاسع من فبراير/شباط لعام 1964 أي في قمة المد الأحمر في مصر المحروسة.
وأشبعنا أجواء العروبة والإسلام، إنشادا وتغريدا وقولا ومقيلا، مع الفحول من أمثال محمود جبري ومحمود الجرف ومحمود الماحي ومحمد بدر الدين وأحمد عمر هاشم.
وماذا بعد حقبة الفكر الشيوعي؟
كل فكرة تقاس عوامل سقوطها أو نجاحها في إطارها الزمني، وقد كنا في صدر الشباب نتبارى على منصة الوطنية، بمدى انغماسنا في هذا الفكر وكنا جيلا من ذوي القدرات والمواهب الخاصة من أمثال عبد التواب يوسف ونتيلة راشد وسهير القلماوي وإبراهيم عزوز ووصفي آل وصفي وإبراهيم يونس وعبد البديع قمحاوي، ضمن مجموعة جمعية “ثقافة الأطفال” التي أنشأناها بالقاهرة عام 1968، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الأعلام الذين نزلوا للكتابة إلى الطفل، أو قل ارتفعوا للكتابة له من أمثال محمد عبد الغني حسن، وعبد السلام العشري، ومحمد عطية الإبراشي وسعيد العريان، وسيد قطب، وعبد الحميد جودة السحار، وغيرهم.
ورغم أنني انغمست في الفكر الشيوعي فترة من عمري واعتقلت على ذمة هذا الفكر بضع سنين، ولم أكمل بسبب هذا السجن تعليمي الجامعي، حيث سجنت وأنا بالسنة الثانية بكلية التجارة جامعة القاهرة، فإن هذا الفكر لم يتبق منه لدى سوى فكرة العدالة والمساواة.
ثم وجدت بعد ذلك أن الإسلام هو السقف الأعلى لكل الرؤى الإصلاحية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
وقد مررت بكل ألوان الفكر وطالعت كل الصفوف والتيارات وكنت أتجول كذلك وأنا أحمل النوبة في قلبي أينما ذهبت، فأنا لا أرى النوبة نوبة واحدة بل أرى وادي النيل أمة واحدة، يمثل النهر الخالد شريانها الحي.
والإنسان النوبي رجل يزرع الأمل والرضا والطمأنينة أينما حل أو رحل، وفي ذلك أقول:
هاجر النوبي في مأساته لم يكن يحمل إلا أدمعـــه
ونشيد الله في أعماقـه يزرع الأمن وآمال الدعه
وأحمد الله أنني كنت واحدا من شعراء مجلة “المسلم” منذ شبابي الباكر، وهي المجلة التي تصدرها “العشيرة المحمدية” والتي يقف لها إماما العلامة الشاعر الفقيه المجدد الشيخ محمد زكي إبراهيم، وكانت المجلة تصفني “بأبي الإلهام”، وأشعاري الإسلامية بها تمثل ديوانا قائما بذاته.
لو أعطيتنا فكرة عن ترجماتكم في الآداب العالمية؟
لقد ترجمت من النوبية إلى العربية أكثر من 100 حكاية وأسطورة، من أهمها “حكايات الجدات” كما ترجمت من الإنجليزية قصيدة الشاعر البرتغالي “جوليو روبرتو”، وهي رسالة من زعيم الهنود الحمر إلى الإنسان الأبيض، وقد رأيت فيها نقطة التقاء إسلامية، ومساحة اشتباك إنسانية بين الحضارة النوبية والحضارة الغربية وأين يقع منهما الإنسان المطحون، وقد طبعت بتقديم رائع من أديب الأطفال العالمي عبد التواب يوسف، وهي قصة متماهية مع النوبيين وقد أرغموا على ترك ملاعب الصبا وظلال النخيل، إلى حياة صعبة بائسة.
وأنت في أجزاء كثيرة من القصة تكاد تصغي لحديث زعيم الهنود الحمر فتشم رائحة عذابات النوبيين السمر ومنها أقول:
كــل ما قد كــــــان مـــــن ظلم وقســــــوة وعذابــــــات وأحقاد وجفــــــــــوة
ســـوف تمحـوه الليالـي يا صديقي من طريقي فأخْطُ نحو الحب خطوة
ربمـا كنا برغـم الليــل والأغـــــــــــلال والإعصـار بين الناس إخــــــوة
كما ترجمت عشرات المسرحيات والقصائد عن الأدب الإنجليزي، لعل من أهمها قصيدة الشاعر الزنجي المسلم إبراهيم بن إسماعيل عن “رمضان” وهي منشورة بالعدد 19 من مجلة “المسلم” في يوليو/تموز 1966 وأقول فيها:
إن شوقي وأنا أحيا بأرض مسلمــــــة
لم يعد يذكر دنيا الغرب مثل الهمهمة
يا بلاد الخير والإسلام دين المرحمة
لي أخ ضاع بأمواج الليالي المعتمة
كان ويلي يشحذ الخبز ويشفي ألمه
ها هنا في مصر أو في أي أرض صائمة
ومضى شعلة نار في الليالي المظلمة
إلى آخر القصيدة الطويلة
لكن كل ترجماتي إنما هي ترجمات انتقائية حيث أشرف بأنني كنت أمين سر الثقافة النوبية، فترجمت منها ذلك التراث الشفاهي الضخم، ما يزيد على 100 قصة وأسطورة. كما ترجمت من الآداب العالمية أعمالا ذات قيمة فكرية أو إنسانية.
