الفيلم الفرنسي الدرامي الرومانسي “صباح جميل” (One Fine Morning)، الفائز بجائزة مهرجان كان السينمائي لأفضل فيلم أوروبي، وأحد أجمل عروضه لعام 2022، من إخراج ميا هانسن لوف، وبطولة النجمة الفرنسية ليا سيدو، التي تألقت في تقديم دراما مؤثرة أمام المخضرم باسكال غريغوري.
ويأتي الفيلم ضمن موجة الأفلام الدرامية المفعمة بالمشاعر الإنسانية، المعنية بإشكالية العلاقة بين الابنة ووالدها المصاب بـ”الخرف“، وما قد تعيشه من صراع بين حياتها العملية والعاطفية، وتمسكها بالبقاء بجوار أبيها في محنته.
وقد كان من أشهر هذه الأفلام فيلمان في عام 2020، وهما “الأب” (The Father)، بطولة النجم البريطاني سير أنتوني هوبكنز؛، و”الطرق التي لم نسلكها” (the roads not taken) بطولة النجم الإسباني خافيير بارديم.
ويعد “صباح جميل” الفيلم الثاني -بعد فيلم “والد أطفالي” (Father of My Children) 2009- للكاتبة والمخرجة الفرنسية الشابة هانسن لوف (مواليد 1981) الحائزة على 10 جوائز سينمائية عالمية، بالإضافة إلى 31 ترشيحا آخر؛ الذي تفسح فيه مساحة كبيرة للآباء في قالب “يتميز بحلاوة المزج بين السعادة والحزن”.
ويتجلى ذلك في هذا الفيلم العاطفي، الذي تدور أحداثه على مدى ساعة و52 دقيقة حول التساؤل عن “سر ما يريده القلب، وما يمكن أن يقدمه في المقابل”، كما يقول الناقد بيتر برادشو.
الأبواب العاطفية المغلقة
“صباح جميل”، حكاية تدور في باريس، التي تصورها هانسن لوف بخفة ورشاقة تظهر معالمها بنعومة ومن دون ابتذال، حول امرأة “تنحني ولا تنكسر”، وتقاوم الصعاب بتعديل أولوياتها، والسماح لنفسها بالحب، الذي يهوّن عليها بعض الأوقات التي لا تحتمل.
و”تظل تتصرف ببداهة وعاطفة عميقتين، حتى تجذبنا إلى شخصيتها المحاصرة، وعينيها المليئتين بالإرهاق، وكتفيها المنحدرتين قليلا، وتعبيراتها التي توحي بأنها تكاد تكون على حافة الانهيار من اليأس؛ كل هذا، من دون أن تضع نفسها في موضع شفقة، ولو للحظة؛ فهي ليست شهيدة أو ضحية، لكنها إنسانة وحيدة تتوق للكبرياء”، على حد وصف الناقد جون فروش.
في اللقطة الافتتاحية، لا يستغرق الأمر بضع ثوان للتعرف على ساندرا (ليا سيدا) بوصفها امرأة تشق طريقها في شارع باريسي، ببنطال من الجينز، وشعر قصير “يجعلها تبدو عملية، أكثر منها متأنقة أو متصابية”، كما يقول برادشو.
ساندرا -التي توفي زوجها قبل 5 سنوات- لديها ابنة عمرها نحو 8 سنوات، اسمها لين (الطفلة كاميل ليبن مارتينز)، وتعمل ساندرا في مجال الترجمة الفورية، من الإنجليزية والألمانية إلى الفرنسية، في المؤتمرات والاحتفالات والمناسبات المختلفة.
تبدو البطلة شخصية مهنية ذكية وماهرة دفعتها ظروف ما نحو هامش الحياة قليلا، واضطرتها إلى إغلاق أبواب قلبها العاطفية ضمن الخسائر التي نزلت بها جراء تفرغها وتفانيها في رعاية والدها المسن المريض، البروفيسور جورج (الذي يلعب باسكال غريغوري دوره بجمال نادر)، أستاذ الفلسفة، الذي يعاني “متلازمة بنسون“؛ التي تعد أحد أشكال “الخرف” وتتسبب في فقدان البصر وتدهور القدرات العقلية تدريجيا.