ولعل من أهم هذه التراجم ترجمتي لأشعار روبرت لويس وسيد فشورز “وداعا أيتها المزرعة” Farwell to the farm.
وفيها أقول:
وداعا وبعد انتظار طويل أمام البيوت أتت مركبة
لتحملنا نحو سوق كبير تدافع أطفالنا للركوب
وأيديهم تتلاقى، وهم ينشدون بصوت قوي معا:
وداعا لكل الذي حولنا
وداعا لتلك البيوت
وهذي المروج وتلك الحقول
وداعا لألعابها عند أبوابها
ويا كم تأرجح صحبي
وداعا خراطيم سقي النبات
وكل الدواب
وألعابنا بفروع الشجر:
وداعا لكل الذي حولنا
كما ترجمت له أيضا أغنية فريق الكشافة “المشية المنظمة” Marching Sons
حضّر المزمار والطبل الكبير
ومع الأنغام في الدرب نسير
يتباهى “ويبلى” بالقبعة
وهنا “جوليلي” والطبل معه
إننا حول قرانا الآن نأتي
نتلاقى في وداد من جديد
آن أن نرجع يا صحبي لبيتي
مطمئن الخطو بالعام السعيد
وماذا عن عطائكم بالنسبة لأدب الطفولة والأطفال؟
الطفولة والأطفال هما رأس مالي الثقافي، وقد نذرت نفسي لأنبل رسالة، وهي (تقويم النشء) و”تفصيح” و”تثقيف” الأطفال منذ نعومة أظفارهم، فقدمت شعرا “حكايات وأغاني على حروف الهجاء” في 4 أجزاء وقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1998، الجزء الأول من أ إلى خ، والثاني من د إلى ص، والثالث من ض إلى ق، والرابع من ك إلى ياء وهو ديوان ضخم من 4 أجزاء يعني بشرح فلسفة الحروف، ومنح الأطفال القدرة على الإحساس بجمالياتها، كما يقدم لهم قصصا شعريا ممتعا، وقيما اجتماعية سامية، تسهم في صياغة وإعداد أجيال المستقبل.
وقدمت كذلك أوبريت “الذئب” وهو حاصل على جائزة عيد الطفولة عام 1981، كما قدمت أوبريت “الوسام” و”الثعلب والسلحفاة” الحكيمة، وقواعد المرور، والمسرحية الشعرية “الأسد والبهلوان، وانتصار الحمار، ووادي القرود، ومسرحية شعرية من 3 فصول، باسم “أين عنزانه” وهي مطبوعة بسلطنة عمان، ومئات الأناشيد الخاصة بالأطفال في المناسبات المختلفة، وقدمت حكايات جحا شعرا، وأشعارا للصغار حول النار والأخطار، وهو من مطبوعات مجلس التعاون لدول الخليج العربية (أسبوع المرور).
كما أصدرت سلسلة “قصص ثقافية للناشئة” عن وزارة الشباب بمصر أيام الجمهورية العربية المتحدة مثل “الخالة صالحة” و”الطفل الذي رأى الدنيا كلها” و”التفاحات المغردة”، والعصفور الذهبي” و”ماء الحياة” و”الهدايا المسحورة” و”نهاية أسد” و”أبو زيد الهلالي” ومغامرات ثعلب” و”الكلب والحمار”، و”راضية”، كما أصدرت أكثر من 30 قصة بالاشتراك مع آخرين مثل: وصفي آل وصفي، وإبراهيم عزوز، وغيرهم، إضافة إلى التراث القصصي والأسطوري النوبي في أعمال مختلفة مثل المدونة المتفردة “حكايات الجدات” التي جمعت فيها عيون التراث القصصي النوبي الشفاهي رواية عن جدتي “زينب كوتود” راوية التراث النوبي الشهيرة.
كثيرا ما تعتز بعطائك على مستوى الأدب النوبي فهل هناك أصلا ما يسمى بالأدب النوبي؟ وما أهم ذلك النتاج الخاص بكم؟
لعل المرجع الأساسي والدراسة الأم التي قدمتها عن “الخرافة والأسطورة” في بلاد النوبة، وطبع عام 1994 وأعيد طبعه عدة مرات وهو دراسة ضخمة قدمت نصوصها بالنوبية وترجمتها إلى العربية.
وقدمت النوتة الموسيقية المصاحبة للنماذج التي قدمتها، بما تحمله من إيقاع نوبي متفرد، كما قدمت النوبة و”حوار الثقافات” وعقدت فيه مقارنة بين حكايات الجدة “زينب كوتود” من النوبة، وحكايات الأخوين “جريم” من ألمانيا، وعوامل المشترك الفلكلوري الصانع للهوية والتميز، والأصالة والوجود، كما أنني صاحب أول دراسة وثائقية عن “النوبة” وقد حصلت على عدة جوائز وقد صدرت عام 1950 وأنا ابن 21 عاما، وأعتبر نفسي متحدثا رسميا لبلاد النوبة بكل ما تحمله من تراث وفكر وأدب وحضارة وثقافة على كل المستويات السياسية والاجتماعية، المحلية والدولية، وأهل النوبة جميعا يعتبرونني كذلك.
وقد منحني النادي النوبي “درع النوبة” عام 2004، كما أنني أحمل صفة النوبية وشاحا دائما على صدري وتاجا براقا على رأسي وليست هذه عنصرية أبدا إنما هي إنسانية الإسلام وأخوته.