أرملة شابة وحب بعيد المنال
حاولت ساندرا -بإيعاز من والدتها فرانسواز (نيكول غارسيا) المنفصلة عن والدها- إرسال الرجل المسن المحزن والمربك إلى دار رعاية خاصة، لكنها أصيبت بردود فعل صادمة، وانتابتها حالة من الفزع والحزن، عند رؤية هذه الأماكن التي تخيلت كم ستكون مروّعة بالنسبة لأبيها، حتى يئست من العثور على مكان أفضل، يليق بحياته التي عاشها قبل مرضه.
وفي خضم هذه المشاعر المشحونة والمعقدة التي تجتاحها، والتي تحتاج إلى ما يشبه المعجزة لتجاوزها، وبالتوازي مع هذا كله، تقابل ساندرا صديقا قديما يمشي مع ابنه الصغير في الحديقة من دون أن تتوقع أن تقدح هذه المصادفة شرارة فورية في حياتها الكئيبة تجرفها نحو خطأ مع رجل متزوج، لا يمكن أن يستمر في علاقة معها.
وهكذا تتمزق ساندرا بين رجلين بعيدي المنال عاطفيا بالنسبة لها، الأول والدها المريض، الذي تربطها به كيمياء جميلة، لكنه يجرح مشاعرها عندما تزوره فينسى من هي وأين هم، في الوقت الذي يبدو فيه أكثر سعادة برؤية المرأة التي أحبها بعد انفصاله عن والدتها، رغم أنها لم تفعل الكثير لمساعدته في وضعه الحالي، لدرجة تجعل ساندرا تشعر أن كتب والدها ومؤلفاته التي تعج بها الأرفف من الحائط إلى الحائط أقرب إليها منه هو نفسه.
أما الرجل الثاني، فهو صديقها السري الجديد، كليمان (ملفيل بوبود)، الذي كانت تشعر تجاهه بضعف حقيقي ورومانسية جارفة، وبعد أن أغرقها في مشاعره، إذا به يكافح لتحرير نفسه من أي إحساس بالالتزام الأخلاقي نحوها، لأنه لا يزال على صلة بزوجته، والدة ابنه.
صفاء حزين ملون بإيمان هادئ
“في الوقت الذي يولي فيه عدد قليل من المخرجين اهتماما بمرور الوقت، والتغييرات المصاحبة له، وكيف نظل نتعثر ونتعثر، حتى نتأقلم في النهاية”، كما يقول الناقد ديفيد ايرليش، تتوقف هانسن لوف في فيلمها “صباح جميل” -بالفرنسية (Un beau matin)- “أمام منعطفات الحياة وكوارثها، فضلا عن أفراحها غير المتوقعة”، وفقا للناقد فروش.
بالضبط، كما فعلت في فيلم “بيرغمان آيلاند” (Bergman Island) 2021، ومن قبله فيلم “أشياء ستأتي” (Things to Come) 2016، بالفرنسية (L’avenir)، تأتي تلك المقطوعة السينمائية الشاعرية الجميلة والمؤلمة في الوقت نفسه، والأكثر حصدا للجوائز.
عودتنا لوف على أن تلتقط موضوعات مما تستكشفه خلال حياتها المهنية، مثل الحب والموت، الحسرة وقلة الحيلة، العلاقات بين الوالدين والأبناء، البحث عن معنى الاستقلال، القوة الداعمة للشغف، وخصوصا في فيلمها الجديد الأكثر تعقيدا من الناحية العاطفية والفلسفية، وكذلك من ناحية أعباء الرعاية الصحية، ونقل الثقافة من جيل إلى جيل.
ولأن هانسن لوف “قارئة ثاقبة للقلب والعقل البشري”، فهي ليست مهتمة بمعاقبة شخصياتها أو جمهور المشاهدين، وجاء فيلمها الجديد على نحو “دافئ وحيوي، وحافل بلمسات سريعة من الفكاهة اللاذعة، بالتناوب مع كثير من الأحداث القاتمة، ولكن من دون أثر للميلودراما أو البؤس”.
فعلى الرغم من الإجهاد والمعاناة كما يظهر على الشاشة، فإن “الحالة المزاجية السائدة، هي صفاء حزين ملون بإيمان ملِح وهادئ بأن الحياة سوف تستمر بالفعل”، كما يقول فروش.